کتابخانه
128

بطريقة الإدراك، ولكنّا نختلف معه في تبرير ذلك: فنحن إذ نؤمن بأنّ عنصر الوجود ليس هو المميّز الأساس للاعتقاد عن التصوّر، نستند في ذلك إلى أنّ هذا العنصر قد يدخل في محتوى الفكرة، وتظلّ الفكرة رغم ذلك تصوّراً. فإذا قيل لنا مثلًا: «يوجد طائر له رأسان»، ولم نصدّق بذلك، فسوف توجد في ذهننا فكرة «طائر له رأسان» على مستوى التصوّر، وسوف نتصوّر وجوده أيضاً دون أن نعتقد به.
فدخول عنصر الوجود في محتوى الفكرة لا يكفي ليجعل منها اعتقاداً، بل إنّ عنصر الوجود كأيّ عنصر من العناصر الاخرى التي يتأ لّف منها محتوى الفكرة، يصلح للدخول في محتوى التصوّر والاعتقاد معاً. فلا بدّ إذن من فرق آخر يميّز بين فكرتنا عن «طائر له رأسان» وفكرتنا عن «طائر له رأس واحد» ما دام بإمكاننا أن نفترض الوجود في محتوى كلّ من هاتين الفكرتين، وتظلّ الفكرة الاولى رغم ذلك تصوّراً والفكرة الثانية اعتقاداً.
بهذا الشكل نستنتج: أنّ الفرق بين التصوّر والاعتقاد في طريقة الإدراك، لا في محتواه. بينما يحاول (هيوم) أن يستخلص النتيجة نفسها من القول بأنّ الوجود ليس من العناصر التي يمكن أن تضاف إلى ما ندركه فتزيد فيه شيئاً؛ لأنّنا إذا تصوّرنا شيئاً، ثمّ تصوّرناه موجوداً، فلا نجد أ نّنا أضفنا بذلك إلى الشي‏ء صفة جديدة؛ أي أنّ الوجود لا يعبّر عن أيّ معنى جديد غير المعاني التي تعبّر عنها عادةً سائر الكلمات، فقولنا: «طائر له رأسان»، وقولنا: «طائر موجود له رأسان» لهما معنى واحد.
وهذا الموقف من (هيوم) تجاه مفهوم الوجود يرتبط بالتزامه المبدئي بأنّ كلّ فكرة هي في أصلها نسخة من انطباع، وما دام لا يوجد هناك انطباع معيّن تكون فكرة الوجود نسخة منه، فمن الطبيعي أن يضطرّ (هيوم) إلى القول: بأن‏

126

نقد وتمحيص لمفاهيم هذا الاتجاه:

وسوف نركّز فيما يلي على النقاط الرئيسيّة في التفكير الفلسفي لدافيد هيوم، بالقدر الذي يتّصل بمشكلة الاستقراء، ونقوم بدرسها ومناقشتها:

1- ما هو الاعتقاد؟

ونقطة البدء التي يجب أن نبدأ منها هي طريقة (هيوم) في تفسير الاعتقاد، وتتلخّص هذه الطريقة في أمرين‏[1]:

أوّلًا: إنّ الفارق بين التصوّر والاعتقاد ليس في المحتوى، بل في طريقة إدراكه. فنحن إذا قارنّا بين مجرّد تصوّرنا لفكرة معيّنة وحكمنا بوجود الشي‏ء الذي تمثّله هذه الفكرة، نجد فرقاً بين الأمرين، ولا يتمثّل هذا الفرق في إضافة عناصر جديدة في الحالة الثانية إلى ما كانت عليه الفكرة في الحالة الاولى، بحيث تصبح الفكرة اعتقاداً؛ لأنّ فكرة الوجود لا تختلف في شي‏ء قطّ عن فكرة الشي‏ء الذي ننعته بالوجود. تصوّر شيئاً ما، ثمّ تصوّر ذلك الشي‏ء موجوداً وجوداً حقيقيّاً، فلن تجد فرقاً بين الحالتين، أي أنّ تصوّرك لذلك الشي‏ء لا يزيد ولا ينقص ولا يختلف عن مجرّد تصوّرك له تصوّراً عقليّاً.

وهكذا نعرف أنّ الوجود ليس صفة تضاف إلى سائر صفات الشى‏ء الذي ندركه، وأنّ اعتقادنا بوجود الشي‏ء لا يزيد من العناصر التي يتكوّن منها ذلك الشي‏ء. وهذا يعني أنّ الوجود ليس له فكرة خاصّة به تضاف أو تحذف من فكرتنا عن شي‏ء معيّن نقول عنه: أ نّه موجود.

[1] انظر: ديفد هيوم، تأليف: زكي نجيب محمود، الصفحة 110 وما بعدها

127

ومع ذلك فلا نزال نقرّر أنّ ثمّة فرقاً واضحاً بين أن أتصوّر فكرة معيّنة لكائن معيّن، وبين أن أعتقد أنّ ذلك الكائن الذي تصوّرت فكرته في ذهني موجود. ولمّا كان هذا الفرق- كما تقدّم- ليس في مقوّمات الفكرة ومحتواها، إذن فلا بدّ أن يكون ناتجاً عن الطريقة التي نتصوّر بها الفكرة. أي أنّ صورة الفكرة ترتسم في أذهاننا على نحو مّا فتكون مجرّد فكرة، ثمّ ترتسم على نحو آخر فتصبح اعتقاداً بوجود الشي‏ء الذي تمثّله تلك الفكرة.
ثانياً: إنّ مردّ هذا الفرق في طريقة ارتسام الفكرة في ذهننا إلى ما تتمتّع به من قوّة وما تمتلئ به من حيويّة، فإذا كانت فكرتنا عن الشي‏ء مجدبة خافتة ليس فيها قوّة وحيويّة فهي مجرّد تصوّر. وإذا كانت زاخرة بالحيويّة والقوّة فهي اعتقاد.
وعلى ذلك فالاعتقاد لا يتناول بالتغيير إلّاالنحو الذي نتصوّر الموضوع في كنفه، فإنّ في وسع الاعتقاد أن يبسط على أفكارنا قوّة ويمدّها بحيويّة. ومن هنا أمكن لنا أن نعرّف الاعتقاد بأ نّه: فكرة حيّة قويّة. بينما التصوّر يعبّر عن نفس الفكرة إذاخلت من الحياة والقوّة.
وهذه الحيويّة التي تميّز الاعتقاد عن التصوّر تستمدّها الفكرة من الانطباع، وذلك إمّا بأن تكون الفكرة هي نفسها نسخة لانطباع من الانطباعات وصورة له، فتستمدّ من حيويّته وقوّته ما ينعشها ويجعلها اعتقاداً، وإمّا أن تكون الفكرة مرتبطة- برابطة العلّة والمعلول- بفكرة اخرى ذات انطباع مباشر، فتستمدّ تلك الفكرة الاخرى الحيويّة من الانطباع الذي تصوّره، ثمّ تفيض بحيويّتها على الفكرة الاولى المرتبطة بها.
ولنعلّق فيما يلي على هذين الأمرين:
أمّا الأمر الأوّل: فنحن نتّفق مع (هيوم) في أنّ الاعتقاد لا يمتاز على التصوّر بإضافة عنصر الوجود إلى محتواه أو أيّ عنصر آخر، وإنّما يمتاز عليه‏

125

الموجودة في الانطباع، وبذلك تنتعش وتصبح اعتقاداً. فالفارق الأساس بين الاعتقاد والخيال: أنّ الاعتقاد فكرة اكتسبت شيئاً من حيويّة الانطباع وقوّته، والخيال فكرة لم تكتسب شيئاً من ذلك.
أمّا كيف تكتسب الفكرة شيئاً من حيويّة الانطباع وقوّته؟ فهذا يتوقّف:
أوّلًا: على أن يوجد انطباع حيّ لموضوع مّا (أو فكرة من أفكار الذاكرة التي عرفنا سابقاً أ نّها تتمتّع بالحيويّة أيضاً كالانطباعات).
وثانياً: على أن يكون ذلك الموضوع الماثل انطباعه في الذهن مقترناً عادة بشي‏ء آخر، فينتقل الذهن من ذلك الموضوع إلى الشي‏ء الآخر على أساس النزعة الذاتيّة التي يولّدها الاقتران المتكرّر. فإذا توفّر هذان الأمران اكتسبت فكرة هذا الشي‏ء الآخر الحيويّة والقوّة من ذلك الانطباع الذي دفع الذهن نحوها، وبذلك تصبح اعتقاداً.
وهكذا نعرف: أنّ الاقتران المتكرّر بين (أ) و (ب) يجعل الذهن ينتقل بحكم نزعته الذاتيّة من (أ) إلى (ب). فإن كان (أ) متمثّلًا في انطباع حيّ فسوف تنعكس حيويّته على فكرة (ب)، وإذا كان (أ) مجرّد فكرة فسوف يتيح للذهن الانتقال إلى فكرة (ب)، ولكنّها لن تكون اعتقاداً؛ لعدم تسرّب الحيويّة والقوّة إليها من انطباع حيّ وقويّ. وهذا هو معنى أنّ فكرتنا عن تمدّد الحديد تظلّ فكرة إلى أن يوجد في ذهننا انطباع عن وجود الحرارة فيه، فتتسرّب الحيويّة من هذا الانطباع إلى تلك الفكرة فتصبح اعتقاداً.
هذا تلخيص للنقاط الرئيسيّة التي تحدّد موقف (دافيد هيوم) من مشكلة الاستقراء وطريقته في تفسير الدليل الاستقرائي وتبرير الاعتقاد بالقضايا المستدلّة بالاستقراء.

124

من رؤية جسم واحد يتحرّك بدفع آخر أن نستدلّ على أنّ كلّ جسم يتحرّك من دفع مماثل، وذلك لأنّنا يلزمنا أن نلاحظ تكرار الاقتران بين هذين الموضوعين، لكي نتهيّأ بالعادة إلى الاستدلال من أحدهما على الآخر.
ولو لم تكن هذه العادة والنزعة هي الأساس لفكرتنا عن العلّة والمعلول، وكانت فكرتنا عن العلّة والمعلول تعكس الواقع الموضوعي لا انطباعنا النفسي الذاتي فحسب، لكفى‏ مثال واحد في الاستدلال؛ لأنّه لا يختلف في وجه من وجوهه عن كلّ الأمثلة الاخرى التي يمكن أن نضيفها إليه.
وعلى هذا فجميع الاستدلالات على علاقة العلّة والمعلول هي- إذن- آثار للعادة، لا للبرهان العقلي، وبالتالي يتّضح أنّ كلّ الاستدلالات الاستقرائيّة المختصّة بالواقع، تقوم على اساس ذاتي لا موضوعي؛ لأنّها جميعها ترتكز على علاقة العلّة والمعلول كما تقدّم سابقاً.
وإذا كان (دافيد هيوم) قد استطاع أن يفسّر لنا الدليل الاستقرائي والطفرة التي يستبطنها من الخاصّ إلى العامّ تفسيراً ذاتيّاً لا موضوعيّاً يقوم على أساس العادة والنزعة النفسيّة، بدلًا عن أن يقوم على أساس قوانين الواقع الموضوعي، فلا يعني هذا أنّ دافيد يشكّ في نتائج الدليل الاستقرائي، ولا يعتقد بالقضايا التي نستدلّ عليها بالتجربة والاستقراء، بل إنّه يؤكّد في نفس الوقت الاعتقاد بتلك القضايا، ولكي يتّضح موقفه من ذلك يجب أن نعرف: ماذا يقصد هيوم بالاعتقاد؟
إنّ الاعتقاد يتمثّل في فكرة تتمتّع بدرجة كبيرة من الحيويّة والقوّة، وقد عرفنا سابقاً أنّ (هيوم) قسّم الإدراك إلى انطباعات وأفكار، وميّز الانطباعات بما تتمتّع به من حيويّة وقوّة، خلافاً للأفكار التي لا تملك تلك الخصائص. وهنا يجب أن نعرف أنّ هذه الأفكار قد تكتسب- بطريقةٍ مّا- شيئاً من الحيويّة والقوّة

123

إلّا عن انطباع، وتعدّد الانطباعات ليس انطباعاً، فلا يمكن أن يؤدّي إلى تنمية مضمون تلك الانطباعات. ويستنتج هيوم من ذلك التفسيرَ الذي تبنّاه، وهو أ نّا حين نشاهد (أ) و (ب) مقترنتين مرّات كثيرة نحصل على انطباع من الإحساس بكلّ مرّة من تلك المرّات، وهذه الانطباعات التي تساوي عدد المرّات ليس في أيّ واحد منها القدرة على إيجاد فكرة الضرورة، ولكنّا نحصل إلى جانب تلك الانطباعات على انطباع يثيره في الذهن نفس تكرار الأمثلة التي اقترنت فيها (أ) مع (ب). وهذا الانطباع، هو عبارة عن تهيّؤ الذهن واستعداده لكي ينتقل من موضوع إلى فكرةٍ مّا يصاحبه عادة.
وهكذا يرى (هيوم): أنّ شعورنا القوي بتهيّؤ الذهن للانتقال من (أ) إلى (ب)، انطباع نتج عن تكرّر تلك الأمثلة، وهو يحمل ما تحمله الانطباعات من حيويّة وقوّة ووضوح، وهذا الانطباع هو الذي يولّد فينا فكرة الضرورة، أي فكرة العلّة والمعلول.
هذه هي طبيعة الضرورة التي تمثّلها فكرة العلّة والمعلول. هي شي‏ء قائم في الذهن لا في الأشياء، غير أنّ هناك نزعة في الذهن تجعله ينبسط على الموضوعات الخارجيّة، ويخلع عليها كلّ الانطباعات الباطنيّة التي تحدث في عين الوقت الذي تنكشف فيه هذه الموضوعات للحواسّ. فنحن نقذف خارجاً عنّا ذلك التهيّؤ الذي نستشعره في أنفسنا، وننقله إلى الموجودات التي تكتنفنا، وإنّ العادة أو بتعبير آخر تلك النزعة التي ننتقل بها من فكرة إلى اخرى هي التي تجعلنا ننسب للموضوعات ما يجري في أنفسنا.
ويستدلّ (هيوم) على أنّ فكرتنا عن العلّة والمعلول مرتبطة بتلك العادة أو النزعة التي تنشأ من التكرار، بأنّ كلّ إنسان يجد فارقاً كبيراً بين استدلال على العليّة يقوم على ألف مثال واستدلال عليها يقوم على مثال واحد: فإنّنا لا نستطيع‏

122

وهنا نصل إلى ما كنّا نستهدفه في البدء لكي نتساءل: كيف وجدت فكرة العلّة والمعلول في ذهننا؟ وما دمنا قد عرفنا أنّ كلّ فكرة هي وليدة انطباع، فما هو الانطباع الذي ولّد في ذهننا فكرة العلّة والمعلول؟ وليتاح لنا الجواب على هذا السؤال، يجب أن نعرف: ما هي فكرتنا عن علاقة العلّة والمعلول؟
وهنا يجيب (هيوم): بأنّ فكرة العلّة والمعلول لا تعني مجرّد تجاور الظاهرتين مكاناً أو زماناً، إذ كثيراً ما تتجاور ظاهرتان زماناً ومكاناً ولا ندرك أنّ بينهما علاقة العلّة والمعلول، وإنّما تعني الضرورة والحتميّة، ولمّا كان العقل لا يستطيع أن ينشئ فكرة جديدة وإنّما تتولّد الأفكار دائماً عن الانطباعات، فلا بدّ أن نفتّش عن الانطباع الذي نشأت عنه فكرة الضرورة.
لنعُد إذن إلى التجربة لنكتشف ذلك الانطباع، ولنفرض أ نّا رأينا (أ) و (ب) قد اقترنتا مرّة واحدة، إنّ ذلك الاقتران لا يجعلنا نقرّر في يقين أنّ هنالك رابطة بينهما، ولكن لنفرض أنّ هذا الاقتران بين (أ) و (ب) تكرّر في حالات كثيرة جدّاً، فسوف نجد أنّ هذا التكرار يجعلنا نفترض رابطة بين (أ) و (ب)، ونتّجه إلى أن نستدلّ من ظهور إحداهما على وجود الاخرى، وهذا يعني أنّ تعدّد الأمثلة والتكرار هو الذي يمدّنا بالينبوع القادر على منحنا فكرة الضرورة، فكيف يكون ذلك؟
إنّ (هيوم) يوضّح بهذا الصدد: أنّ التكرار وتعدّد الأمثلة نفسه لا يمكن أن يكون هو المولّد لفكرة الضرورة؛ لأنّ تعدّد الأمثلة لا يعني بالنسبة إلينا إلّاتعدّد الانطباعات؛ لأنّ كلّ مثال يولّد انطباعاً خاصّاً، وكلّ واحد من تلك الانطباعات لا يمكن أن يكون هو المولّد لفكرة الضرورة؛ لأنّ الضرورة ليست شيئاً محسوساً لكي تدخل في نطاق الانطباع الحسّي، كما لا يمكن أيضاً أن يكون تعدّد الانطباعات المتماثلة وتكرارها سبباً لإيجاد فكرة الضرورة؛ لأنّ الفكرة لا تنشأ

121

اخرى، نتيجة لارتباط إحداهما مع الاخرى بعلاقة من تلك العلاقات، وهذا ما يسمّى بالتداعي. وتلك العلاقات التي تؤدّي إلى التداعي وانتقال الذهن من فكرة إلى فكرة اخرى هي التشابه، والتجاور في الزمان أو المكان، والعلّة والمعلول.
وعلاقة العلّة والمعلول هي أهمّ تلك العلاقات؛ لأنّها تمتاز عن العلاقتين الاخريين بأ نّها لا تقع إلّاعلى حدّ واحد، فتنتقل منه إلى حدّ آخر. أو بعبارة اخرى: تثير بوقوفها على الحدّ الأوّل التفكير في الحدّ الثاني.
فمثلًا إذا رأينا الماء على النار، فسوف تثير علاقة العليّة في ذهننا فكرة حرارة ذلك الماء، رغم أ نّنا لا نملك أيّ انطباع عن تلك الحرارة. وإنّما نملك انطباعاً عن حدّ واحد، أي عن أحد طرفي علاقة العلّة والمعلول، وهو كون الماء على النار. وهذا معنى أنّ علاقة العليّة تقع على حدّ واحد، وتنقل بالذهن إلى الحدّ الآخر، أي الطرف الآخر لعلاقة العلّة والمعلول، وإن لم نحصل منه على أيّ انطباع سابق.
وتختلف عن ذلك علاقة التشابه أو علاقة التجاور؛ لأنّ هاتين العلاقتين وإن كانتا تنقلان الذهن من فكرة الشبيه أو المجاور إلى فكرة شبيهه ومجاوره، ولكنّ كلتا الفكرتين لهما انطباع سابق. فنحن حين نرى شخصاً كنّا نراه فيما سبق يسير باستمرار إلى جانب صديق له، ينتقل ذهننا إلى فكرة ذلك الصديق، ولكنّ هذا الصديق بنفسه كان قد مثل أمام الحسّ، ونشأت فكرتنا عنه من انطباع سابق.
فهكذا نلاحظ أنّ علاقة العليّة وحدها هي القادرة على أن تنقل ذهننا إلى فكرة شي‏ء لم يسبق أن مثل لحواسّنا. وعلى هذا الضوء تعتبر هي الأساس لكلّ الاستدلالات المختصّة بالواقع كما أشرنا سابقاً.

120

غير أنّ هيوم يتناول الانطباعات نفسها فيقسّمها إلى قسمين:
أحدهما: انطباعات الإحساس. والآخر: انطباعات التفكير.
فنحن حينما نبصر أسداً مثلًا نحصل على انطباع له في إدراكنا يتمتّع بالقوّة والحيويّة، وبعد أن يغيب الأسد عن أعيننا يزول الانطباع ويحتفظ الذهن بصورة منه، وهذه الصورة هي الفكرة، أي فكرتنا عن الأسد. وهذه الفكرة قد تولّد في النفس النفور والتهيّب، ويعتبر هذا النفور والتهيّب انطباعاً؛ لأنّه يتمتّع بدرجة كبيرة من الحيويّة والقوّة، وهذا الانطباع ليس وليد الإحساس، وإنّما هو وليد الفكرة، فهو انطباع الفكرة، بينما يكون الانطباع الذي ولّدته رؤيتنا للأسد انطباع الإحساس.
وأيّ انطباع يوجد في إدراكنا فهو يتّخذ بعد غيبة الموضوع مظهره كفكرة، وهذه الفكرة قد تحتفظ بدرجة كبيرة من حيويّة الانطباع، فتكون وسطاً بين انطباع وفكرة، وقد تفقد تلك الحيويّة فقداناً تامّاً فتغدو فكرة خالصة. والملكة التي نستعيد بها انطباعاتنا على المنوال الأوّل هي الذاكرة، والاخرى التي نستعيدها بها على المنوال الثاني هي الخيال. فأفكار الذاكرة تختلف عن أفكار الخيال في قوّتها وحيويّتها، كما تختلف عنها أيضاً في أ نّها نسخ حرفيّة للانطباعات التي ولّدتها ومطابقة لها، على حين أنّ الخيال حرّ طليق، ولكنّ حريّة الخيال ليست بمعنى قدرته على إنشاء أفكار جديدة بدون انطباعات سابقة؛ لأنّ كلّ فكرة لا توجد في إدراكنا إلّانتيجة انطباع، ولكنّ الخيال حرّ في التصرّف بذلك العدد الكبير من الأفكار الناتجة عن الانطباعات، فيفصل ويؤلّف فيما بينها مكوّناً الصور والأوضاع التي تروق له.
وهناك علاقات تنشأ عادةً بين تلك الأفكار الناتجة عن الانطباعات (ولنسمّها بالأفكار البسيطة) تجعل الذهن ينتقل بيسر من فكرة إلى فكرة