کتابخانه
370

الجسم مركّب من أجزاء صغيرة، يتخلّل بينها فراغ، وأطلق على تلك الأجزاء اسم الذرّة، أو الجزء الذي لا يتجزّأ. والنظرية الاتّصالية هي النظرية الغالبة التي أخذ بها أرسطو ورجال مدرسته. والجسم في زعم هذه النظرية ليس محتوياً على ذرّات، ومركّباً من وحدات صغيرة، بل هو شي‏ء واحد متماسك يمكننا أن نقسّمه فنخلق منه أجزاء منفصلة بالتقسيم، لا أ نّه يشتمل سلفاً على أجزاء كهذه‏[1].

وقد جاء بعد ذلك دور الفيزياء الحديثة، فدرست الفكرتين درساً علمياً على ضوء اكتشافاتها في عالم الذرّة. فأقرّت الفكرتين بصورة أساسية: فكرة العناصر البسيطة، وفكرة الذرّات، وكشفت في مجال كلّ منهما عن حقائق جديدة لم يكن من الممكن التوصّل إليها سابقاً.

ففيما يخصّ الفكرة الاولى استكشفت الفيزياء ما يقارب مئة من العناصر البسيطة التي تتكوّن منها المادّة الأساسية للكون والطبيعة بصورة عامّة. فالعالم وإن بدا لأوّل مرّة مجموعة هائلة من الحقائق والأنواع المختلفة، ولكن هذا الحشد الهائل المتنوّع يرجع في التحليل العلمي إلى تلك العناصر المحدودة.

والأجسام- بناءً على هذا- قسمان: أحدهما جسم بسيط، وهو الذي يتكوّن من أحد تلك العناصر، كالذهب، والنحاس، والحديد، والرصاص، والزئبق. والآخر هو الجسم المركّب من عنصرين أو عدّة عناصر بسيطة، كالماء المركّب من ذرّة اوكسجين وذرّتين من الهيدروجين، أو الخشب المركّب في الغالب من الاوكسجين والكربون والهيدروجين.

وفيما يخصّ الفكرة الثانية برهنت الفيزياء الحديثة علمياً على النظرية الانفصالية، وأنّ العناصر البسيطة مؤلّفة من ذرّات صغيرة ودقيقة إلى حدّ أن‏

 

[1] تاريخ العلوم عند العرب: 73

369

المادّة على ضوء الفيزياء

في المادّة فكرتان علميتان، تناولهما العلماء بالبحث والدرس منذ آلاف السنين:

إحداهما أنّ جميع الموادّ المعروفة في دنيا الطبيعة إنّما تتركّب من عدّة موادّ بسيطة محدودة، تُسمّى بالعناصر، والاخرى أنّ المادّة تتكوّن من دقائق صغيرة جدّاً، تُسمّى الذرّات.

أمّا الفكرة الاولى فقد أخذ بها الإغريق بصورة عامّة، وكان الرأي السائد هو اعتبار الماء، والهواء، والتراب، والنار، عناصر بسيطة، وإرجاع جميع المركّبات إليها، بصفتها الموادّ الأوّلية في الطبيعة. وحاول بعض علماء العرب‏[1] بعد ذلك أن يضيفوا إلى هذه العناصر الأربعة ثلاثة عناصر اخرى، هي: الكبريت، والزئبق، والملح. وقد كانت خصائص العناصر البسيطة- في رأي الأقدمين‏[2]– حدوداً فاصلة بينها، فلا يمكن أن يتحوّل عنصر بسيط إلى عنصر بسيط آخر.

وأمّا الفكرة الثانية (فكرة ائتلاف الأجسام من ذرّات صغيرة) فكانت موضوع صراع بين نظريتين: النظرية الانفصالية، والنظرية الاتّصالية. فالنظرية الانفصالية هي النظرية الذرّية للفيلسوف الإغريقي (ديمقريطس)[3]، القائلة: إن‏

 

[1] تاريخ العلوم عند العرب، عمر فرّوخ: 216

[2] المصدر السابق: 70

[3] انظر تفصيل النظريّة في قصّة الفلسفة اليونانيّة: 48- 53، الفصل السادس، المذهب الذرّي. وتاريخ العلوم عند العرب: 71 و 101

368

الخاصّة. فالمفارقة بين المادّة والفاعل في الكرسي، (أو في التعبير الفلسفي: بين العلّة المادّية والعلّة الفاعلية)، واضحة كلّ الوضوح.
وهدفنا الرئيسي من المسألة: أن نتبيّن نفس المفارقة في نفس العالم، بين مادّته الأساسية (العلّة المادّية) والفاعل الحقيقي (العلّة الفاعلية). فهل فاعل هذا العالم وصانعه شي‏ء آخر خارج عن حدود المادّة ومغاير لها، كما أنّ صانع الكرسي مغاير لمادّته الخشبية؟ أو إنّه نفس المادّة التي تتركّب منها كائنات العالم؟
وهذه هي المسألة التي تُقرّر المرحلة الأخيرة من مراحل النزاع الفلسفي بين الإلهية والمادّية. وليس الديالكتيك إلّاإحدى المحاولات الفاشلة التي قامت بها المادّية للتوحيد بين العلّة الفاعلية، والعلّة المادّية للعالم، طبقاً لقوانين التناقض الديالكتيكية.
والتزاماً بطريقة الكتاب سوف نبحث المسألة بدراسة المادّة دراسة فلسفية على ضوء المقرّرات العلمية، والقواعد الفلسفية، متحاشين العمق الفلسفي في البحث، والتفصيل في العرض.

367

انتهينا من الجزء السابق إلى نتيجة، هي: أنّ المردّ الأساسي الأعمق للكون والعالم- بصورة عامة- هو العلّة الواجبة بالذات التي ينتهي إليها تسلسل الأسباب. والمسألة الجديدة هي: أنّ هذه العلّة الواجبة بالذات التي تعتبر الينبوع الأوّل للوجود، هل هي المادّة نفسها، أو شي‏ء آخر فوق حدودها؟ وبالصيغة الفلسفية للسؤال نقول: إنّ العلّة الفاعلية للعالم، هل هي نفس العلّة المادّية أو لا؟
ولأجل التوضيح نأخذ مثالًا، وليكن هو الكرسي. فالكرسي عبارة عن صفة أو هيئة خاصّة، تحصل من تنظيم عدّة أجزاء مادّية تنظيماً خاصّاً، ولذلك فهو لا يمكن أن يوجد دون مادّة من خشب أو حديد ونحوهما. وبهذا الاعتبار يُسمّى الخشب علّة مادّية للكرسي الخشبي؛ لأنّه لم يكن من الممكن أن يوجد الكرسي الخشبي من دون الخشب. ولكن من الواضح جدّاً: أنّ هذه العلّة المادّية ليست هي العلّة الحقيقية التي صنعت الكرسي؛ فإنّ الفاعل الحقيقي للكرسي شي‏ء غير مادّته، وهو النجّار. ولذا تطلق الفلسفة على النجّار اسم العلّة الفاعلية. فالعلّة الفاعلية للكرسي ليست هي نفس علّته المادّية من الخشب او الحديد. فإذا سُئلنا عن مادّة الكرسي، أجبنا أنّ مادّته هي الخشب، وإذا سئلنا عن الصانع له (العلّة الفاعلية)، لم نجب بأ نّه الخشب، وإنّما نقول: إنّ النجّار صنعه بآلاته ووسائله‏

366

365

المفهوم الفلسفي للعالم‏

4

المادّة أو اللَّه؟

المادّة على ضوء الفيزياء.
المادّة والفلسفة.
المادّة والحركة.
المادّة والوجدان.

364

بالذات، غني بنفسه، وغير محتاج إلى سبب؛ لأنّ هذا هو ما يحتّمه تطبيق مبدأ العلّية على العالم بموجب قوانينها السالفة الذكر؛ فإنّ العلّية بعد أن كانت مبدأً ضرورياً للكون، وكان تسلسلها اللانهائي مستحيلًا، فيجب أن تطبّق على الكون تطبيقاً شاملًا متصاعداً حتّى يقف عند علّة اولى واجبة.

ولا بأس أن نشير في ختام هذا البحث إلى لون من التفكير المادّي في هذا المجال، تقدّم به بعض الكتّاب المعاصرين للردّ على فكرة السبب الأوّل أو العلّة الاولى، فهو يقول: إنّ السؤال عن العلّة الاولى لا معنى له، فالتفسير العلّي- أو السببي- يستلزم- دائماً- حدّين اثنين مرتبطاً أحدهما بالآخر، هما العلّة والمعلول، أو السبب والمسبّب، فعبارة (علّة اولى) فيها تناقض في الحدود؛ إذ أنّ كلمة: (علّة) تستلزم حدّين كما رأينا، لكن كلمة: (اولى) تستلزم حدّاً واحداً، فالعلّة لا يمكن أن تكون (اولى) وتكون (علّة) في نفس الوقت، فإمّا أن تكون اولى دون أن تكون علّة، أو بالعكس‏[1].

ولا أدري من قال له: إنّ كلمة: (علّة) تستلزم علّة قبلها. صحيح: أنّ التفسير السببي يستلزم- دائماً- حدّين هما: العلّة والمعلول، وصحيح: أنّ من التناقض أن نتصوّر علّة بدون معلول ناتج عنها؛ لأنّها ليست- عندئذٍ- علّة، وإنّما هي شي‏ء عقيم، وكذلك من الخطأ أن نتصوّر معلولًا لا علّة له، فكلّ منها يتطلّب الآخر إلى جانبه، ولكن العلّة بوصفها علّة، لا تتطلّب علّة قبلها، وإنّما تتطلّب معلولًا، فالحدّان متوفّران معاً في فرضية (العلّة الاولى)؛ لأنّ العلّة الاولى لها معلولها الذي ينشأ منها، وللمعلول علّته الاولى؛ فكما لا يتطلّب المعلول دائماً معلولًا ينشأ منه- إذ قد تتولّد ظاهرة من سبب ولا يتولّد عن الظاهرة شي‏ء جديد- كذلك العلّة لا تتطلّب علّة فوقها، وإنّما تتطلّب معلولًا لها.

 

[1] المسألة الفلسفيّة، الدكتور محمّد عبد الرحمن مرحبا: 80

363

إلى علّة- طبقاً لمبدأ العلّية- دون استثناء، فالموجودات جميعاً تصبح بحاجة إلى علّة.

ويبقى سؤال: «لماذا؟»- هذا السؤال الضروري- منصبّاً على الوجود بصورة عامة، ولا يمكن أن نتخلّص من هذا السؤال إلّابافتراض سبب أوّل متحرّر من مبدأ العلّية؛ فإنّنا- حينئذٍ- ننتهي في تعليل الأشياء إليه، ولا نواجه فيه سؤال:

لماذا وجد؟ لأنّ هذا السؤال إنّما نواجهه في الأشياء الخاضعة لمبدأ العلّية خاصّة.

فلنأخذ الغليان مثلًا، فهو ظاهرة طبيعية محتاجة إلى سبب، طبقاً لمبدأ العلّية، ونعتبر سخونة الماء سبباً لها، وهذه السخونة هي كالغليان في افتقارها إلى علّة سابقة. وإذا أخذنا الغليان والسخونة كحلقتين في سلسلة الوجود، أو في تسلسل العلل والأسباب، وجدنا من الضروري أن نضع للسلسلة حلقة اخرى؛ لأنّ كلًا من الحلقتين بحاجة إلى سبب، فلا يمكنهما الاستغناء عن حلقة ثالثة، والحلقات الثلاث تواجه بمجموعها نفس المسألة، وتفتقر إلى مبرّر لوجودها ما دامت كلّ واحدة منها خاضعة لمبدأ العلّية. وهذا هو شأن السلسلة دائماً وأبداً ولو احتوت على حلقات غير متناهية. فما دامت حلقاتها جميعاً محتاجة إلى علّة، فالسلسلة بمجموعها مفتقرة إلى سبب، وسؤال (لماذا وجد؟) يمتدّ ما امتدّت حلقاتها، ولا يمكن تقديم الجواب الحاسم عليه ما لم ينته التسلسل فيها إلى حلقة غنية بذاتها غير محتاجة إلى علّة، فتقطع التسلسل، وتضع للسلسلة بدايتها الأزليّة الاولى‏[1].

وإلى هنا نكون قد جمعنا ما يكفي للبرهنة على انبثاق هذا العالم عن واجب‏

 

[1] وبالتعبير الفلسفي الدقيق: أنّ الشي‏ء لا يوجد إلّاإذا امتنع عليه جميع أنحاء العدم، ومن جملة انحاء العدم، عدمه بعدم جميع أسبابه، وهذا لا يمتنع إلّاإذا كان يوجد في جملة أسبابه واجب بالذات.( المؤلّف قدس سره)

362

قائمة بنفس الجسم. فهذه القوّة هي المحرّكة الحقيقية، والأسباب الخارجية إنّما تعمل لإثارة هذه القوّة وإعدادها للتأثير. وعلى هذا الأساس قام مبدأ (الحركة الجوهرية)، كما أوضحناه في الجزء السابق من هذه المسألة[1]. ولسنا نستهدف الآن الإفاضة في هذا الحديث، وإنّما نرمي من ورائه إلى توضيح: أنّ التجربة العلمية التي قام على أساسها قانون (القصور الذاتي)، لا تتعارض مع قوانين العلّية، ولا تبرهن على ما يعاكسها مطلقاً.

النتيجة:

ولم يبقَ علينا لأجل أن نصل إلى النتيجة إلّاأن نعطف على ما سبق (قانون النهاية)، وهو القانون القائل: إنّ العلل المتصاعدة في الحساب الفلسفي التي ينبثق بعضها عن بعض يجب أن يكون لها بداية، أي: علّة اولى لم تنبثق عن علّة سابقة. ولا يمكن أن يتصاعد تسلسل العلل تصاعداً لانهائياً؛ لأنّ كلّ معلول- كما سبق- ليس إلّاضرباً من التعلّق والارتباط بعلّته، فالموجودات المعلولة جميعاً ارتباطات وتعلّقات، والارتباطات تحتاج إلى حقيقة مستقلّة تنتهي إليها.

فلو لم توجد لسلسلة العلل بداية، لكانت الحلقات جميعاً معلولة، وإذا كانت معلولة فهي مرتبطة بغيرها، ويتوّجه السؤال- حينئذٍ- عن الشي‏ء الذي ترتبط به هذه الحلقات جميعاً.

وفي عرض آخر: أنّ سلسلة الأسباب إذا كان يوجد فيها سبب غير خاضع لمبدأ العلّية، ولا يحتاج إلى علّة، فهذا هو السبب الأوّل الذي يضع للسلسلة بدايتها ما دام غير منبثق عن سبب آخر يسبقه. وإذا كان كلّ موجود في السلسلة محتاجا

 

[1] تحت عنوان:« 1- حركة التطوّر»