کتابخانه
43

المعنويّ للإنسانية، وبين حاجة هي من الحقّ المادّي لها، إذا أعوزها النظام الذي يجمع بين الناحيتين، ويوفَّق إلى حلّ المشكلتين.
إنّ إنساناً يعتصر الآخرون طاقاته، ولا يطمئنُّ إلى حياة طيّبة، وأجر عادل، وتأمين في أوقات الحاجة لهو إنسان قد حُرِمَ من التمتّع بالحياة، وحيل بينه وبين الحياة الهادئة المستقرّة. كما أنّ إنساناً يعيش مهدَّداً في كلّ لحظة، مُحاسَباً على كلّ حركة، مُعرَّضاً للاعتقال بدون محاكمة، وللسجن والنفي والقتل لأدنى بادرة لهو إنسان مروّع مرعوب، يسلبه الخوف حلاوة العيش، وينغّص الرعب عليه ملاذّ الحياة.
والإنسان الثالث المطمئنّ إلى معيشته، الواثق بكرامته وسلامته، هو حلم الإنسانية العذب. فكيف يتحقّق هذا الحلم؟ ومتى يصبح حقيقة واقعة؟
وقد قلنا: إنّ العلاج الشيوعي للمشكلة الاجتماعية ناقصٌ، مضافاً إلى ما أشرنا إليه من مضاعفات. فهو وإن كان تتمثّل فيه عواطف ومشاعر إنسانية أثارها الطغيان الاجتماعيّ العامّ، فأهاب بجملة من المفكّرين إلى الحلّ الجديد، غير أ نّهم لم يضعوا أيديهم على سبب الفساد ليقضوا عليه، وإنّما قضوا على شي‏ء آخر، فلم يُوفَّقوا في العلاج، ولم ينجحوا في التطبيب.
إنّ مبدأ الملكية الخاصّة ليس هو الذي نشأت عنه آثام الرأسمالية المطلقة التي زعزعت سعادة العالم وهناءه، فلا هو الذي يفرض تعطيل الملايين من العمّال في سبيل استثمار آلة جديدة تقضي على صناعاتهم، كما حدث في فجر الانقلاب الصناعي، ولا هو الذي يفرض التحكّم في اجور الأجير وجهوده بلا حساب، ولا هو الذي يفرض على الرأسماليّ أن يتلف كمّيات كبيرة من منتوجاته؛ تحفّظاً على ثمن السلعة وتفضيلًا للتبذير على توفير حاجات الفقراء بها، ولا هو الذي يدعوه إلى جعل ثروته رأس مال كاسب يضاعفه بالربا وامتصاص جهود المدينين‏

42

جديد إنساناً مثاليّاً في أفكاره وأعماله، وإن لم يكن يؤمن بذرّة من القيم المثالية والأخلاقية. ولو تحقّقت هذه المعجزة فلنا معهم- حينئذٍ- كلام.
وأمّا الآن فوضع التصميم الاجتماعي الذي يرومونه يستدعي حبس الأفراد في حدود فكرة هذا التصميم، وتأمين تنفيذه بقيام الفئة المؤمنة به على حمايته، والاحتياط له بكبت الطبيعة الإنسانية والعواطف النفسية، ومنعها عن الانطلاق بكلّ اسلوب من الأساليب. والفرد في ظلّ هذا النظام وإن كسب تأميناً كاملًا، وضماناً اجتماعياً لحياته وحاجاته؛ لأنّ الثروة الجماعية تمدُّه بكلّ ذلك في وقت الحاجة، ولكن أليس من الأحسن بحال هذا الفرد أن يظفر بهذا التأمين دون أن يخسر استنشاق نسيم الحرّية المهذّبة، ويضطرّ إلى إذابة شخصه في النار، وإغراق نفسه في البحر الاجتماعيّ المتلاطم؟!
وكيف يمكن أن يطمع بالحرّية- في ميدان من الميادين- إنسان حُرِمَ من الحرّية في معيشته، ورُبِطت حياته الغذائية ربطاً كاملًا بهيئة معيَّنة، مع أنّ الحرّية الاقتصادية والمعيشية هي أساس الحرّيات جميعاً؟
ويعتذر عن ذلك المعتذرون، فيتساءلون: ماذا يصنع الإنسان بالحرّية والاستمتاع بحقّ النقد والإعلان عن آرائه، وهو يرزح تحت عب‏ءٍ اجتماعيٍّ فظيع؟! وماذا يجديه أن يناقش ويعترض، وهو أحوج إلى التغذية الصحيحة والحياة المكفولة منه إلى الاحتجاج والضجيج الذي تنتجه له الحرّية؟!
وهؤلاء المتسائلون لم يكونوا ينظرون إلّاإلى الديمقراطية الرأسمالية، كأ نّها القضيّة الاجتماعية الوحيدة التي تنافس قضيّتهم في الميدان، فانتقصوا من قيمة الكرامة الفردية وحقوقها؛ لأنّهم رأوا فيها خطراً على التيّار الاجتماعيّ العامّ، ولكن من حقّ الإنسانية أن لا تضحّي بشي‏ء من مقوّماتها وحقوقها ما دامت غير مضطرّة إلى ذلك، وإنّها إنّما وقفت موقف التخيير بين كرامة هي من الحق‏

41

فبقيت تلك النقطة محافظة على موضعها من الحياة الاجتماعية في المذهب الشيوعي. وبهذا لم تظفر الإنسانية بالحلّ الحاسم لمشكلتها الكبرى، ولم تحصل على الدواء الذي يطبّب أدواءها، ويستأصل أعراضها الخبيثة.
أمّا مضاعفات هذا العلاج فهي جسيمة جدّاً: فإنّ من شأنه القضاء على حرّيات الأفراد لإقامة الملكية الشيوعية مقام الملكيّات الخاصّة؛ وذلك لأنّ هذا التحويل الاجتماعي الهائل على خلاف الطبيعة الإنسانية العامّة إلى حدّ الآن على الأقلّ- كما يعترف بذلك زعماؤه- باعتبار أنّ الإنسان المادّي لا يزال يفكّر تفكيراً ذاتيّاً، ويحسب مصالحه من منظاره الفردي المحدود. ووضع تصميم جديد للمجتمع يذوب فيه الأفراد نهائيّاً ويقضي على الدوافع الذاتية قضاءً تامّاً موضعَ التنفيذِ، يتطلّب قوّة حازمة تمسك زمام المجتمع بيدٍ حديدية، وتحبس كلّ صوتٍ يعلو فيه، وتخنق كلّ نفس يتردّد في أوساطه، وتحتكر جميع وسائل الدعاية والنشر، وتضرب على الامّة نطاقاً لا يجوز أن تتعدّاه بحال، وتعاقب على التهمة والظنّة؛ لئلّا يفلت الزمام من يدها فجأة.
وهذا أمر طبيعيٌّ في كلّ نظامٍ يراد فرضه على الامّة قبل أن تنضج فيها عقلية ذلك النظام وتعمَّ روحيّته.
نعم، لو أخذ الإنسان المادّي يفكّر تفكيراً اجتماعياً، ويعقل مصالحه بعقليّة جماعية، وذابت من نفسه جميع العواطف الخاصّة والأهواء الذاتية والانبعاثات النفسية، لأمكن أن يقوم نظام يذوب فيه الأفراد، ولا يبقى في الميدان إلّاالعملاق الاجتماعي الكبير. ولكن تحقيق ذلك في الإنسان المادّي الذي لا يؤمن إلّابحياة محدودة، ولا يعرف معنى لها إلّااللذّة المادّية، يحتاج إلى معجزة تخلق الجنّة في الدنيا، وتنزل بها من السماء إلى الأرض. والشيوعيّون يعدوننا بهذه الجنّة، وينتظرون ذلك اليوم الذي يقضي فيه المعملُ على طبيعة الإنسان، ويخلقه من‏

40

وبهذا كان المذهب الشيوعي حقيقاً بالدرس الفلسفي، وامتحانه عن طريق اختبار الفلسفة التي ركّز عليها وانبثق عنها، فإنّ الحكم على كلّ نظام يتوقّف على مدى نجاح مفاهيمه الفلسفية في تصوير الحياة وإدراكها.
ومن السهل أن ندرك في أوّل نظرة نلقيها على النظام الشيوعي المخفَّف أو الكامل، أنّ طابعه العامّ هو إفناء الفرد في المجتمع، وجعله آلة مسخَّرة لتحقيق الموازين العامّة التي يفترضها. فهو على النقيض تماماً من النظام الرأسمالي الحرّ الذي يجعل المجتمع للفرد ويسخّره لمصالحه، فكأ نّه قد قُدِّر للشخصية الفردية والشخصية الاجتماعية- في عرف هذين النظامين- أن تتصادما وتتصارعا.
فكانت الشخصية الفردية هي الفائزة في أحد النظامين الذي أقام تشريعه على أساس الفرد ومنافعه الذاتية، فمني المجتمع بالمآسي الاقتصادية التي تزعزع كيانه وتشوِّه الحياة في جميع شُعَبِها. وكانت الشخصية الاجتماعية هي الفائزة في النظام الآخر الذي جاء يتدارك أخطاء النظام السابق، فساند المجتمع، وحكم على الشخصية الفردية بالاضمحلال والفناء، فاصيب الأفراد بمحن قاسية قضت على حرّيتهم ووجودهم الخاصّ، وحقوقهم الطبيعية في الاختيار والتفكير.

المؤاخذات على الشيوعية:

والواقع: أنّ النظام الشيوعي وإن عالج جملة من أدواء الرأسمالية الحرّة بمحوه للملكية الفردية، غير أنّ هذا العلاج له مضاعفات طبيعية تجعل ثمن العلاج باهظاً، وطريقة تنفيذه شاقّة على النفس لا يمكن سلوكها إلّاإذا فشلت سائر الطرق والأساليب، هذا من ناحية، ومن ناحية اخرى هو علاج ناقص لا يضمن القضاء على الفساد الاجتماعي كلّه؛ لأنّه لم يحالفه الصواب في تشخيص الداء، وتعيين النقطة التي انطلق منها الشرّ حتّى اكتسح العالم في ظلّ الأنظمة الرأسمالية،

39

ولا يعني هذا كلّه أنّ اولئك الزعماء مقصّرون، أو أ نّهم غير جادّين في مذهبهم وغير مخلصين لعقيدتهم، وإنّما يعني: أ نّهم اصطدموا بالواقع حين أرادوا التطبيق، فوجدوا الطريق مليئاً بالمعاكسات والمناقضات التي تضعها الطبيعة الإنسانية أمام الطريقة الانقلابية للإصلاح الاجتماعي الذي كانوا يبشّرون به، ففرض عليه الواقع التراجعَ آملين أن تتحقّق المعجزة في وقت قريب أو بعيد.
وأمّا من الناحية السياسية، فالشيوعية تستهدف في نهاية شوطها الطويل إلى محو الدولة من المجتمع حين تتحقّق المعجزة، وتعمّ العقلية الجماعية كلَّ البشر، فلا يفكّر الجميع إلّافي المصلحة المادية للمجموع. وأمّا قبل ذلك، ما دامت المعجزة غير محقّقة، وما دام البشر غير موحَّدين في طبقة، والمجتمع ينقسم إلى قوىً رأسمالية وعمّالية، فاللازم أن يكون الحكم عمّالياً خالصاً، فهو حكم ديمقراطي في حدود دائرة العمّال، ودكتاتوري بالنسبة إلى العموم. وقد علَّلوا ذلك بأنّ الدكتاتورية العمّالية في الحكم ضرورية في كلّ المراحل التي تطويها الإنسانية بالعقلية الفردية؛ وذلك حمايةً لمصالح الطبقة العاملة، وخنقاً لأنفاس الرأسمالية، ومنعاً لها عن البروز إلى الميدان من جديد.
والواقع: أنّ هذا المذهب الذي يتمثَّل في الاشتراكية الماركسية، ثمّ في الشيوعية الماركسية يمتاز على النظام الديمقراطي الرأسمالي بأ نّه يرتكز على فلسفة مادّية معيّنة، تتبنّى فهماً خاصّاً للحياة، لا يَعترف لها بجميع المثُل والقيم المعنوية، ويعلِّلها تعليلًا لا موضع فيه لخالق فوق حدود الطبيعة، ولا لجزاء مرتقب وراء حدود الحياة المادّية المحدودة. وهذا على عكس الديمقراطية الرأسمالية؛ فإنّها وإن كانت نظاماً مادّياً ولكنّها لم تبنَ على أساس فلسفيٍّ محدَّد. فالربط الصحيح بين المسألة الواقعية للحياة والمسألة الاجتماعية آمنت به الشيوعية المادّية، ولم تؤمن به الديمقراطية الرأسمالية أو لم تحاول إيضاحه.

38

فالخطّ الأوّل من خطوط الاقتصاد الشيوعي وهو: إلغاء الملكية الفردية، قد بُدِّل إلى حلٍّ وسط، وهو: تأميم الصناعات الثقيلة والتجارة الخارجية والتجارات الداخلية الكبيرة، ووضعها جميعاً تحت الانحصار الحكومي. وبكلمة اخرى: إلغاء رأس المال الكبير مع إطلاق الصناعات والتجارات البسيطة وتركها للأفراد.
وذلك لأنّ الخطّ العريض في الاقتصاد الشيوعي اصطدم بواقع الطبيعة الإنسانية الذي أشرنا إليه؛ حيث أخذ الأفراد يتقاعسون عن القيام بوظائفهم والنشاط في عملهم، ويتهرَّبون من واجباتهم الاجتماعية؛ لأنّ المفروض تأمين النظام لمعيشتهم وسدِّ حاجاتهم، كما أنّ المفروض فيه عدم تحقيق العمل والجهد- مهما كان شديداً- لأكثر من ذلك. فعلام- إذن- يجهد الفرد ويكدح ويجدُّ ما دامت النتيجة في حسابه هي النتيجة في حالي الخمول والنشاط؟! ولماذا يندفع إلى توفير السعادة لغيره وشراء راحة الآخرين بعرقه ودموعه وعصارة حياته وطاقاته، ما دام لا يؤمن بقيمة من قيم الحياة، إلّاالقيمة المادّية الخالصة؟!!
فاضطرّ زعماء هذا المذهب إلى تجميد التأميم المطلق، وإلى تعديل الخطّ الثاني من خطوط الاقتصاد الشيوعي أيضاً، وذلك بجعل فوارق بين الاجور؛ لدفع العمّال إلى النشاط والتكامل في العمل، معتذرين بأ نّها فوارق موقَّتة سوف تزول حينما يُقضى‏ على العقلية الرأسمالية، وينشأ الإنسان إنشاءً جديداً. وهم لأجل ذلك يجرون التغييرات المستمرّة على طرائقهم الاقتصادية وأساليبهم الاشتراكية؛ لتدارك فشل كلّ طريقة بطريقة جديدة. ولم يوفَّقوا حتّى الآن للتخلّص من جميع الركائز الأساسية في الاقتصاد الرأسمالي، فلم تلغ- مثلًا- القروض الربوية نهائياً، مع أ نّها في الواقع أساس الفساد الاجتماعي في الاقتصاد الرأسمالي.

37

لجشعه واندفاعاً بدافع الاثرة وراء المصلحة الشخصية.
ثانياً- على توزيع السلع المنتجة على حسب الحاجات الاستهلاكية للأفراد، ويتلخّص في النصّ الآتي: «من كلٍّ حسب قدرته، ولكلٍّ حسب حاجته»؛ وذلك أنّ كلّ فرد له حاجات طبيعية لا يمكنه الحياة بدون توفيرها، فهو يدفع للمجتمع كلّ حهده، فيدفع له المجتمع متطلّبات حياته، ويقوم بمعيشته.
ثالثاً- على منهاج اقتصادي ترسمه الدولة، وتوفِّق فيه بين حاجة المجموع والإنتاج: في كمّيته، وتنويعه، وتحديده؛ لئلّا يمنى المجتمع بنفس الأدواء والأزمات التي حصلت في المجتمع الرأسمالي حينما أطلق الحرّيات بغير تحديد.

الانحراف عن العملية الشيوعية:

ولكنّ أقطاب الشيوعية الذين نادوا بهذا النظام لم يستطيعوا أن يطبّقوه بخطوطه كلّها حين قبضوا على مقاليد الحكم، واعتقدوا أ نّه لا بدّ لتطبيقه من تطوير الإنسانية في أفكارها ودوافعها ونزعاتها، زاعمين أنّ الإنسان سوف يجي‏ء عليه اليوم الذي تموت في نفسه الدوافع الشخصية والعقلية والفردية، وتحيا فيه العقلية الجماعية والنوازع الجماعية، فلا يفكّر إلّافي المصلحة الاجتماعية، ولا يندفع إلّا في سبيلها.
ولأجل ذلك كان من الضروري- في عرف هذا المذهب الاجتماعي- إقامة نظام اشتراكي قبل ذلك؛ ليتخلّص فيه الإنسان من طبيعته الحاضرة، ويكتسب الطبيعة المستعدّة للنظام الشيوعي.
وهذا النظام الاشتراكي اجريت فيه تعديلات مهمّة على الجانب الاقتصادي من الشيوعية.

36

التحقيقين إيمانه بضرورة فناء المجتمع الرأسمالي، وإقامة المجتمع الشيوعي والمجتمع الاشتراكي الذي اعتبره خطوة للإنسانية إلى تطبيق الشيوعية تطبيقاً كاملًا.
فالميدان الاجتماعي في هذه الفلسفة ميدان صراع بين المتناقضات، وكلّ وضع اجتماعي يسود ذلك الميدان فهو ظاهرة مادّية خالصة، منسجمة مع سائر الظواهر والأحوال المادّية ومتأثّرة بها، غير أ نّه في نفس الوقت يحمل نقيضه في صميمه، وينشب- حينئذٍ- الصراع بين النقائض في محتواه، حتّى تتجمَّع المتناقضات، وتُحدِث تبدّلًا في ذلك الوضع وإنشاءً لوضع جديد، وهكذا يبقى العراك قائماً حتّى تكون الإنسانية كلّها طبقةً واحدة، وتتمثَّل مصالح كلّ فرد في مصالح تلك الطبقة الموحّدة. في تلك اللحظة يسود الوئام، ويتحقّق السلام، وتزول نهائياً جميع الآثار السيّئة للنظام الديمقراطي الرأسمالي؛ لأنّها إنّما كانت تتولَّد من تعدّد الطبقة في المجتمع، وهذا التعدّد إنّما نشأ من انقسام المجتمع إلى منتج وأجير. وإذاً فلا بدّ من وضع حدٍّ فاصل لهذا الانقسام، وذلك بإلغاء الملكيّة.
وتختلف هنا الشيوعية عن الاشتراكية في الخطوط الاقتصادية الرئيسية؛ وذلك لأنّ الاقتصاد الشيوعي يرتكز:
أوّلًا- على إلغاء المِلْكية الخاصّة ومحوها محواً تامّاً من المجتمع، وتمليك الثروة كلّها للمجموع، وتسليمها إلى الدولة باعتبارها الوكيل الشرعي عن المجتمع في إدارتها واستثمارها لخير المجموع. واعتقاد المذهب الشيوعي بضرورة هذا التأميم المطلق إنّما كان ردّ الفعل الطبيعي لمضاعفات المِلْكية الخاصّة في النظام الديمقراطي الرأسمالي. وقد بُرِّر هذا التأميم بأنّ المقصود منه إلغاء الطبقة الرأسمالية، وتوحيد الشعب في طبقة واحدة؛ ليختم بذلك الصراع، ويسدّ على الفرد الطريق إلى استغلال شتّى الوسائل والأساليب لتضخيم ثروته، إشباعا

35

الاشتراكية والشيوعية

في الاشتراكية مذاهب متعدّدة، وأشهرها المذهب الاشتراكي القائم على النظرية الماركسية والمادّية الجدلية التي هي عبارة عن فلسفة خاصّة للحياة، وفهم مادّي لها على طريقة ديالكتيكية. وقد طبّق المادّيون الديالكتيكيون هذه المادّية الديالكتيكية على التأريخ والاجتماع والاقتصاد، فصارت عقيدةً فلسفية في شأن العالم، وطريقة لدرس التأريخ والاجتماع، ومذهباً في الاقتصاد، وخطّة في السياسة.

وبعبارة اخرى: أ نّها تصوغ الإنسان كلّه في قالب خاصّ، من حيث لون تفكيره ووجهة نظره إلى الحياة وطريقته العملية فيها. ولا ريب في أنّ الفلسفة المادّية وكذلك الطريقة الديالكتيكية ليستا من بدع المذهب الماركسي وابتكاراته، فقد كانت النزعة المادّية تعيش منذ آلاف السنين في الميدان الفلسفي سافرةً تارة، ومتواريةً اخرى وراء السفسطة والإنكار المطلق، كما أنّ الطريقة الديالكتيكيّة في التفكير عميقة الجذور ببعض خطوطها في التفكير الإنساني، وقد استكملت كلّ خطوطها على يد (هيجل) الفيلسوف المثالي المعروف. وإنّما جاء (كارل ماركس) إلى هذا المنطق وتلك الفلسفة فتبنّاهما، وحاول تطبيقهما على جميع ميادين الحياة، فقام بتحقيقين:

أحدهما: أن فسَّر التأريخ تفسيراً مادّياً خالصاً بطريقة ديالكتيكيّة.

والآخر: زعم فيه أ نّه اكتشف تناقضات رأس المال والقيمة الفائضة التي يسرقها صاحب المال في عقيدته من العامل‏[1]. وأشاد على أساس هذين‏

 

[1] شرحنا هذه النظريّات مع دراسة علمية مفصّلة في كتاب( اقتصادنا).( المؤلّف قدس سره)