کتابخانه
397

بعد أن عجزوا عن إقصاء النطفة، وتركيز نظرية التوالد الذاتي في الحيوانات المرئية بالعين المجرّدة. وهكذا تراجعوا إلى الميدان، ولكن على مستوىً أخفض، واستمرّ الجدال حول تكوّن الحياة بين المادّيين وغيرهم إلى القرن التاسع عشر، حيث وضع (لويس باستور) حدّاً لذلك الصراع، وأثبت بتجاربه العلمية أنّ الجراثيم والميكروبات التي تعيش في الماء، كائنات عضوية مستقلّة، ترد إلى الماء من الخارج ثمّ تتوالد فيه.
ومرّة اخرى حاول المادّيون أن يتعلّقوا بخيط من الأمل الموهوم، فتركوا ميادين فشلهم إلى ميدان جديد، هو: ميدان التخمير؛ حيث حاول بعضهم أن يطبّق نظرية التوالد الذاتي على الكائنات العضوية المجهرية التي ينشأ بسببها الاختمار. ولكن سرعان ما باءت هذه المحاولة بالفشل، كالمحاولات السابقة، وذلك على يد (باستور) أيضاً، حين أظهر أنّ التخمير لا يحصل في المادّة لو حفظت بمفردها، وقطعت علاقتها بالخارج، وإنّما يوجد بسبب انتقال كائنات عضوية معيّنة إليها، وتوالدها فيها.
وهكذا ثبت في نهاية المطاف على شتّى أقسام الحيوان- وحتّى الحيوانات الدقيقة التي اكتشفت حديثاً ولم يكن من الممكن رؤيتها بالمجهر العادي- أنّ الحياة لا تنشأ إلّامن الحياة، وأنّ النطفة- لا التولّد الذاتي- هي القانون العام السائد في دنيا الأحياء.
ويقف المادّيون عند هذه النتيجة الحاسمة موقفاً حرجاً؛ لأنّ نظرية التوالد الذاتي إذا كانت قد سقطت من الحساب في ضوء البحوث العلمية، فكيف يمكنهم أن يعلّلوا نشوء الحياة على وجه الأرض؟! وهل يبقى للوجدان البشري مستساغ- بعد ذلك- لإغماض عينيه في النور، وغضّ بصره عن الحقيقة الإلهية الناصعة التي أودعت سرّ الحياة في الخلية، أو الخلايا الاولى؟! وإلّا فلماذا كفّت الطبيعة

396

الصورة بوضعها الصحيح.
فهل يكون هذا التصميم الجبّار الذي يضمن عملية الإبصار على أفضل وجه من فعل المادّة على غير هدى وقصد، مع أنّ مجرّد كشفه يحتاج إلى جهود فكرية جبّارة؟!

المادّة والبيولوجيا:

وخذ إليك بعد ذلك البيولوجيا، وعلم الحياة، فإنّك سوف تجد سرّاً آخر من الأسرار الإلهية الكبرى، سرّ الحياة الغامض الذي يملأ الوجدان البشري اطمئناناً بالمفهوم الإلهي، ورسوخاً فيه. فقد انهارت في ضوء علم الحياة نظرية التولّد الذاتي التي كانت تسود الذهنية المادّية، ويعتقد بها السطحيّون والعوام بصورة عامّة، ويسوقون للاستشهاد عليها أمثلة عديدة من الحشرات التي تبدو- في زعمهم- وكأ نّها تولّدت ذاتياً تحت عوامل طبيعية معيّنة، دون أن تتسلّل من أحياء اخرى، كالديدان التي تتكوّن في الأمعاء، أو في قطعة من اللحم إذا عرّضت للهواء مدّة من الزمان، ونحو ذلك من الأمثلة التي كانت توحي بها سذاجة التفكير المادّي. ولكن التجارب العلمية القاطعة برهنت على بطلان نظرية التولّد الذاتي، وأنّ الديدان لم تكن لتتولّد إلّابسبب جراثيم الحياة التي كانت تشتمل عليها قطعة اللحم …
وقد استأنفت المادّية حملتها من جديد؛ لتركيز نظرية التولّد الذاتي حين صنع أوّل مجهر مركّب على يد (أنطون فان لوينهوك)، فاكتشف به عالماً جديداً من العضويات الصغيرة، واستطاع هذا المجهر أن يبرهن على أنّ قطرة الماء من المطر لا توجد فيها جراثيم، وإنّما تتولّد هذه الجراثيم بعد نزولها إلى الأرض.
فرفع المادّيون أصواتهم وهلّلوا للنصر الجديد في ميدان الحيوانات الميكروبية

395
المادّة والفيزيولوجيا:

خذ إليك فيزيولوجيا الإنسان في حقائقها المدهشة، واقرأ فيها عظمة الخالق ودقّته في كلّ ما تشرحه من تفاصيل، وتوضّحه من أسرار. فهذا جهاز الهضم أعظم معمل كيميائي في العالم بما يتفنّن به من أساليب تحليل الأغذية المختلفة تحليلًا كيميائياً مدهشاً، وتوزيع الموادّ الغذائية الصالحة توزيعاً عادلًا على بلايين الخلايا الحيّة التي يأتلف منها جسم الإنسان؛ إذ تتلقّى كلّ خلية مقدار حاجتها، فيتحوّل إلى عظام، وشعر، وأسنان، وأظافر، وأعصاب، طبق خطّة مرسومة للوظائف المفروضة عليها في نظام لم تعرف الإنسانية أدقّ منه وأروع.
ونظرة واحدة إلى تلك الخلايا الحيّة التي تنطوي على سرّ الحياة، تملأ النفس دهشة وإعجاباً بالخلية حين تتكيّف بمقتضيات موضعها وظروفها. فكأنّ كلّ خلية تعرف هندسة العضو الذي تتوفّر على إيجاده مع سائر الخلايا المشتركة معها في ذلك العضو، وتدرك وظيفته، وكيف يجب أن يكون.
وجهاز الحسّ البصري الصغير المتواضع في حجمه لا يقلّ عن كلّ ذلك روعة وإتقاناً، ودلالة على الإرادة الواعية، والعقل الخالق. فقد ركّب تركيباً دقيقاً كاملًا، لم يكن يتمّ الإبصار بدون شي‏ء من أجزائه. فالشبكة التي تعكس العدسة عليها النور تتكوّن من تسع طبقات منفصلة، مع أ نّها لا تزيد في سمكها على ورقة رفيعة، والطبقة الأخيرة منها تتكوّن من ثلاثين مليوناً من الأعواد، وثلاثة ملايين من المخروطات، وقد نظّمت هذه الأعواد والمخروطات تنظيماً محكماً رائعاً، غير أنّ الأشعّة الضوئية ترتسم عليها بصورة معكوسة، ولذا شاءت العناية الخالقة أن يزوّد جهاز الإبصار- وراء تلك الشبكة- بملايين من خريطات الأعصاب، وعندها تحدث بعض التغييرات الكيميائية، ويحصل أخيراً إدراك‏

394

المادّة والوجدان‏

إنّ موقفنا من الطبيعة، وهي زاخرة بدلائل القصد والغاية والتدبير، كموقف عامل يكتشف في حفرياته أجهزة دقيقة مكتنزة في الأرض، فإنّ هذا العامل سوف لا يشكّ في أنّ هناك يداً فنّانة ركّبت تلك الأجهزة بكلّ دقّة وعناية، تحقيقاً لأغراض معيّنة منها، وكلّما عرف العامل حقائق جديدة عن دقّة الصنع في تلك الأجهزة، وآيات الفن والإبداع فيها، ازداد إكباراً للفنّان الذي أنشأ تلك الأجهزة وتقديراً لنبوغه وعقله. فكذلك نقف- أيضاً- نفس هذا الموقف الذي توحي به طبيعة الإنسان ووجدانه من الطبيعة بصورة عامّة، مستوحين من أسرارها وآياتها عظمة المبدع الحكيم الذي أبدعها، وجلال العقل الذي انبثقت عنه.
فالطبيعة- إذن- صورة فنية رائعة، والعلوم الطبيعية هي الأدوات البشرية التي تكشف عن ألوان الإبداع في هذه الصورة، وترفع الستار عن أسرارها الفنّية وتموّن الوجدان البشري العام بالدليل تلو الدليل على وجود الخالق المدبّر الحكيم وعظمته وكماله. وهي كلّما ظفرت في شتّى ميادينها بنصر، أو كشفت عن سرّ، أمدّت الميتافيزيقية بقوّة جديدة، وأتحفت الإنسانية بدليل جديد على العظمة الخلّاقة المبدعة التي أبدعت تلك الصورة الخالدة ونظمتها بما يدعو إلى الدهشة والإعجاب والتقديس. وهكذا لا تدع الحقائق التي أعلنها العلم الحديث مجالًا للريب في مسألة الإله القادر الحكيم. فإذا كانت البراهين الفلسفية تملأ العقل يقيناً واعتقاداً، فإنّ المكتشفات العلمية الحديثة تملأ النفس ثقة وإيماناً بالعناية الإلهية، والتفسير الغيبي للُاصول الاولى للوجود.

393

المتجدّد. والسرّ في اضطرار الديالكتيك إلى هذا القول هو: تبرير التفسير المادّي للحركة؛ لأنّ سبب الحركة ورصيدها لا بدّ أن يكون محتوياً ذاتياً على ما يموّن الحركة ويمدّها به من أطوار وتكاملات، وحيث إنّ المادّة عند الديالكتيك هي السبب المموّن لحركتها، والدافع بها في مجال التطوّر، كان لزاماً على الديالكتيك أن يعترف للمادّة بخصائص الأسباب والعلل، ويعتبرها محتوية ذاتياً على جميع النقائض التي تتدرّج الحركة في تحقيقها؛ لتصلح أن تكون منبثقاً للتكامل ومموّناً أساسياً للحركة. وهكذا اعترف بالتناقض كنتيجة حتمية لتسلسله الفلسفي، فنبذ مبدأ عدم التناقض، وزعم أنّ المتناقضات مجتمعة دائماً في محتوى المادّة الداخلي، وأنّ المادّة بهذه الثروة المحتواة تكون سبباً للحركة والتكامل.
وأمّا التفسير الإلهي للحركة، فيبدأ مستفهماً عن تلك المتناقضات التي يزعم الديالكتيك احتواء المادّة عليها، فهل هي موجودة في المادّة جميعاً بالفعل، أو إنّها موجودة بالقوّة؟ ثمّ يستبعد الجواب الأوّل نهائياً؛ لأنّ المتناقضات لا يمكن لها- بحكم مبدأ عدم التناقض- أن تجتمع بالفعل، ولو اجتمعت بالفعل لجمدت المادّة وسكنت. ويبقى بعد ذلك الجواب الثاني، وهو: أنّ تلك النقائض موجودة بالقوّة، ومعنى وجودها بالقوّة: أنّ المادّة فيها استعداد لتقبّل التطوّرات المتدرّجة، وإمكانية للتكامل الصاعد بالحركة. وهذا يعني: أ نّها فارغة في محتواها الداخلي عن كلّ شي‏ء، سوى القابلية والاستعداد. والحركة في هذا الضوء خروج تدريجي من القابلية إلى الفعلية في مجال التطوّر المستمرّ، وليست المادّة هي العلّة الدافعة لها؛ لأنّها خالية من درجات التكامل التي تحقّقها أشواط التطوّر والحركة، ولا تحمل إلّاإمكانها واستعدادها. فلا بدّ- إذن- من التفتيش عن سبب الحركة الجوهرية للمادّة، ومموّنها الأساسي خارج حدودها، ولا بدّ أن يكون هذا السبب هو اللَّه- تعالى- الحاوي ذاتياً على جميع مراتب الكمال.

392

المادّة والحركة

المادّة في حركة مستمرّة وتطوّر دائم، وهذه حقيقة متّفق عليها بيننا جميعاً، والحركة تحتاج إلى سبب محرّك لها، وهذه حقيقة اخرى مسلّمة بلا جدال.
والمسألة الأساسية في فلسفة الحركة هي: أنّ المادّة المتحرّكة هل يمكن أن تكون هي علّة للحركة وسبباً لها؟ وفي صيغة اخرى: أنّ المتحرّك موضوع الحركة، والمحرّك سبب الحركة، فهل يمكن أن يكون الشي‏ء الواحد من الناحية الواحدة موضوعاً للحركة وسبباً لها في وقت واحد؟
والفلسفة الميتافيزيقية تجيب على ذلك مؤكّدة أنّ من الضروري تعدّد المتحرّك والمحرّك؛ لأنّ الحركة تطوّر وتكامل تدريجي للشي‏ء الناقص، ولا يمكن للشي‏ء الناقص أن يطوّر نفسه ويكمّل وجوده تدريجياً بصورة ذاتية؛ فإنّ الناقص لا يكون سبباً في الكمال. وعلى هذا الأساس وُضِعَت في المفهوم الفلسفي للحركة قاعدة الثنائية بين المحرّك والمتحرّك، وفي ضوء هذه القاعدة نستطيع أن نعرف أنّ سبب الحركة التطوّرية للمادّة في صميمها وجوهرها ليس هو المادّة ذاتها، بل مبدأ وراء المادّة، يمدّها بالتطوّر الدائم، ويفيض عليها الحركة الصاعدة والتكامل المتدرّج.
وعلى العكس من ذلك المادية الديالكتيكية؛ فإنّها لا تعترف بالثنائية بين المادّة المتحرّكة وسبب الحركة، بل تعتبر المادّة نفسها سبباً لحركتها وتطوّرها.
فللحركة- إذن- تفسيران:
أمّا التفسير الديالكتيكي الذي يعتبر المادّة نفسها سبباً للحركة، فالمادّة فيه هي الرصيد الأعمق للتطوّر المتكامل. وقد فرض هذا على الديالكتيك القول بأنّ المادّة منطوية ذاتياً على الأطوار والكمالات التي تحقّقها الحركة في سيرها

391

قطعت جزءاً منها.
وإذا كانت الوحدة المادّية قابلة للتجزئة والانفصال، فهي مؤتلفة- إذن- من مادّة بسيطة تركّز فيها قابلية التجزئة، واتّصالية مقوّمة لوحدتها. وهكذا يتّضح: أنّ وحدات العالم المادّي مركّبة من مادّة وصورة.

النتيجة الفلسفية من ذلك:

وحين يتبلور المفهوم الفلسفي للمادّة القاضي بائتلافها من مادّة وصورة، نعرف أنّ المادّة العلمية لا يمكن أن تكون هي المبدأ الأوّل للعالم؛ لأنّها بنفسها تنطوي على تركيب بين المادّة والصورة. ولا يمكن لكلّ من الصورة والمادّة أن يوجد مستقلًا عن الآخر، فيجب أن يوجد فاعل أسبق لعملية التركيب، تلك التي تحقّق للوحدات المادّية وجودها.
وبكلمة اخرى: أنّ المبدأ الأوّل هو الحلقة الاولى من سلسلة الوجود، وتسلسل الوجود يبدأ حتماً بالواجب بالذات، كما عرفنا في الجزء السابق في هذه المسألة. فالمبدأ الأوّل هو الواجب بالذات، وباعتباره كذلك يجب أن يكون غنياً في كيانه ووجوده عن شي‏ء آخر. والوحدات الأساسية في المادّة ليست غنية في كيانها المادّي عن فاعل خارجي؛ لأنّ كيانها مؤتلف من مادّة وصورة، فهي بحاجة إليهما معاً، وكلّ من المادّة والصورة بحاجة إلى الآخر في وجوده، فينتج من ذلك كلّه أن نعرف أنّ المبدأ الأوّل خارج عن حدود المادّة، وأنّ المادّة الفلسفية للعالم- القابلة للاتّصال والانفصال- بحاجة إلى سبب خارجي يحدّد وجودها الاتّصالي أو الانفصالي.

390

على محيط الدائرة الصغيرة. ومن الواضح: أ نّنا إذا حرّكنا الرحى تحرّكت كلتا الدائرتين. فلنحرّك الرحى، ونجعل النقطة التي وضعناها على الدائرة الكبيرة تتحرّك طبقاً لحركتها، ولكن لا نسمح لها بالحركة إلّابمقدار إحدى الوحدات المادّية، ثمّ نلاحظ في تلك اللحظة النقطة الموازية لها في الدائرة الصغيرة؛ لنتساءل: هل طوت من المسافة نفس المقدار الذي طوته النقطة المقابلة لها من الدائرة الكبيرة وهو وحدة كاملة، أو لم تطوِ إلّابعضه؟ أمّا أ نّها طوت نفس المقدار، فهو يعني: أنّ النقطتين سارتا مسافة واحدة، وهذا مستحيل؛ لأنّنا نعلم أنّ النقطة مهما كانت أبعد عن المركز الرئيسي للدائرة، تكون حركتها أسرع، ولذا تطوي في كلّ دورة مسافة أطول ممّا تطويه النقطة القريبة في تلك الدورة، فلا يمكن أن تتساوى النقطتان فيما طوتهما من المسافة. وأمّا أنّ النقطة القريبة طوت جزءاً من المسافة التي طوتها النقطة البعيدة، فهذا يعني: أنّ الوحدة التي اجتازتها النقطة البعيدة يمكن تجزئتها وتقسيمها، وليست وحدة لا تتجزّأ.

وهكذا يتّضح: أنّ أصحاب الفكرة القائلة بالوحدة التي لا تتجزّأ يواجهون موقفاً حرجاً؛ لأنّهم لا يمكنهم أن يعتبروا النقطة البعيدة والقريبة متساويتين في مقدار الحركة، ولا مختلفتين. ولم يبقَ لهم إلّاأن يزعموا لنا أنّ النقطة الموازية في الدائرة الصغيرة كانت ساكنة ولم تتحرّك، وكلّنا نعلم أنّ الدائرة القريبة من المركز لو كانت ساكنة في اللحظة التي تحرّكت فيها الدائرة الكبيرة، لترتّب على ذلك تفكّك أجزاء الرحى وتصدّعها[1].

وهذا البرهان يوضّح لنا: أنّ أيّ وحدة مادّية نفترضها فهي قابلة للتجزئة؛ لأ نّها حينما تطويها النقطة البعيدة عن المركز في حركتها، تكون النقطة القريبة قد

 

[1] يراجع للتفصيل الشفاء لابن سينا، الطبيعيّات( 1): 194، والنجاة لابن سينا: 197

389

ولكن من الواضح- على ضوء ما سبق- أنّ هذا الاكتشاف لا يثبت الجزء الذي لا يتجزّأ بمعناه الفلسفي؛ لأنّ وصول التحليل العلمي إلى ذرّة لا يستطيع أن يُجزّئَها، لا يعني أ نّها غير قابلة للتجزئة بحدّ ذاتها.
ج- المرحلة الثانية من الفيزياء الذرّية التي اعتبرت- على العكس من المرحلة الاولى- دليلًا قاطعاً على نفي الجزء الذي لا يتجزّأ؛ لأنّ العلم استطاع في هذه المرحلة أن يجزّئ الذرّة ويفجّرها، وتبخّرت بذلك فكرة الجزء الذي لا يتجزّأ.
وليست هذه المرحلة إلّاكالمرحلة السابقة في عدم صلتها بمسألة الجزء الذي لا يتجزّأ من ناحيتها الفلسفية؛ ذلك أنّ انقسام الذرّة أو تحطيم نواتها إنّما يغيّر فكرتنا عن الجزء، ولا يقضي بصورة نهائية على نظرية الجزء الذي لا يتجزّأ.
فالذرّة التي لا تنقسم بمعناها الذي كان لا يتصوّره (ديمقريطس)، أو بمعناها الذي وضع (والتن) على أساسه قانون النسب في الكيمياء .. قد تلاشى بتفجير الذرّة، ولكن هذا لا يعني أنّ المشكلة قد انتهت؛ فإنّ الوحدات الأساسية في عالم المادّة- وهي الشحنات الكهربائية، سواءٌ أكانت على شكل ذرّات وأجرام مادّية، أم على شكل أمواج- تواجه السؤال الفلسفي عمّا إذا كانت قابلة للتجزئة أو لا؟

الجزء والفلسفة:

وهكذا اتّضح في دراستنا أنّ مشكلة الجزء يجب أن تحلّ بطريقة فلسفية.
وللفلسفة طرق كثيرة للبرهنة فلسفياً على أنّ كلّ وحدة تقبل الانقسام ولا يوجد جزء لا يتجزّأ. ومن أوضح تلك الطرق أن نرسم دائرتين كالرحى، إحداهما في داخل الاخرى، ونقطة الوسط في الرحى هي مركز كلتا الدائرتين، ونضع نقطة على موضع معيّن من محيط الدائرة الكبيرة، ونقطة موازية لها