کتابخانه
167

وعلى هذا الضوء وضع (كانت) حدّاً فاصلًا بين (الشي‏ء في ذاته) و (الشي‏ء لذاتنا): فالشي‏ء في ذاته هو: الواقع الخارجي دون أيّ إضافة من ذاتنا إليه. وهذا الواقع المجرّد عن الإضافة الذاتية لا يقبل المعرفة؛ لأنّ المعرفة ذاتية وعقلية في صورتها. والشي‏ء لذاتنا هو: المزيج المركّب من الموضوع التجريبي، والصورة الفطرية القبلية التي تتّحد معه في الذهن. ولهذا تكون النسبية مفروضة على كلّ حقيقة تمثّل في إدراكاتنا للأشياء الخارجية، بمعنى: أنّ إدراكنا يدلّنا على حقيقة الشي‏ء لذاتنا، لا على حقيقة الشي‏ء في ذاته.
وبذلك تختلف العلوم الطبيعية عن العلوم الرياضية؛ فإنّ العلوم الرياضية لمّا كان موضوعها موجوداً في النفس بصورة فطرية، لم تقم فيها اثنينية بين الشي‏ء في ذاته والشي‏ء لذاتنا، وعلى عكس ذلك العلوم الطبيعية؛ فإنّها تتناول الظواهر الخارجية التي تقع عليها التجربة، وهي ظواهر موجودة بصورة مستقلّة عنّا، ونحن نعلمها في قوالبنا الفطرية، فلا غرو أن يفصل بين الشي‏ء في ذاته والشي‏ء لنا.
الثالثة- الميتافيزيقا. ويرى (كانت) استحالة التوصّل فيها إلى معرفة عن طريق العقل النظري، وأنّ أي محاولة لإقامة معرفة ميتافيزيقية على أساس فلسفي هي محاولة فاشلة ليست لها قيمة؛ وذلك أ نّه لا يصحّ في القضايا الميتافيزيقية شي‏ء من الأحكام التركيبية الأوّلية والأحكام التركيبية الثانوية:
أمّا الأحكام التركيبية الأوّلية فهي لمّا كانت أحكاماً مستقلّة عن التجربة، فلا تصحّ إلّاعلى موضوعات مخلوقة للنفس بصورة فطرية وجاهزة في الذهن بلا تجربة، كموضوعي العلوم الرياضية من الزمان والمكان، وليست الأشياء التي تتناولها الميتافيزيقا- وهي اللَّه، والنفس، والعالم- كذلك؛ فإنّ الميتافيزيقا لا تعالج اموراً ذهنية، وإنّما تحاول البحث عن أشياء موضوعية قائمة في نفسها.

166

التجريبي من تلك الأحكام العقلية، فهو الإحساسات المستوردة بالتجربة من الخارج، بعد صبّ الحسّ الصوري لها في قالبي الزمان والمكان. وأمّا الجانب العقلي فهو الرابطة الفطرية التي يسبغها العقل على المدرَكات الحسّية؛ ليتكوّن من ذلك علم ومعرفة عقلية. فالمعرفة- إذن- مزيج من الذاتية والموضوعية، فهي ذاتية في صورتها، وموضوعية في مادّتها؛ لأنّها نتيجة التوحيد بين المادّة التجريبية المستوردة من الخارج، وإحدى الصور العقلية الجاهزة فطرياً في العقل.
فنحن نعرف- مثلًا- أنّ الفلزات تتمدّد بالحرارة، وإذا أخذنا هذه المعرفة بشي‏ء من التحليل نتبيّن أنّ موادّها الخام وهي: ظاهرة التمدّد في الفلزات، وظاهرة الحرارة، جاءت عن طريق التجربة، ولولاها لما استطعنا أن ندرك هذه الظواهر. وأمّا الناحية الصورية في المعرفة أي: سببية إحدى الظاهرتين للُاخرى فليست تجريبية، بل مردّها إلى مقولة العلّية التي هي من مقولات العقل الفطرية، فلو لم نكن نملك هذه الصورة القبلية لما تكوّنت معرفة. كما أ نّا لو لم نحصل على الموادّ بالتجربة لما تحقّقت لنا معرفة أيضاً.
فالمعرفة توجد بتكييف العقل للموضوعات التجريبية بإطاراته وقوالبه الخاصّة، أي: مقولاته الفطرية، لا أنّ العقل هو الذي يتكيّف وأنّ إطاراته وقوالبه هي التي تتبلور تبعاً للموضوعات المدرَكة. فالعقل في ذلك نظير شخص يحاول أن يضع كمية من الماء في إناء ضيّق لا يسعها، فيعمد إلى الماء فيقلّل من كمّيته؛ ليمكن وضعه فيه بدلًا عن أن يوسع الإناء ليستوعب الماء كلّه.
وهكذا يتّضح الانقلاب الفكري الذي أحدثه (كانت) في مسألة الفكر الإنساني؛ إذ جعل الأشياء تدور حول الفكر وتتبلور طبقاً لإطاراته الخاصّة، بدلًا عمّا كان يعتقده الناس: من أنّ الفكر يدور حول الأشياء ويتكيّف تبعاً لها.

165

مستقلّة عن التجربة، وينتج من ذلك: أنّ كلّ ما نعزوه للأشياء من أحكام متعلّقة بمكانها أو زمانها فهو مستمدّ من فطرتنا، ولم نعتمد فيه على ما أتانا من الخارج بواسطة الحسّ. وعلى ذلك فكلّ القضايا الرياضية مشتقّة من طبائع عقولنا، بمعنى: أ نّنا نحن خلقناها بأنفسنا ولم نستوردها من الخارج؛ إذ هي تدور حول الزمان والمكان الفطريين.
وبهذا تصبح الرياضة والمبادئ الرياضية ممكنة المعرفة، وتصبح الحقائق الرياضية حقائق يقينية مطلقة، فلا تتّسع في الميدان الرياضي للخطأ أو التناقض، ما دام الميدان الرياضي هو الميدان الفطري للنفس، وما دامت قضاياه منشأة من قبلنا وليست مقتبسة من واقع موضوعي منفصل عنّا، لنشكّ في مدى إمكان معرفته واستكناه سرّه.
والثانية- الطبيعيات، أي: المعارف البشرية عن العالم الموضوعي الذي يدخل في نطاق التجربة.
ويبدأ (كانت) هنا باستبعاد المادّة عن هذا النطاق؛ لأنّ الذهن لا يدرك من الطبيعة إلّاظواهرها. فهو يتّفق مع (باركلي) على أنّ المادّة ليست موضوعاً للإدراك والتجربة، ولكنّه يختلف عنه من ناحية اخرى. فهو لا يعتبر ذلك دليلًا على عدم وجود المادّة ومبرّراً لنفيها فلسفياً كما زعم (باركلي).
وإذا اسقطت المادّة من الحساب فلا يبقى للعلوم الطبيعية إلّاالظواهر التي تدخل في حدود التجربة، فهذه الظواهر هي موضوع هذه العلوم ولذلك كانت الأحكام فيها تركيبية ثانوية؛ لأنّها ترتكز على درس الظواهر الموضوعية للطبيعة، وهذه الظواهر إنّما تدرك بالتجربة.
وإذا أردنا أن نحلّل هذه الأحكام التركيبية الثانوية من قبل العقل، وجدناها مركّبة في الحقيقة من عنصرين: أحدهما تجريبي، والآخر عقلي. أمّا الجانب‏

164

العقلية إلى ثلاث طوائف‏[1]:

الاولى- الرياضيات. والأحكام العقلية فيها كلّها أحكام تركيبية أوّلية سابقة على التجربة؛ لأنّها تعالج موضوعات فطرية في النفس البشرية: فالهندسة تختصّ بالمكان، والحساب موضوعه هو العدد، والعدد عبارة عن تكرار الوحدة، والتكرار معناه التعاقب والتتابع، وهذا هو الزمن في مفهومه الفلسفي عند (كانت). وإذن فالقطبان الرئيسيان اللذان تدور حولهما المبادئ الرياضية هما: المكان، والزمان. والمكان والزمان في رأي (كانت) صورتان فطريتان في الحسّاسية الصورية للإنسان، أي: أنّ صورتيهما موجودتان في الحسّ الصوري بصورة

 

[1] ينبغي للقارئ أن يعرف شيئاً عن تحليل المعرفة في رأي( كانت)، لتتّضح له نظريته في قيمة المعرفة وإمكانها، فهو يرى أنّ الحسّ التجريبي يستورد الموضوعات التجريبية بصورة مشوّشة، فتنشأ بذلك إحساسات متفرّقة: فالطعم الذي جاء على اللسان، لا يرتبط بالرائحة التي سلكت عن طريق الأنف، ولا باللمعة الخاطفة من الضوء التي أثّرت على شبكية العين، ولا بالصوت الذي طرق الاذن. وهذه الأشتات الحسّية تتوحّد في قالبين موجودين في الحسّ بالفطرة، وهما: قالبا الزمان، والمكان، فينتج عن ذلك إدراك حسّي أو معرفة حسّية لشي‏ء معيّن، فهذه المعرفة في مادّتها مستوردة من التجربة، وفي صورتها فطرية ترجع إلى الزمان والمكان. والإدراكات الحسّية بدورها هي موادّ خامّ تقدّم بين يدي العقل؛ لتتكوّن منها معرفة عقلية. والعقل يملك عدّة قوالب فطرية نظير القوالب التي يملكها الحسّ، فيصبّ تلك المواد الخامّ في هذه القوالب، ويبلورها في تلك الإطارات، فتحصل المعرفة العقلية.

وهكذا تكون الأشياء المحسوسة مركّبة من مادّة ادركت بالحسّ، وصورة زمانية ومكانية أنشأتها الحسّاسية الصورية، أي: الحسّاسية التي تخلق الصورة الموحّدة للإحساسات المختلفة. وتأتلف الأشياء المعقولة- أيضاً- من مادّة، وهي: الظواهر التي تصوغها الحسّاسية الصورية في إطار الزمان والمكان، وصورة، وهي: القوالب التي ينشأها الفهم الصوري ويوحّد بها تلك الظواهر.( المؤلّف قدس سره)

163
أ- نسبية (كانت):

يجب أن تعرف قبل كلّ شي‏ء أنّ الحكم العقلي عند (كانت) على قسمين‏[1]:

أحدهما الحكم التحليلي، وهو: الحكم الذي يستعمله العقل لأجل التوضيح فحسب، كما في قولنا: الجسم ممتدّ، والمثلّث ذو أضلاع ثلاثة. فإنّ مردّ الحكم هنا إلى تحليل مفهوم الموضوع (الجسم أو المثلّث)، واستخراج العناصر المتضمّنة فيه- كالامتداد المتضمّن في مفهوم الجسم، والأضلاع الثلاثة المتضمّنة في مفهوم المثلّث- وردّها إلى الموضوع. والأحكام التحليلية لا تتحفنا بمعرفة جديدة للموضوع، ولا تقوم إلّابدور التفسير والتوضيح.

والآخر الحكم التركيبي، وهو: الذي يزيد محموله شيئاً جديداً على الموضوع، كما في قولنا: الجسم ثقيل، والحرارة تمدِّد الفلزات، و 2+ 2/ 4، فإنّ الصفة التي نسبغها على الموضوع في هذه القضايا ليست مستخرجة منه بالتحليل، وإنّما تضاف فتنشأ بسبب ذلك معرفة جديدة لم تكن قبل ذلك.

والأحكام التركيبية: تارة تكون أحكاماً أوّلية، واخرى تكون أحكاماً ثانوية.

فالأحكام الأوّلية هي: الأحكام الثابتة لدى العقل قبل التجربة، كالأحكام الرياضية نظير قولنا: الخطّ المستقيم أقرب مسافة بين نقطتين. وسوف يأتي ما هو السبب في كونها كذلك. والأحكام التركيبية الثانوية هي: الأحكام الثابتة في العقل بعد التجربة، نظير الحكم بأنّ ضوء الشمس يسخن الحجر وأنّ كلّ جسم له وزن.

وتتلخّص نظرية (كانت) عن المعرفة في تقسيم المعارف أو الأحكام‏

 

[1] راجع: كانت أو الفلسفة النقديّة، د. زكريا إبراهيم: 66- 70. وكَنْط وفلسفته النظريّة، د. محمود زيدان: 61- 62، وموسوعة الفلسفة 2: 273

162

الحسّي والتجريبي في الفكر انساق معه حتّى انطلق به إلى النهاية المحتومة.
ولا نريد أن نناقش (دافيد هيوم) من جديد ما دامت حججه اجتراراً من أدّلة (باركلي) وآرائه، وإنّما نتناول نقطة واحدة، وهي: العادة التي أرجع إليها مبدأ العلّية وكثيراً من العلاقات القائمة بين الأشياء في الفكر، لنتساءل: ما هي العادة؟ فإن كانت عبارة عن ضرورة قائمة بين فكرة العلّة والمعلول، فهي تعبير آخر عن مبدأ العلّية، وإن كانت شيئاً آخر فهي لا تختلف عن العلّية في كونها معنىً غيبياً ليس لدينا إحساس أو انفعال يقابله، فكان يجب عليه رفضه كما رفض جميع الحقائق التي لا يمتدّ إليها الحسّ، وقد سبق في نقد المذهب التجريبي الردّ على هذا التفسير الفاشل للعلّية الذي حاوله (هيوم)، فليلاحظ.

6- النسبيّون:

تعتبر النسبية من المذاهب الفلسفية القائلة بوجود الحقيقة وإمكان المعرفة البشرية، ولكنّ هذه المعرفة أو الحقيقة التي يمكن للفكر الإنساني أن يظفر بها، هي معرفة أو حقيقة نسبية، بمعنى: أ نّها ليست حقيقة خالصة من الشوائب الذاتية ومطلقة، بل هي مزيج من الناحية الموضوعية للشي‏ء، والناحية الذاتية للفكر المدرِك، فلا يمكن أن تفصل الحقيقة الموضوعية في التفكير عن الناحية الذاتية وتبدو عارية عن كلّ إضافة أجنبية.
وفي النسبية اتّجاهان رئيسيان يختلفان في معنى النسبية وحدودها في العلوم البشرية: أحدهما الاتّجاه النسبي في فلسفة (عمانوئيل كانت)، والآخر الاتّجاه النسبي الذاتي لعدّة من الفلاسفة المادّيين المحدثين الذي مهّد للنسبية التطوّرية التي نادت بها المادية الديالكتيكية.

161

أو نكوِّن معنى شي‏ء يختلف عن التصوّرات والانفعالات، فلنوجّه انتباهنا إلى الخارج ما استطعنا ولتثب مخيلتنا إلى السماوات أو إلى أقاصي الكون، فلن نخطو أبداً خطوة إلى ما بعد أنفسنا، ولهذا فلا يمكن أن نجيب على المسألة الأساسية في الفلسفة التي يتصارع عندها المثاليون والواقعيون، فالمثالية تزعم أنّ الواقع قائم في الشعور والإدراك، والواقعية تؤكّد على أ نّه موجود بصورة موضوعية مستقلّة، والشكّية ترفض أن تجيب على المسألة؛ لأنّ الردّ عليها مستحيل، فلترجأ المسألة إلى الأبد.
والواقع: أنّ (دافيد هيوم) لم يزد على حجج (باركلي) شيئاً، وإن زاد عليه في الشكّ والعبث بالحقائق، فلم يقف في شكّيته عند المادّة الخارجية، بل أطاح بالحقيقتين اللتين احتفظ بهما (باركلي) في فلسفته- وهما النفس واللَّه- تمشّياً مع المبدأ الحسّي إلى النهاية، فقد اتّخذ لذلك نفس اسلوب (باركلي) وطريقته، فكما أنّ الجوهر المادّي لم يكن في رأي (باركلي) إلّامجموعة من الظواهر المركّبة تركيباً صناعياً في الذهن، كذلك النفس ما هي إلّاجملة من الظواهر الباطنية وعلاقاتها، ولا يمكن إثبات (الأنا)- النفس- بالشعور؛ لأنّني حين أنفذ إلى صميم ما اسمّيه (أنا) أقع دائماً على ظاهرة جزئية، فلو ذابت الإدراكات جميعاً لم يبقَ شي‏ء أستطيع أن اسمّيه (أنا).
وفكرة (اللَّه) تقوم على مبدأ العلّية، ولكنّ هذا المبدأ لا يمكن التسليم بصحّته بزعم (دافيد)؛ لأنّ الحسّ لا يطلعنا على ضرورة بين الظواهر والحوادث، وإنّما ترجع فكرة العلّية إلى مجرّد عادة، أو إلى لون من ألوان تداعي المعاني.
وهكذا بلغ (دافيد) بالنظرية الحسّية والمذهب التجريبي إلى ذروتهما التي يؤدّيان إليها طبيعياً، وبدلًا من أن يبرهن عن هذا الطريق على رفض المبدأ

160

5- أنصار الشكّ الحديث:

ومردّ هذا الشكّ الحديث في الحقيقة إلى مذهب الشكّ القديم الذي اتّخذته المدرسة الشكّية الإغريقية، وبشّر له (بيرون) زاعماً عجز الإنسان عن إعطاء أيّ حكم على الأشياء. وقد نشأت الشكّية الحديثة في ظروف مشابهة للظروف التي اكتنفت تلك المدرسة القديمة وساعدت على إنشائها، فالشكّية الإغريقية جاءت كحلّ وسط للصراع الذي قام على أشدّه بين السفسطة والفلسفة. فقد كانت السفسطة قد ولدت قبل الشكّية بقرون، وتمرّدت على جميع الحقائق، وأنكرت القضايا العلمية والحسّية كافّة، وقام الفلاسفة في وجهها يظهرون تناقضاتها، ويكشفون عن انهيارها بين يدي النقد حتّى تضاءلت موجة الإنكار، فانبثقت عند ذلك فكرة الشكّ التي أعلنت عن (لاأدريّة) مطلقة، وحاولت تبرير ذلك بإظهار تناقضات الحواسّ وتضارب الأفكار الذي يسلب عنها صفة الوثوق العلمي، فكانت تخفيفاً للسفسطة، وكذلك الأمر في الشكّية الحديثة؛ فإنّ أصحابها حاولوا تقديمها كحلّ للتناقض القائم بين المثالية والواقعية، إن صحّ أن يعتبر الاستسلام إلى الشكّ حلًا لهذا التناقض، وكانت بسبب ذلك صورة مخفّفة عن المثالية.
ولم تعتمد الشكّية الحديثة على إظهار تناقضات الإحساس والإدراك فحسب، بل على تحليل المعرفة الذي يؤدّي إلى الشكّ في زعمها، فقد كان (دافيد هيوم) الذي بشّر بفلسفة الشكّ على أثر فلسفة (باركلي) يرى أنّ التأكّد من القيم الموضوعية للمعرفة البشرية أمر غير ميسور؛ لأنّ أداة المعرفة البشرية هي الذهن أو الفكر، ولا يمكن أن يحضر في الذهن سوى إدراكات، ومن الممتنع أن نتصوّر

159

المثالي من نقطة لا نقاش فيها، وهي: أنّ الشكل الذاتي للإحساس البشري يتوقّف تحديده على تركيب حواسّنا وعلى الجهاز العضوي بصورة عامّة. فليست طبيعة الإحساس الآتي من العالم الخارجي هي التي تحدّد بمفردها شكل الشي‏ء في إحساسنا، بل هو رهين بطبيعة الجهاز العصبي قبل كلّ شي‏ء، وقد زعموا بناءً على ذلك أنّ الحاسّة لا تعطينا أنباء عن العالم الخارجي، وإنّما هي تنبئنا عن جهازنا العضوي الخاصّ، وليس معنى ذلك: أنّ الإحساس لا صلة له بالشي‏ء الخارجي، بل الأشياء الخارجية هي الأسباب الأوّلية لإثارة العمليات الحسّية في أعضائنا، ولكن طبيعة الجهاز الخاصّ هي التي تبلور عملية الإحساس في الكيفية التي يعبّر بها عن نفسه، ولأجل هذا فالإحساس يمكن أن يعتبر بمثابة رمز وليس بمثابة صورة؛ ذلك لأنّ الصورة يتطلّب منها بعض الشبه مع الشي‏ء الذي تمثّله، وأمّا الرمز فلا يلزم أن يكون له أيّ شبه مع الشي‏ء الذي يعنيه.
وهذا الاتّجاه المثالي من المضاعفات اللازمة للمفهوم المادّي للإدراك الذي نرفضه كلّ الرفض، فإنّ الإدراك إذا كان عبارة عن عملية فيزيولوجية خالصة، وتفاعل مادّي خاصّ بين الجهاز العصبي والأشياء الموضوعية في الخارج، فيجب أن تكون كيفية هذا العمل الفيزيولوجي هنا مرتبطة بطبيعة الجهاز العصبي، أو بطبيعة الجهاز وطبيعة الشي‏ء الموضوعي معاً. وهذا، وإن لم يكن مؤدّياً إلى مثالية صريحة ونفي لواقع العالم الموضوعي ما دمنا قد احتفظنا للأشياء الخارجية بصفة السببية لعمليات الجهاز العصبي، إلّاأ نّه قد يسمح بالتشكيك في مدى مطابقة الإحساس للواقع الموضوعي، والريب في أن لا يكون الإدراك مجرّد انفعال خاصّ يدلّ على سببه بصورة رمزية من دون تشابه في الحقيقة والمحتوى‏. وسوف نعود إلى هذا المفهوم المثالي الفيزيولوجي عن قريب.