کتابخانه
176

عمليات الهضم عند الباحثين المختلفين وأ يّهما هو الصحيح، فكما لا يصحّ أن نتساءل أ يّهما هو الحقيقة، عمليات الهضم عند أبيقور ونيوتن وماركس، أو عند أرسطو وآينشتين وريكاردو. كذلك لا يصحّ أن نتساءل أيّ مذاهبهم وأفكارهم هو الحقيقة؛ لأنّ أفكار هؤلاء المفكّرين، كعمليات الهضم المختلفة في مِعَدِهم، ليست إلّاوظائف جسمية ونشاطات عضوية، فمتى أمكن لنشاط المعدة في عمليات الهضم أن يكشف لنا عن نوعية الغذاء ويصف لنا طبيعته، يتاح للنشاط العصبي في الدماغ أن يعكس شيئاً من الحقائق الخارجية، وما دام لا يجوز لنا أن نتساءل عن نشاط المعدة أهو صادق أو كاذب، فكذلك بالنسبة إلى النشاط الفكري.
ونجد- أيضاً- بوضوح أنّ الفكرة في رأي المدرسة السلوكية مرتبطة بمنبّهاتها لا بدليلها، وبذلك تفقد الثقة بكلّ معرفة بشرية؛ لأنّ من الجائز أن تتبدّل وتعقبها فكرة مناقضة إذا اختلفت المنبّهات والشروط الخارجية، ويعود من عبث القول مناقشة المفكّر في فكرته وأدلّتها، وإنّما يجب الفحص عن المنبّهات المادّية لتلك الفكرة وإزالتها. فإذا كانت الفكرة قد نشأت- مثلًا- من حرارة الموقد في الغرفة التي يفكّر فيها وعملية الهضم، كان السبيل الوحيد للقضاء على الفكرة تغيير جوّ الغرفة وإيقاف عمليات الهضم مثلًا، وهكذا تصبح المعرفة البشرية خواءً وخلواً من القيمة الموضوعية.
ومذهب التحليل النفسي عند فرويد يسجّل نفس النتائج التي انتهت إليها السلوكية فيما يتّصل بنظرية المعرفة، فهو وإن كان لا ينكر العقل ولكنّه يقسِّمه إلى فئتين: إحداهما العناصر الشعورية، وهي: مجموعة الأفكار والعواطف والرغبات التي نحسّ بها في نفوسنا. والآخر العناصر اللّاشعورية في العقل، أي: شهواتنا وغرائزنا المختزنة وراء شعورنا، وهي قوىً عقلية عميقة الغور في أعماقنا،

175

مجموع المنبّهات (الطبيعية والشرطية) يتكافأ مع مجموع الأفكار في حياة الإنسان‏[1]. وأمّا كيف استفادت السلوكية من تجارب (بافلوف)، وما هي المنبّهات الشرطية التي كشفت عنها هذه التجارب فضاعفت من عدد المنبّهات التي تفسِّر السلوكية في ضوئها أفكار الإنسان، وإلى أيّ مدى‏ يمكن لتجارب (بافلوف) أن تبرهن على وجهة النظر السلوكية، فهذا ما سنجيب عنه في البحث المخصّص للإدراك من بحوث هذا الكتاب، وهو الجزء الخامس من القسم الثاني في هذا الكتاب، وإنّما يهمّنا الآن إبراز وجهة النظر السلوكية التي تُخضِع الحياة الفكرية عند الإنسان للتفسير الميكانيكي، وتفهم الفكر والشعور بوصفه نشاطاً فيزيولوجياً تثيره أسباب مادّية متنوّعة.

ومن الواضح: أنّ أيّ محاولة لوضع نظرية للمعرفة في ضوء السلوكية هذه، يؤدّي حتماً إلى موقف سلبي تجاه قيمة المعرفة وإلى عدم الاعتراف بقيمتها الموضوعية، وبالتالي يصبح كلّ بحث عن صحّة هذه الفكرة العلمية أو هذا المذهب الفلسفي أو ذلك الرأي الاجتماعي عبثاً لا مبرّر له؛ لأنّ كلّ فكرة (مهما كان طابعها أو مجالها العلمي أو الفلسفي أو الاجتماعي) لا تعبّر عن شي‏ء سوى حالات خاصّة تحدث في أجسام أصحاب الفكرة أنفسهم.

فلا نستطيع أن نتساءل على الصعيد الفلسفي أيّ الفلسفتين على صواب:

مادّية أبيقور، أو إلهية أرسطو؟ ولا أن نتساءل على الصعيد العلمي أ يّهما على صواب: نيوتن في فكرته القائلة بتفسير الكون على أساس الجاذبية، أو آينشتين في نسبيّته العامّة؟ ماركس في تفكيره الاقتصادي، أو ريكاردو مثلًا؟ وهكذا في كلّ المجالات؛ لأنّ تساؤلنا هذا يبدو في ضوء السلوكية شبيهاً تماماً بالتساؤل عن‏

 

[1] راجع مذاهب علم النفس المعاصر، علي ي، زيعور: 186- 203

174

3- المادّية التأريخية التي تحدّد آراء الماركسية في علم التأريخ.
أمّا السلوكية فهي إحدى المدارس الشهيرة في علم النفس التي تعبّر عن الاتّجاه المادّي فيه، واطلق عليها اسم السلوكية؛ لأنّها اتّخذت من سلوك الكائن الحيّ وحركاته الجسمية التي يمكن إخضاعها للحسّ العلمي والتجربة موضوعاً لعلم النفس، ورفضت الاعتراف بما وراء ذلك من موضوعات غير تجريبية كالعقل والشعور، وحاولت أن تفسّر سيكولوجية الإنسان وحياته النفسية والشعورية كلّها بدون أن تفترض له عقلًا وما إليه من المعاني الغيبية؛ لأنّ الباحث النفسي لا يجد ولا يحسّ علمياً حين إجراء تجاربه على الآخرين بعقولهم، وإنّما يحسّ بسلوكهم وحركاتهم ونشاطهم الفيزيولوجي، فيجب لكي يكون البحث علمياً أن تُفسَّر كلّ الظواهر السيكولوجية ضمن النطاق المحسوس؛ وذلك بالنظر إلى الإنسان بوصفه آلة يمكن تفسير كلّ ظواهرها وحركاتها على الطريقة الميكانيكية وفي ضوء مبدأ العلّية بالمنبّهات الخارجية التي ترد على الآلة فتؤثّر فيها.
فلا يوجد لدينا- ونحن ندرس الظواهر النفسية من وجهة رأي السلوكية- عقلٌ أو شعورٌ أو إدراك، وإنّما نحن أمام حركات ونشاطات مادّية فيزيولوجية توجد بأسباب مادّية باطنية أو خارجية. فحين نقول- مثلًا-: إنّ استاذ التأريخ يفكّر في إعداد محاضرة عن تأريخ الملكية الفردية عند الرومان، نكون قد عبّرنا في الحقيقة عن نشاطات وحركات مادّية في جهازه العصبي نشأت ميكانيكياً عن أسباب خارجية أو باطنية: كحرارة الموقد الذي جلس أمامه استاذ التأريخ أو عمليات الهضم التي أعقبت تناوله وجبة الغذاء.
وقد وجدت السلوكية في المنبّهات الشرطية القائمة على تجارب (بافلوف) سنداً كبيراً يتيح لها التأكيد على كثرة المنبّهات التي يتلقّاها الإنسان (بسبب نموّها وزيادتها عن طريق الإشراط) حتّى أصبح بالإمكان القول: بأن‏

173

الذاتيين فهي حقيقة نسبية، بمعنى: أ نّها الشي‏ء الذي تقتضيه طبيعة إدراكنا وجهازنا الخاصّ فحسب.
الثانية- أنّ الحقيقة النسبية في رأي النسبيين الذاتيين تختلف في الأفراد، وليس من الضروري أن يشترك جميع الناس في حقائق معيّنة؛ لأنّ لكلّ فرد دوراً ونشاطاً خاصّاً، فلا يمكن الحكم بأنّ ما يدركه فرد هو نفس ما يدركه الفرد الآخر ما دام من الممكن اختلافهما في وسائل الإدراك أو طبيعته. وأمّا (كانت) فالقوالب الصورية عنده قوالب فطرية تشترك فيها العقول البشرية جميعاً، ولهذا كانت الحقائق النسبية مشتركة بين الجميع. وسوف يأتي في مستقبل دراساتنا الحديث عن التفسير المادّي للإدراك الذي ارتكزت عليه النسبية الذاتية وتفنيده.

[7-] الشكّ العلمي:

رأينا قبل ساعة أنّ الشكّ الذي تسرّب إلى صفوف العلماء الطبيعيين حين قاموا بفتوحهم الكبرى في حقل الفيزياء لم يكن شكّاً علمياً ولا مرتكزاً على برهان علمي، وإنّما هو شكّ قائم على خطأ فلسفي أو أزمة نفسية.
ولكنّنا نجد في حقول اخرى نظريات علمية تؤدّي حتماً إلى الشكّ والقول بإنكار قيمة المعرفة البشرية، بالرغم من أنّ بعض أصحابها لم يفكّروا في الوصول إلى هذه النتيجة، بل ظلّوا مؤمنين بقيمة المعرفة وموضوعيّتها، ولأجل ذلك أطلقنا اسم الشكّ العلمي على الشكّ الناتج عن تلك النظريات؛ لأنّها علمية أو ذات مظهر علمي على أقلّ تقدير.
ومن أهمّ تلك النظريات:
1- السلوكية التي تفسِّر علم النفس على أساس علم الفسلجة.
2- مذهب التحليل النفسي عند فرويد.

172

فرد في عملية اكتسابه لتلك الحقائق. فليست الحقيقة- في هذا المفهوم الجديد- إلّا الأمر الذي تقتضيه ظروف الإدراك وشرائطه. ولمّا كانت هذه الظروف والشرائط تختلف في الأفراد والحالات المتنوّعة، كانت الحقيقة في كلّ مجال حقيقة بالنسبة إلى ذلك المجال الخاصّ بما ينطوي عليه من ظروف وشرائط.
وليست الحقيقة هي مطابقة الفكرة للواقع لتكون مطلقة بالنسبة إلى جميع الأحوال والأشخاص.
وهذه النسبية وإن كانت تحمل شعار الحقيقة، ولكنّه شعار مزيّف، فليست هي كما يبدو بكلّ وضوح إلّامذهباً من مذاهب الشكّ والريب في كلّ واقع موضوعي.
ويساند النسبية الذاتية هذه الاتّجاه الفيزيولوجي للمثالية القائل: إنّ الإحساس لا يعدو أن يكون رمزاً، وإنّ الذي يحدّد كيفيّته ونوعيّته ليس هو الشي‏ء الخارجي بل طبيعة الجهاز العصبي.
والواقع: أنّ السبب الأصيل الذي أتاح الظهور لهذه النسبية الذاتية هو التفسير المادّي للإدراك، واعتباره محتوى عملية مادّية يتفاعل فيها الجهاز العصبي المدرِك والشي‏ء الموضوعي، كالهضم الذي تحقّقه عملية تفاعل خاصّ بين الجهاز الهاضم والموادّ الغذائية، فكما أنّ الغذاء لا يتفاعل ولا يهضم إلّا بإجراء عدّة تصرّفات وتطويرات عليه، كذلك الشي‏ء الذي ندركه لا يتاح لنا إدراكه إلّابالتصرّف فيه والتفاعل معه.
وتختلف هذه النسبية عن نسبية (كانت) في نقطتين:
الاولى- أ نّها تُخضِع جميع الحقائق للطابع النسبي الذاتي من دون استثناء، خلافاً ل (كانت)؛ إذ كان يعتبر المبادئ والمعارف الرياضية حقائق مطلقة:
ف 4 2+ 2 حقيقة مطلقة لا تقبل الشكّ في رأي (كانت). وأمّا في رأي النسبيين‏

171

المحسوس، ما دمنا لا نملك معرفة فطرية كاملة كمبدأ العلّية لنبرهن بها على ذلك الواقع، وإنّما نملك عدّة روابط وقوانين لتنظيم الفكر والإدراك.
وعلى هذا، فالواقعية لا بدّ لها أن تعترف بأنّ الإدراكات الفطرية في العقل عبارة عن انعكاسات علمية لقوانين موضوعية مستقلّة، وتزول بذلك نسبية (كانت) التي زعمها في معارفنا عن الطبيعة؛ ذلك أنّ كلّ معرفة في العلوم الطبيعية وإن كانت بحاجة إلى إدراك فطري يقوم على أساسه الاستنتاج العلمي من التجربة، ولكن هذا الإدراك الفطري ليس ذاتياً خالصاً، بل هو انعكاس فطري لقانون موضوعي مستقلّ عن حدود الشعور والإدراك.
فمعرفتنا بأنّ الحرارة سبب لتمدّد الفلزات تستند إلى إدراك حسّي تجريبي للحرارة والتمدّد، وإدراك عقلي ضروري لمبدأ العلّية، وكلّ من الإدراكين يعكس واقعاً موضوعياً، وقد نتجت معرفتنا بتمديد الحرارة للفلزات عن معرفتنا بالواقعين الموضوعين لذينك الإدراكين، فليس ما يطلق عليه (كانت) اسم الصورة، صورة عقلية خالصة للعلم، بل هو علم يتمتّع بخصائص العلم، من الكشف الذاتي، وانعكاس واقع مستقلّ فيه.
وإذا عرفنا أنّ العقل يملك بصورة فطرية علوماً ضرورية بعدّة قوانين وحقائق موضوعية، صار باستطاعتنا أن نبني قضايا الميتافيزيقا على أساس فلسفي بدراستها على ضوء تلك العلوم الضرورية؛ لأنّها ليست مجرّد روابط خالصة بل هي معارف أوّلية، وفي إمكانها أن تنتج للفكر البشري علوماً جديدة.

ب- النسبية الذاتية:

يجي‏ء بعد (كانت) دور النسبيين الذاتيين، وهم الذين يؤكّدون على الطابع النسبي في جميع الحقائق التي تبدو للإنسان؛ باعتبار الدور الذي يلعبه عقل كل‏

170

جواب واحد، وهو الجواب الذي يقدّمه المذهب العقلي القائل: بأنّ تلك الانعكاسات للمبادئ الرياضية في الذهن البشري لمّا كانت فطرية وضرورية فهي مضمونة الصحّة بصورة ذاتية، فالحقائق الرياضية ممكنة المعرفة لا لأنّنا نحن نخلقها، بل لأنّنا نعكسها في علوم فطرية ضرورية.
الثاني- أنّ (كانت) يعتبر القوانين المتأصّلة في العقل البشري قوانين للفكر، وليست انعكاسات علمية للقوانين الموضوعية التي تتحكّم في العالم وتسيطر عليه بصورة عامّة، بل لا تعدو أن تكون مجرّد روابط موجودة في العقل بالفطرة ينظّم بها إدراكاته الحسّية. وقد سبق أنّ هذا الخطأ هو الذي نتج عنه القول بنسبية الحقائق المدرَكة عن عالم الطبيعة، والقول بتعذّر درس الميتافيزيقا دراسة عقلية، وعدم إمكان إقامتها على أساس تلك الإدراكات العقلية الفطرية؛ لأنّها مجرّد روابط ينظّم العقل بها إدراكاته الحسّية، وليست لدينا إدراكات فيما يخصّ موضوعات الميتافيزيقا لتنظم بتلك الروابط.
والانسياق مع المذهب النقدي هذا يؤدّي إلى المثالية حتماً؛ لأنّ الإدراكات الأوّلية في العقل إذا كانت عبارة عن روابط معلّقة تنتظر موضوعاً لتظهر فيه، فكيف يتاح لنا أن نخرج من التصوّرية إلى الموضوعية؟! وكيف نستطيع أن نثبت الواقع الموضوعي لأحاسيسنا المختلفة، أي: ظواهر الطبيعة التي يعترف بموضوعيّتها (كانت)؟! فنحن نعلم أنّ طريق إثبات الواقع الموضوعي للإحساس هو: مبدأ العلّية الذي يحكم بأنّ كلّ انفعال حسّي لا بدّ أن ينبثق عن سبب أثار ذلك الانفعال الخاصّ، فإذا رجعت العلّية في مفهوم (كانت) إلى رابطة بين الظواهر المحسوسة، فهي عاجزة بطبيعة الحال عن القيام بأيّ وظيفة أكثر من الربط بين إحساساتنا وما يبدو فيها من ظاهرات، ومن حقّنا- حينئذٍ- أن نسأل (كانت) عن المبرّرات الفلسفية في نظره للاعتقاد بواقع موضوعي للعالم‏

169

ولا من مدركات التجربة.
كما يترتّب عليه- أيضاً- أنّ الحقيقة في العلوم الطبيعية نسبية دائماً؛ لأنّ تلك الروابط داخلة في صميم معارفنا عن الظواهر الخارجية، وهي روابط ذاتية، فيختلف الشي‏ء في ذاته عن الشي‏ء لنا.
وتنطوي نظرية (كانت) هذه على خطأين أساسيين:
الأوّل- أ نّها تعتبر العلوم الرياضية منشئة للحقائق الرياضية ومبادئها، وبهذا الاعتبار ارتفع (كانت) بمبادئ الرياضة وحقائقها عن إمكان الخطأ والتناقض ما دامت مخلوقة للنفس ومستنبطة منها، وليست مستوردة من الخارج ليشكّ في خطأها أو تناقضها.
ولكنّ الحقيقة التي يجب أن تقوم عليها كلّ فلسفة واقعية هي: أنّ العلم ليس خلّاقاً ومنشأً، وإنّما هو كاشف عمّا هو خارج حدوده الذهنية الخاصّة، ولولا هذا الكشف الذاتي لما أمكن الردّ على المفهوم المثالي مطلقاً، كما سبق. فعلمنا بأنّ 2+ 2/ 4 هو علم بحقيقة رياضية معيّنة، وليس معنى علمنا بها أ نّنا ننشؤها ونخلقها في داخل نفوسنا- كما تحاول المثالية أن تفسِّر العلم بذلك- بل العلم في طبيعته كالمرآة، فكما أنّ المرآة تدلّل على وجود واقع للصورة المنعكسة فيها خارج حدودها، كذلك العلم يكشف عن حقيقة مستقلّة، ولأجل ذلك كان 2+ 2/ 4، سواءٌ أكان يوجد مفكّر رياضي على وجه الأرض أم لا، وسواءٌ أدرك هذه الحقيقة إنسان أم لا. ومعنى ذلك: أنّ المبادئ والحقائق الرياضية لها واقع موضوعي، فهي قوانين تعمل وتجري، وليست العلوم الرياضية إلّاانعكاسات لها في الذهن البشري. وعلى هذا تكون كالمبادئ والقوانين الطبيعية تماماً من حيث كونها واقعاً مستقلًا ينعكس في العقل، فنواجه السؤال عن انعكاسها الذهني ومدى صحّته ودقّته، كما نواجه ذلك السؤال في سائر العلوم. وليس لهذا السؤال إلإ

168

وأمّا الأحكام التركيبية الثانوية فهي الأحكام التي تعالج موضوعات تجريبية، كموضوعات العلوم الطبيعية التي تدخل في الميدان التجريبي، ولذلك صارت ثانوية باعتبار احتياجها إلى التجربة، ومن الواضح: أنّ مواضيع الميتافيزيقا ليست تجريبية، فلا يمكن أن يتكوّن فيها حكم تركيبي ثانوي، ولا يبقى للميتافيزيقا بعد ذلك متّسع إلّاللأحكام التحليلية، أي: الشروح والتفاسير للمفاهيم الميتافيزيقية، وهذه الأحكام ليست من المعرفة الحقيقية بشي‏ء، كما عرفنا سابقاً.
والنتيجة التي يخلص إليها (كانت) من ذلك:
أوّلًا- أنّ أحكام العلوم الرياضية أحكام تركيبية أوّلية وهي ذات قيمة مطلقة.
ثانياً- أنّ الأحكام التي تقوم على أساس التجربة في العلوم الطبيعية، أحكام تركيبية ثانوية، والحقيقة فيها لا يمكن أن تكون أكثر من حقيقة نسبية.
ثالثاً- أنّ موضوعات الميتافيزيقا لا يمكن أن توجد فيها معرفة عقلية صحيحة، لا على أساس الأحكام التركيبية الأوّلية ولا على أساس الأحكام التركيبية الثانوية.
والنقطة الرئيسية في نظرية (كانت) هي: أنّ الإدراكات العقلية الأوّلية ليست علوماً قائمة بنفسها ذات وجود مستقلّ عن التجربة، بل هي روابط تساعد على تنظيم الأشياء ووصلها بعضها ببعض. فدورها الوحيد هو: أ نّها تجعلنا ندرك الأشياء التجربية في إطاراتها الخاصّة.
ويترتّب على ذلك طبيعياً إلغاء الميتافيزيقا؛ لأنّ تلك الإدراكات الأوّلية ليست علوماً بل هي روابط، ولأجل أن تكون علماً تحتاج إلى موضوع ينشئه الذهن أو يدركه بالتجربة، والموضوعات الميتافيزيقية ليست من منشآت الذهن‏