کتابخانه
388

الجزء والفيزياء والكيمياء:

فمسألة الجزء الذي لا يتجزّأ ليست مسألة علمية، وإنّما هي فلسفية خالصة.
وبذلك نعرف أنّ الطرق أو الحقائق العلمية التي اتّخذت للإجابة عن هذه المسألة، والتدليل على وجود الجزء الذي لا يتجزّأ، أو على نفيه، ليست صحيحة مطلقاً، ونشير إلى شي‏ء منها:
أ- قانون النسب الذي وضعه (والتن) في الكيمياء لإيضاح أنّ الاتّحاد الكيمياوي بين العناصر يجري طبقاً لنسب معيّنة، وركّزه على أساس أنّ المادّة تتأ لّف من دقائق صغيرة لا تقبل التجزئة.
ومن الواضح: أنّ هذا القانون إنّما يعمل في مجاله الخاص كقانون كيميائي، ولا يمكن أن تحلّ به مشكلة فلسفية؛ لأنّ قصارى ما يوضّحه هو: أنّ التفاعلات والتركيبات الكيمياوية لا يمكن أن تتمّ إلّابين مقادير معيّنة من العناصر في ظروف وشروط خاصّة. وإذا لم تحصل المقادير والنسب المعيّنة، فلا يوجد تفاعل وتركيب. ولكنّه لا يوضّح ما إذا كانت تلك المقادير قابلة للانقسام بحدّ ذاتها أو لا؟ فيجب علينا- إذن- أن نفرّق بين الناحية الكيميائية من القانون، والناحية الفلسفية. فهو من الناحية الكيميائية يثبت أنّ خاصّية التفاعل الكيمياوي توجد في مقادير معيّنة، ولا يمكن أن تتحقّق في أقلّ من تلك المقادير، وأمّا من الناحية الفلسفية، فلا يثبت أنّ تلك المقادير هل هي أجزاء لا تتجزّأ أو لا؟
ولا صلة لذلك بالجانب الكيميائي من القانون مطلقاً.
ب- المرحلة الاولى من الفيزياء الذرّية التي حصل فيها اكتشاف الذرّة، فقد بدا آنذاك لبعض: أنّ الفيزياء في هذه المرحلة قد وضعت حدّاً فاصلًا للنزاع في مسألة الجزء الذي لا يتجزّأ؛ لأنّها كشفت عن هذا الجزء بالأساليب العلمية.

387

فتبرهن على أ نّها مركّبة من صورة ومادّة أبسط. فنحن لا نتصوّر وحدة مادّية من دون اتّصال؛ لأنّها لو لم تكن متّصلة اتّصالًا حقيقياً، لكانت محتوية على فراغ تتخلّله أجزاء، كالجسم. فمعنى الوحدة هي أن تكون متّصلة، فلا تكون وحدة حقيقية بلا اتّصال، ولكنّها في نفس الوقت قابلة للتجزئة والانفصال أيضاً.
ومن الواضح: أنّ ما يقبل التجزئة والانفصال ليس هو نفس الاتّصالية المقوّمة للوحدة المادّية؛ لأنّ الاتّصال لا يمكن أن يتّصف بالانفصال، كما أنّ السيولة لم يكن من الممكن أن تتّصف بالغازية. فيجب أن تكون للوحدة مادّة بسيطة، وهي التي تقبل التجزئة والانفصال. ويؤدّي ذلك إلى اعتبارها مركّبة من مادّة، وصورة. فالمادّة هي القابلة للتجزئة والانفصال الهادم للوحدة، كما أ نّها هي القابلة للاتّصال أيضاً، الذي يحقّق الوحدة، وأمّا الصورة فهي نفس هذه الاتّصالية التي لا يمكن أن نتصوّر وحدة مادّية من دونها.
ولكن المسألة التي تواجهنا في هذه المرحلة هي: أنّ الفلسفة كيف يمكنها معرفة أنّ الوحدات الأساسية في المادّة قابلة للتجزئة والانفصال؟ وهل يوجد سبيل إلى ذلك إلّابالتجربة العلمية؟ والتجربة العلمية لم تثبت قابلية الوحدات الأساسية في المادّة للتجزئة والانقسام.
ومرّة اخرى نؤكّد على ضرورة عدم الخلط بين المادّة العلمية والمادّة الفلسفية؛ ذلك أنّ الفلسفة لا تدّعي أنّ تجزئة الوحدة أمر ميسور بالأجهزة والوسائل العلمية التي يملكها الإنسان؛ فإنّ هذه الدعوى من حقّ العلم وحده، وإنّما تبرهن على أنّ كلّ وحدة فهي قابلة للانقسام والتجزئة، وإن لم يمكن تحقيق الانقسام خارجاً بالوسائل العلمية، ولا يمكن أن يتصوّر وحدة من دون قابلية الانقسام، أي: لا يمكن أن يتصوّر جزء لا يتجزّأ.

386

المفهوم الفلسفي للمادّة:

لمّا كانت المسألة التي نتناولها فلسفية ودقيقة إلى حدّ ما، فيجب أن نمشي بتُؤَدَة وهدوء؛ ليتمكّن القارئ من متابعة السير. ولذا فلنبدأ- أوّلًا- بالماء والكرسي ونظائرهما؛ لنعرف كيف صدّقت الفلسفة بأ نّها مركّبة من مادّة وصورة؟
إنّ الماء يتمثّل في مادّة سائلة، وهو في نفس الوقت قابل لأن يكون غازاً، ومركز هذه القابلية ليس هو السيلان؛ لأنّ صفة السيلان لا يمكن أن تكون غازاً، بل مركزه المادّة المحتواة في الماء السائل. فهو- إذن- مركّب من حالة السيلان، ومادّة تتّصف بتلك الحالة، وهي قابلة للغازية أيضاً. والكرسي يتمثّل في خشب مصنوع على هيئة خاصّة، وهو يقبل أن يكون منضدة، وليست هيئة الكرسي هي التي تقبل أن تكون منضدة، بل المادّة. فعرفنا من ذلك: أنّ الكرسي مركّب من هيئة معيّنة، ومادّة خشبية تصلح لأن تكون منضدة، كما صلحت لأن تكون كرسياً.
وهكذا في كلّ مجال إذا لوحظ أنّ الكائن الخاصّ قابل للاتّصاف بنقيض صفته الخاصّة، فإنّ الفلسفة تبرهن بذلك على أنّ له مادّة، وهي التي تقبل للاتّصاف بنقيض تلك الصفة الخاصّة.
ولنأخذ مسألتنا على هذا الضوء. فقد عرفنا أنّ العلم يوضّح أنّ الجسم ليس شيئاً واحداً، بل هو مركّب من وحدات أساسية تسبح في فراغ. وهذه الوحدات باعتبارها الوحدات الأخيرة في التحليل العلمي، فهي بدورها ليست مركّبة من ذرّات أصغر منها، وإلّا لم تكن الوحدات النهائية للمادّة. وهذا صحيح، فالفلسفة تعطي للعلم حرّيته الكاملة في تعيين الوحدات النهائية التي لا يتخلّلها فراغ ولا تحتوي على أجزاء. وحينما يعيّن العلم تلك الوحدات، يجي‏ء دور الفلسفة،

385

كما يمكن أن يكون متّصلًا، كذلك يمكن أن يكون محتوياً على فراغ تتخلّله أجزاء دقيقة.
وأمّا الجانب الفلسفي في نظرية ديمقريطس، فلا تمسّه الكشوف العلمية بشي‏ء، ولا تبرهن على صحّته، بل تبقى مسألة وجود مادّة أبسط من المادّة العلمية في ذمّة الفلسفة، بمعنى: أنّ الفلسفة يمكنها أن تأخذ أعمق مادّة توصّل إليها العلم في الميدان التجريبي، وهي الذرّة ومجموعتها الخاصّة، فتبرهن على أ نّها مركّبة من مادّة أبسط وصورة. ولا يتناقض ذلك مع الحقائق العلمية؛ لأنّ هذا التحليل والتركيب الفلسفي ليس ممّا يمكن أن يظهر في الحقل التجريبي.
وكما أخطأ هؤلاء في زعمهم أنّ التجارب العلمية تدلّل على صحّة النظرية بكاملها، مع أ نّها متّصلة بجانبها العلمي فقط، كذلك أخطأ عدّة من الفلاسفة الأقدمين الذين رفضوا الجانب الفلسفي من النظرية، فعمّموا الرفض للناحية العلمية أيضاً، وادّعوا- من دون سند علمي أو فلسفي- أنّ الأجسام متّصلة، وأنكروا الذرّة والفراغ في محتواها الداخلي.
والموقف الذي يجب أن نقفه في المسألة هو: أن نقبل الجانب العلمي من النظرية، الذي يؤكّد أنّ الأجسام ليست متّصلة، وأ نّها مركّبة من ذرّات دقيقة إلى الغاية؛ فإنّ هذا الجانب قد كشفت عنه الفيزياء الذرّية بصورة لا تدع مجالًا للشكّ.
وأمّا الجانب الفلسفي من النظرية القائل ببساطة تلك الوحدات التي تكشف عنها الفيزياء الذرّية، فنرفضه؛ لأنّ الفلسفة تبرهن على أنّ الوحدة التي تكشف عنها الفيزياء- مهما كانت دقيقة- مركّبة من صورة ومادّة. ونطلق على هذه المادّة اسم المادّة الفلسفية؛ لأنّها المادّة الأبسط التي يثبت وجودها بطريقة فلسفية لا علمية. وقد حان لنا الآن أن ندرس هذه الطريقة الفلسفية.

384

تصحيح أخطاء:

وعلى ضوء ما سبق يمكن أن نعرف أنّ النظرية الذرّية ل (ديمقريطس)- القائلة بأنّ أصل العالم عبارة عن ذرّات أصلية لا تتجزّأ- لها جانبان: أحدهما علمي، والآخر فلسفي.
فالجانب العلمي هو: أنّ بنية الأجسام مركّبة من ذرّات صغيرة، يتخلّل بينها الفراغ، وليس الجسم كتلة متّصلة، وإن بدا لحواسنا كذلك، وتلك الوحدات الصغيرة هي مادّة الأجسام جميعاً.
والجانب الفلسفي هو: أنّ ديمقريطس زعم أنّ تلك الوحدات والذرّات ليست مركّبة من مادّة وصورة؛ إذ ليست لها مادّة أعمق وأبسط منها، فهي المادّة الفلسفية، أي: أعمق وأبسط مادّة للعالم.
وقد اختلط هذان الجانبان من النظرية على كثير من المفكّرين، فبدا لهم أنّ عالم الذرّة الذي كشفه العلم الحديث بالأساليب التجريبية، يبرهن على صحّة النظرية الذرّية. فلم يعد من الممكن تخطئة (ديمقريطس) في تفسيره للأجسام- كما خطّأه الفلاسفة السابقون- بعد أن تجلّى للعلم عالم الذرّة الجديد، وإن اختلف التفكير العلمي الحديث عن تفكير ديمقريطس في تقدير حجم الذرّة وتصوير بنيتها.
ولكن الواقع: أنّ التجارب العلمية الحديثة عن الذرّة إنّما تثبت صحّة الجانب العلمي من نظرية ديمقريطس، فهي تدلّ على أنّ الجسم مركّب من وحدات ذرّية، ويشتمل على فراغ يتخلّل بين تلك الذرّات، وليس متّصلًا كما يصوّره الحسّ لنا. وهذه هي الناحية العلمية من النظرية التي يمكن للتجربة أن تكشف عنها. وليس للفلسفة كلمة في هذا الموضوع؛ لأنّ الجسم من ناحية فلسفية

383

وهذا السؤال يعتبر من أهمّ الأسئلة الرئيسية في التفكير البشري، العلمي والفلسفي. ويقصد بالمادّة العلمية أعمق ما تكشفه التجربة من موادّ للعالم، فهي الأصل الأوّل في التحليلات العلمية. ويقصد بالمادّة الفلسفية أعمق مادّة للعالم، سواءٌ أكان من الممكن ظهورها في المجال التجريبي أم لا.
وقد مرّ بنا التحدّث عن المادّة العلمية، وعرفنا أنّ أعمق مادّة توصّل إليها العلم هي الذرّة بأجزائها من النوى والكهارب، التي هي تكاثف خاصّ للطاقة.
ففي العرف العلمي مادّة الكرسي هي الخشب، ومادّة الخشب هي العناصر البسيطة التي يأتلف منها، وهي: الاوكسجين، والكربون، والهيدروجين. ومادّة هذه العناصر هي الذرّات، ومادّة الذرّة هي أجزاؤها الخاصّة من البروتونات والألكترونات وغيرهما. وهذه المجموعة الذرّية، أو الشحنات الكهربائية المتكاثفة، هي المادّة العلمية العميقة التي أثبتها العلم بالوسائل التجريبية.
وهنا يجي‏ء دور المادّة الفلسفية؛ لنعرف ما إذا كانت الذرّة في الحقيقة هي أعمق وأبسط مادّة للعالم، أو إنّها بدورها مركّبة- أيضاً- من مادّة وصورة، فالكرسي كما عرفنا مركّب من مادّة وهي الخشب، وصورة هي هيئته الخاصّة.
والماء مركّب من مادّة وهي ذرّات الاوكسجين والهيدروجين، وصورة وهي خاصية السيلان، التي تحصل عند التركيب الكيماوي بين الغازين. فهل الذرّات الدقيقة هي المادّة العلمية للعالم كذلك أيضاً؟
والرأي الفلسفي السائد هو: أنّ المادّة الفلسفية أعمق من المادّة العلمية، بمعنى: أنّ المادّة الاولى في التجارب العلمية ليست هي المادّة الأساسية في النظر الفلسفي، بل هي مركّبة من مادّة- أبسط منها- وصورة، وتلك المادّة الأبسط لا يمكن إثباتها بالتجربة، وإنّما يبرهن على وجودها بطريقة فلسفية.

382

المادّة والفلسفة

كنّا ننطلق في برهاننا على المسألة الإلهية من المادّة بمفهومها العلمي، التي برهن العلم على اشتراكها، وعرضية الخصائص بالإضافة إليها. والآن نريد أن ندرس المسألة الإلهية على ضوء المفهوم الفلسفي للمادّة.
ولأجل ذلك يجب أن نعرف ما هي المادّة؟ وما هو مفهومها العلمي والفلسفي؟
نعني بمادّة الشي‏ء: الأصل الذي يتكوّن منه الشي‏ء. فمادّة السرير هي الخشب، ومادّة الثوب هي الصوف، ومادّة الورق هي القطن، بمعنى: أنّ الخشب والصوف والقطن هي الأشياء التي يتكوّن منها السرير والثوب والورق. ونحن كثيراً ما نعيّن مادّة للشي‏ء، ثمّ نرجع إلى تلك المادّة لنحاول معرفة مادّتها، أي:
الأصل الذي تتكوّن منه، ثمّ نأخذ هذا الأصل، فنتكلّم عن مادّته وأصله أيضاً.
فالقرية إذا سُئِلنا ممّ تتكوّن؟ أجبنا بأ نّها تتكوّن من عدّة عمارات ودور.
فالعمارات والدور هي مادّة القرية، ويتكرّر السؤال عن هذه العمارات والدور، ما هي مادّتها؟ ويجاب عن السؤال بأ نّها تتركّب من الخشب والآجر والحديد.
وهكذا نضع لكلّ شي‏ء مادّة، ثمّ نضع للمادّة بدورها أصلًا تتكوّن منه، ويجب أن ننتهي في هذا التسلسل إلى مادّة أساسية، وهي المادّة التي لا يمكن أن يوضع لها مادّة بدورها.
ومن جرّاء ذلك انبثق في المجال الفلسفي والعلمي السؤال عن المادّة الأساسية والأصيلة للعالم، التي ينتهي إليها تحليل الأشياء في اصولها وموادّها.

381

فما هو السبب الذي جعل تطوّر الهيدروجين إلى هليوم مقتصراً على كمّية معيّنة، وأطلق الباقي من أسر هذا التطوّر الجبري؟!
وليس التفسير الديالكتي للمركّبات أدنى إلى التوفيق من تفسير الديالكتيك للعناصر البسيطة. فالماء إذا كان قد وجد طبقاً لقوانين الديالكتيك، فمعنى ذلك:
أنّ الهيدروجين يعتبر إثباتاً، وأنّ هذا الإثبات يثير نفي نفسه بتوليده للُاوكسجين، ثمّ يتّحد النفي والإثبات معاً في وحدة هي الماء، أو أن نعكس الاعتبار، فنفرض الاوكسجين إثباتاً، والهيدروجين نفياً، والماء هو الوحدة التي انطوت على النفي والإثبات معاً، وحصلت نتيجة تكاملية للصراع الديالكتي بينهما، فهل يمكن للديالكتيك أن يوضح لنا: أنّ هذا التكامل الديالكتيكي لو كان يتمّ بصورة ذاتية وديناميكية، فلماذا اختصّ بكمّية معيّنة من العنصرين، ولم يحصل في كلّ هيدروجين واوكسجين؟؟
ولا نريد بهذا أن نقول: إنّ اليد الغيبية هي التي تباشر كلّ عمليات الطبيعة وتنوّعاتها، وأنّ الأسباب الطبيعية لا موضع لها من الحساب، وإنّما نعتقد أنّ تلك التنوّعات والتطوّرات ناشئة من عوامل طبيعية خارج المحتوى الذاتي للمادّة، وهذه العوامل تتسلسل حتّى تصل في نهاية التحليل الفلسفي إلى مبدأ وراء الطبيعة، لا إلى المادّة ذاتها.
والنتيجة هي: أنّ وحدة المادّة الأصيلة للعالم التي برهن عليها العلم من ناحية، وتنوّعاتها واتّجاهاتها المختلفة التي دلّ العلم على أ نّها عرضية وليست ذاتية من ناحية اخرى، تكشف عن السرّ في المسألة الفلسفية، وتوضح: أنّ السبب الأعلى لكلّ هذه التنوّعات والاتّجاهات، لا يكمن في المادّة ذاتها، بل في سبب فوق حدود الطبيعة، ترجع إليه العوامل الطبيعية الخارجية التي تعمل على تنويع المادّة وتحديد اتّجاهاتها.

380

واحدة ومشتركة في الجميع، ولذا يمكن تبديلها البعض بالبعض، فكيف وجدت أنواع العناصر العديدة في تلك المادّة المشتركة؟
والجواب على اسس التغيّر الديالكتيكي يتلخّص في أنّ المادّة قد تطوّرت من مرحلة إلى مرحلة أرقى، حتّى بلغت درجة اليورانيوم. وعلى هذا الضوء يجب أن يكون عنصر الهيدروجين نقطة الابتداء في هذا التطوّر، باعتباره أخفّ العناصر البسيطة. فالهيدروجين يتطوّر ديالكتيكياً بسبب التناقض المحتوى في داخله، فيصبح بالتطوّر الديالكتيكي عنصراً أرقى، أي: عنصر الهليوم، وهذا العنصر بدوره ينطوي على نقيضه، فيشتعل الصراع من جديد بين النفي والإثبات، بين الوجه السالب والوجه الموجب، حتّى تدخل المادّة في مرحلة جديدة، ويوجد العنصر الثالث، وهكذا تتصاعد المادّة طبقاً للجدول الذرّي.
هذا هو التفسير الوحيد الذي يمكن للديالكتيك أن يقدّمه في هذا المجال، تبريراً لديناميكية المادّة. ولكن من السهل جدّاً أن نتبيّن عدم إمكان الأخذ بهذا التفسير من ناحية علمية؛ لأنّ الهيدروجين لو كان مشتملًا بصورة ذاتية على نقيضه، ومتطوّراً بسبب ذلك طبقاً لقوانين الديالكتيك المزعوم، فلماذا لم تتكامل جميع ذرّات الهيدروجين؟! وكيف اختصّ هذا التكامل الذاتي ببعض دون بعض؟! فإنّ التكامل الذاتي لا يعرف التخصيص، فلو كانت العوامل الخلّاقة للتطوّر والترقّي موجودة في صميم المادّة الأزلية، لما اختلفت آثار تلك العوامل، ولما اختصّت بمجموعة معيّنة من الهيدروجين، تحوّلها إلى هليوم وتترك الباقي.
فنواة الهيدروجين (البروتون) إذا كانت تحمل في ذاتها نفيها، وتتطوّر تبعاً لذلك حتّى تصبح بروتونين، بدلًا من بروتون واحد، لنتج عن ذلك زوال الماء عن وجه الأرض تماماً؛ لأنّ الطبيعة إذا فقدت نوى ذرّات الهيدروجين، وتحوّلت جميعاً إلى نوى ذرّات الهليوم، لم يكن من الممكن أن يوجد بعد ذلك ماء.