کتابخانه
282

هذا هو القانون الأساسي الذي يزعمه الديالكتيك صالحاً لتفسير الطبيعة والعالم، وتبرير الحركة الصاعدة وما تزخر به من تطوّرات وقفزات. فهو حين أقصى من فلسفته مفهوم المبدأ الأوّل، واستبعد بصورة نهائية افتراض السبب الخارجي الأعمق، وجد نفسه مضطرّاً إلى إعطاء تبرير وتفسير للجريان المستمرّ والتغيّر الدائم في عالم المادّة؛ ليشرح كيف تتطوّر المادّة وتختلف عليها الألوان، أي: ليحدّد رصيد الحركة والسبب الأعمق لظواهر الوجود، فافترض أنّ هذا الرصيد يوجد في المحتوى الداخلي للمادّة، فالمادّة تنطوي على التموين المستمرّ للحركة. ولكن كيف تملك المادّة هذا التموين؟ وهذا هو السؤال الرئيسي في المشكلة التي تجيب عنه المادّية الديالكتيكية، بأنّ المادّة وحدة أضداد ومجتمع نقائض. وإذا كانت الأضداد والنقائض كلّها تنصهر في وحدة معيّنة، فمن الطبيعي أن يقوم بينها الصراع لكسب المعركة، وينبثق التطوّر والتغيّر عن هذا الصراع، وبالتالي تحقّق الطبيعة مراحل تكاملها عن هذا الطريق.
وعلى هذا الأساس تخلّت الماركسية عن مبدأ عدم التناقض، واعتبرته من خصائص التفكير الميتافيزيقي ومن اسس المنطق الشكلي، المتداعية بمعول الجدل القوي، كما يقرّر كيدروف قائلًا:
«نفهم بكلمة المنطق الشكلي المنطق الذي يرتكز فقط على قوانين الفكر الأربعة: الهوية، والتناقض، والعكس، والبرهان. والذي يقف عند هذا الحدّ. أمّا المنطق الديالكتي فنحن نعتبر أ نّه علم الفكر الذي يرتكز على الطريقة الماركسية المميّزة بهذه الخطوط الأساسية الأربعة: الإقرار

281

2- تناقضات التطوّر

قال ستالين:

«إنّ نقطة الابتداء في الديالكتيك- خلافاً للميتافيزية- هي وجهة النظر القائمة على أنّ كلّ أشياء الطبيعة وحوادثها تحوي تناقضات داخلية؛ لأنّ لها جميعها جانباً سلبياً وجانباً إيجابياً، ماضياً وحاضراً، وفيها جميعها عناصر تضمحلّ أو تتطوّر. فنضال هذه المتضادّات … هو المحتوى الداخلي لحركة التطوّر، هو المحتوى الداخلي لتحوّل التغيّرات الكمية إلى تغيّرات كيفية»[1].

وقال ماو تسي تونغ:

«إنّ قانون التناقض في الأشياء، أي: قانون وحدة الأضداد، وهو القانون الأساسي الأهمّ في الديالكتيك المادّي …

قال لينين: الديالكتيك بمعناه الدقيق هو: دراسة التناقض في صميم جوهر الأشياء …

وكثيراً ما كان لينين يدعو هذا القانون بجوهر الديالكتيك، كما كان يدعوه بلبّ الديالكتيك»[2].

 

[1] المادّية الديالكتيكية والمادّية التأريخية: 22

[2] حول التناقض: 4

280

ما تريد إذا أخذنا بالفلسفة المثالية، وقلنا: إنّ الواقع هو الحقيقة الموجودة في ذهننا فحسب، فإذا كانت الحقيقة في فكرنا متطوّرة ومتغيّرة، فلا متّسع للإيمان بواقع مطلق، وأمّا إذا فرّقنا بين الفكرة والواقع، وآمنّا بإمكان وجود واقع بصورة مستقلّة عن الوعي والتفكير، فلا ضير في أن يوجد واقع مطلق خارج حدود الإدراك وإن لم توجد حقيقة مطلقة في أفكارنا.

279

مجموعة نظريات وقوانين، ومعنى تكامله كذلك زيادة حقائقه وقلّة أخطائه كمياً.
وأخيراً نريد أن نعرف ماذا تستهدف الماركسية من تطوّر الحقيقة، إنّ الماركسية ترمي من وراء القول بتطوّر الحقيقة، وتطبيق الديالكتيك عليها إلى أمرين:
أوّلًا- نفي الحقيقة المطلقة؛ لأنّ الحقيقة إذا كانت في حركة ونموّ دائمين، فلا توجد حقائق ثابتة بأشكال مطلقة، وبالتالي تتهدّم الحقائق الثابتة الميتافيزيقية التي تدين بها الإلهية.
ثانياً- نفي الخطأ المطلق في سير التطوّر العلمي. فالتطوّر العلمي في عرف الديالكتيك لا يعني أنّ النظرية السابقة خطأ بصورة مطلقة، بل هي حقيقة نسبية، أي: أ نّها حقيقة في مرحلة خاصّة من التطوّر والنموّ. وبهذا وضعت الماركسية ضمانات الحقيقة في مختلف أدوار التكامل العلمي.
وينهار كلا هذين الأمرين على ضوء التفسير الصحيح المعقول للتطوّر العلمي بالمعنى الذي شرحناه. فهو بموجب هذا التفسير ليس نموّاً لحقيقة معيّنة، بل انكشافات جديدة لحقائق لم تكن معلومة، وتصحيحات لأخطاء سابقة، وكلّ خطأ يصحّح هو خطأ مطلق، وكلّ حقيقة تستكشف هي حقيقة مطلقة.
أضف إلى ذلك: أنّ الماركسية وقعت في خلط أساسي بين الحقيقة بمعنى الفكرة، والحقيقة بمعنى الواقع الموضوعي المستقلّ. فالميتافيزيقا تعتقد بوجود حقيقة مطلقة بالمعنى الثاني، فهي تؤمن بواقع موضوعي ثابت وراء حدود الطبيعة، ولا يتنافى هذا مع عدم ثبات الحقيقة بالمعنى الأوّل وتطوّرها المستمرّ، فهب أنّ الحقيقة في ذهن الإنسان متطوّرة ومتحرّكة أبداً ودائماً، فأيّ ضرر يلحق من ذلك بالواقع الميتافيزيقي المطلق الذي تعتقد به الإلهية، ما دمنا نقبل إمكان وجود واقع موضوعي مستقلّ عن الشعور والإدراك؟! وإنّما يتمّ للماركسية

278

إلى غير ذلك ممّا قام دليلًا عند جملة من الفيزيائيين المتأخرين على خطأ المفهوم (النيوتني) للعالم. وعلى هذا الأساس وضع (آينشتين) نظريته النسبية التي صبّها في تفسير رياضي للعالم، يختلف كلّ الاختلاف عن تفسير (نيوتن)، فهل يمكننا أن نقول: إنّ نظرية (نيوتن) ونظرية (آينشتين) في تفسير العالم، نظريتان حقيقيتان معاً، وإنّ الحقيقة تطوّرت ونمت، فأصبحت في قالب النظرية النسبية، بعد أن كانت في قالب الجاذبية العامّة؟! وهل الزمان والمكان والثقل، هذا الثالوث الثابت المطلق في تفسير (نيوتن)، هو الحقيقة العلمية التي نمت وتحرّكت طبقاً لقانون التطوّر الديالكتي، فتبدّلت إلى نسبية في الزمان والمكان والثقل؟! أو هل القوّة الجاذبية في نظرية (نيوتن) تطوّرت إلى انحناء في الفضاء، فأصبحت القوّة الميكانيكية بالحركة خاصّة هندسية للعالم، تفسّر بها حركة الأرض حول الشمس، وسائر الحركات الاخرى، كما يفسّر بها انحراف الأشعّة النوريّة؟!

إنّ الشي‏ء الوحيد المعقول هو: أنّ دقّة التجارب أو تضافرها أدّى إلى ظهور خطأ النظرية السابقة، وعدم تمثّل الحقيقة فيها، والتدليل على تمثّل الحقيقة في تفسير آخر جديد[1].

وهكذا يتّضح في النهاية ما أكّدنا عليه: من أنّ التطوّر العلمي لا يعني أنّ الحقيقة تنمو وتتدرّج، وإنّما معناه تكامل العلم، باعتباره كلًا، أي: باعتباره‏

 

[1] قارن ما ذكرناه بالتفسير الماركسي للتحوّل في علم الميكانيك، الذي قدّمه الدكتور( تقي آراني) في كتابه( ماترياليسيم ديالكتيك) الصفحة 36- 37؛ إذ أقامه على أساس وجود الحقيقة في ميكانيك( نيوتن) والميكانيك النسبي معاً، وتطوّرها فيهما طبقاً للديالكتيك.( المؤلّف قدس سره)

277

إلى تكميل النظرية العلمية السابقة بمفاهيم جديدة، تضاف إلى النظرية السالفة؛ ليتمّ بذلك تفسير موحّد للواقع التجريبي كلّه. وقد تكشف الدلائل العلمية عن خطأ النظرية السابقة، فتنهار ويعوّض عنها بنظرية اخرى على ضوء التجارب والمشاهدات.
وفي كلّ ذلك لا يمكن أن نفهم التطوّر العلمي فهماً ديالكتيكياً، أو أن نتصوّر الحقيقة كما يفترضها الجدل، تنمو وتتحرّك بموجب التناقضات المحتواة في داخلها، فتتّخذ في كلّ دور شكلًا جديداً، وهي في تلك الأشكال جميعاً حقيقة علمية متكاملة؛ فإنّ هذا بعيد كلّ البعد عن الواقع العلمي للتفكير البشري. بل الشي‏ء الذي يحدث في مجال التعديل العلمي، هو الظفر بحقائق جديدة تضاف إلى الحقيقة العلمية الثابتة، أو انكشاف خطأ النظرية السابقة، وصحّة فكرة اخرى لتفسير الواقع.
فمن قبيل الأوّل (الظفر بحقائق جديدة تضاف إلى الحقيقة العلمية الثابتة) ما وقع للنظرية الذرّية (نظرية أتميسم)، فإنّها كانت فرضية، ثمّ صارت قانوناً علمياً بموجب التجارب، وبعد ذلك استطاعت الفيزياء أن تتوصّل- على ضوء التجارب- إلى أنّ الذرّة ليست هي الوحدة الأوّلية في المادّة، بل هي تأتلف- أيضاً- من أجزاء. وهكذا كملت النظرية الذرّية بمفهوم علمي جديد عن النواة والكهارب التي تتركّب منها الذرّة، فلم تنمُ الحقيقة، وإنّما زادت الحقائق العلمية، والزيادة الكمّية غير النموّ الديالكتيكي والحركة الفلسفية في الحقيقة.
ومن قبيل الثاني (انكشاف خطأ النظرية السابقة وصحّة فكرة اخرى) ما حصل في قانون الجاذبية العامّة، أي: التفسير الميكانيكي الخاصّ للعالم في نظريات (نيوتن)، فإنّ هذا التفسير قد لوحظ عدم اتّفاقه مع عدّة من الظواهر الكهربائية والمغناطيسية، وعدم صلاحيّته لتفسير كيفية صدور النور وانتشاره،

276

على نسبة معيّنة. والنظرية القائلة: بأنّ مردّ اختلاف الأجسام في سرعة سقوطها إلى مقاومة الهواء، لا إلى اختلاف كتلتها، التي ولدت كحدس علمي، ثمّ استطاع العلم أن يوضّح صدقها بالتجارب التي اجريت على الأجسام المتنوّعة في مكان خالٍ من الهواء، فدلّت على أ نّها تشترك جميعاً في درجة معيّنة من السرعة. أقول:
إنّ هذه النظريات وآلاف النظريات الاخرى التي مرّت كلّها بالمرحلة التي أشرنا إليها من التطوّر، باجتيازها درجة الفرضية إلى درجة القانون، لا تعبّر في اجتيازها وتطوّرها هذا عن نموّ في نفس الحقيقة، بل عن الاختلاف في درجة التصديق العلمي بها. فالفكرة هي الفكرة، غير أ نّها نجحت في الامتحان العلمي، وانكشف لذلك أ نّها حقيقة، بعد أن كان مشكوكاً فيها.
ثمّ إنّ هذه النظرية بعد أن تحتلّ موضعها من القوانين العلمية، تأخذ مجالها في التطبيق، وتكسب صفتها كمرجع علمي لتفسير ظواهر الطبيعة التي تبدو لدى المشاهدة أو التجربة، واستكشاف حقائق وأسرار جديدة. ومهما استطاعت أن تستكشف مزيداً من الحقائق المجهولة، ثمّ تؤكّد التجربة بعد ذلك صحّة استكشافها، ازدادت رسوخاً ووضوحاً في الذهنية العلمية. ولذلك عُدّ من الانتصارات الكبرى لقانون الجاذبية العامّة، أن استكشف العلماء كوكب (نبتون) على ضوء قانون الجاذبية ومعادلاته الرياضية، ثمّ أيّدت وجوده المشاهدات العلمية بعدئذٍ. وهذا- أيضاً- ليس إلّالوناً من ألوان شدّة الوثوق العلمي بصحّة النظرية وصوابها.
ثمّ إن حالف التوفيق النظرية في المجال العلمي على طول الخطّ، ثبتت نهائياً. وأمّا إذا بدأت تضيق عن الانطباق على الواقع المدروس علمياً، بعد تدقيق الأجهزة والوسائل، وتعميق الملاحظة والفحص، فتبدأ النظرية عند ذاك مرحلة التعديل والتجديد، وفي هذه المرحلة قد تضطرّ المشاهدات والتجارب الجديدة

275

ومن الضروري لإيضاح ذلك أن نعطي فكرة عن سير التطوّر العلمي، واسلوب التدرّج والتكامل في النظريات والحقائق العلمية؛ لنتبيّن مدى الفرق بين ديالكتيك الفكر المزعوم من ناحية، والتطوّر التأريخي للعلوم البشرية من ناحية اخرى.
إنّ الحقيقة العلمية تبدأ باسلوب نظري، كافتراض بحت، يخطر على ذهن العالم الطبيعي بسبب عدّة من المعلومات السابقة، والمشاهدات العلمية أو البسيطة. فالفرضية هي المرحلة الاولى التي تمرّ بها النظرية العلمية في سيرها التطوّري، ثمّ يشرع العالم في بحث علمي، ودراسة تجريبية لتلك الفرضية، فيقوم بمختلف ألوان الفحص عن طريق المشاهدات العلمية الدقيقة والتجارب المتنوّعة في الحقل الذي يخصّ الفرضية، فإذا جاءت نتائج المشاهدات أو التجربة مؤيِّدة للفرضية، ومنسجمة مع طبيعتها وطبيعة آثارها، اكتسبت الفرضية طابعاً جديداً، وهو طابع القانون العلمي، وتدخل النظرية بذلك المرحلة الثانية من سيرها العلمي.
ولكن هذا التطوّر الذي ينقل النظرية من درجة الفرضية إلى درجة القانون، ليس معناه: أنّ الحقيقة العلمية أخذت بالنموّ والحركة، وإنّما معناه: أنّ فكرة معيّنة كان مشكوكاً فيها، فبلغت درجة الوثوق أو اليقين العلمي. فنظرية (باستور) عن الكائنات الحيّة الميكروبية التي وضعها على أساس حدسي، ثمّ أيّدتها المشاهدات الدقيقة بالوسائل العلمية الحديثة، ونظرية الجاذبية العامّة التي أثار افتراضها في ذهن (نيوتن) مشهد بسيط، مشهد سقوط تفّاحة على الأرض، جعله يتساءل: لماذا لا تكون القوّة التي جعلت التفّاجة تسقط على الأرض، هي بعينها التي تحفظ للقمر توازنه، وترسم له حركته؟ ثمّ أيّدت التجارب أو المشاهدات العلمية بعد ذلك تعميم الجاذبية للأجرام السماوية، واعتبارها قانوناً عاماً قائما

274

قال كيدروف:

«والحقيقة المطلقة الناتجة من حقائق نسبية، هي حركة تطوّر تأريخية، هي حركة المعرفة. ولهذا السبب بالضبط يتناول المنطق الديالكتي الماركسي الشي‏ء الذي يدرسه من وجهة نظر تأريخية، من حيث هو عملية نموّ تطوّرية. إنّه يطابق التأريخ العامّ للمعرفة، يطابق تأريخ العلوم. ولينين إذ يبيّن في الوقت نفسه- باستخدامه مثل العلوم الطبيعية والاقتصاد السياسي والتأريخ- أنّ الديالكتيك يستمدّ استنتاجاته العامّة من تأريخ الفكر، يؤكّد أنّ على تأريخ الفكر في المنطق أن يطابق جزئياً وكلّياً قوانين الفكر»[1].

أمّا أنّ تأريخ المعارف والعلوم الإنسانية زاخر بتقدّم العلم وتكامله في شتّى الميادين ومختلف أبواب الحياة والتجربة، فهذا ما لا يختلف فيه اثنان، ونظرة واحدة نلقيها على العلم في يومه وأمسه، تجعلنا نؤمن كلّ الإيمان بمدى التطوّر السريع والتكامل الرائع الذي حصل عليه في أشواطه الأخيرة. ولكن هذا التطوّر العلمي ليس من ألوان الحركة بمفهومها الفلسفي الذي تحاوله الماركسية، بل لا يعدو أن يكون تقلّصاً كمّياً في الأخطاء، وزيادة كمّية في الحقائق. فالعلم يتطوّر لا بمعنى أنّ الحقيقة العلمية تنمو وتتكامل، بل بمعنى: أنّ حقائقه تزيد وتتكاثر، وأخطاءه تقلّ وتتناقص تبعاً لتوسّع النطاق التجريبي، والتعمّق في التجربة وتدقيق وسائلها.

 

[1] المنطق الشكلي والمنطق الديالكتي: 12- 13