کتابخانه
194

«إذا أردنا طرح المسألة من وجهة النظر التي هي وحدها صحيحة- يعني من وجهة النظر الديالكتيكية المادّية- ينبغي أن نتساءل: هل الكهارب والأثير … موجودة خارج الذهن البشري، وهل لها حقيقة موضوعية أم لا؟ عن هذا السؤال ينبغي أن يجيب علماء التأريخ الطبيعي. وهم يجيبون دائماً ودون تردّد بالإيجاب؛ نظراً لأنّهم لا يتردّدون بالتسليم بوجود الطبيعة وجوداً سبق وجود الإنسان، ووجود المادّة العضوية»[1].

ونلاحظ في هذا النصّ نفس المصادرة التي استعملها (روجيه)، مع التشدّق بالعلم واعتباره الفاصل النهائي في المسألة. فما دام علم التأريخ الطبيعي قد أثبت وجود العالم قبل ظهور الشعور والإدراك، فما على المثاليين إلّاأن يركعوا أمام الحقائق العلمية ويأخذوا بها. ولكنّ علم التأريخ الطبيعي ما هو إلّالون من ألوان الإدراك البشري. والمثالية تنفي الواقع الموضوعي لكلّ إدراك مهما كان لونه، فليس العلم في مفهومها إلّافكراً ذاتياً خالصاً، أفليس العلم حصيلة التجارب المتنوّعة؟! أوَ ليست هذه التجارب والإحساسات التجريبية هي موضع النقاش الدائر حول ما إذا كانت تملك واقعاً موضوعياً أو لا؟! فكيف يكون للعلم كلمته الفاصلة في الموضوع؟!

ج- قال جورج بوليتزير:

«ليس هناك مَن يشكّ في أنّ الحياة المادّية للمجتمع توجد مستقلّة عن وعي الناس؛ إذ ليس ثمّة من يتمنّى الأزمة الاقتصادية، سواءٌ كان رأسمالياً أو بروليتارياً، رغم أنّ هذه‏

 

[1] ما هي المادّية؟: 21

193

«لقد وجدت الأرض حتّى قبل كلّ كائن ذي حساسية، قبل كلّ كائن حيّ. وما كان لأيّة مادّة عضوية أن توجد على الكرة الأرضية في أوّل مراحل وجودها.

فالمادّة غير العضوية سبقت الحياة إذن، وكان على الحياة أن تنمو وتتطوّر خلال آلاف آلاف السنين قبل أن يظهر الإنسان ومعه المعرفة. العلوم تقودنا- إذن- إلى التأكيد بأنّ العالم قد وجد في حالات لم يكن فيها أيّ شكل من أشكال الحياة أو الحسّاسية ممكناً»[1].

هكذا يعتبر (روجيه) الحقيقة العلمية- القائلة بضرورة تقدّم نشأة المادّة غير العضوية على المادّة العضوية- دليلًا على وجود العالم الموضوعي؛ لأنّ المادّة العضوية ما دامت نتاجاً لتطوّر طويل ومرحلة متأخّرة من مراحل نموّ المادّة، فلا يمكن أن تكون المادّة مخلوقة للوعي البشري، الذي هو متأخّر بدوره عن وجود كائنات عضوية حيّة ذات جهاز عصبي ممركز، فكأ نّه افترض مقدّماً أنّ المثالية تسلّم بوجود المادّة العضوية، فشاد على ذلك استدلاله، ولكنّ هذا الافتراض لا مبرّر له؛ لأنّ المادّة بمختلف ألوانها وأقسامها- من العضوية وغيرها- ليست في المفهوم المثالي إلّاصوراً ذهنية، نخلقها في إدراكاتنا وتصوّراتنا. فالاستدلال الذي يقدّمه لنا (روجيه) ينطوي على مصادرة، وينطلق من نقطة لا تعترف بها المثالية.

ب- قال لينين:

 

[1] ما هي المادّيّة؟: 4

192

والإدراك‏[1].

ولنعرض شيئاً من النصوص الماركسية التي حاولت معالجة المشكلة بما لا يتّفق مع طبيعتها وطابعها الفلسفي:

أ- قال (روجيه غارودي):

«تُعلّمنا العلوم أنّ الإنسان ظهر على وجه الأرض في زمن متأخّر جدّاً، وكذلك الفكر معه. ولكي نؤكّد أنّ الفكر كان موجوداً متقدّماً على الأرض (على المادّة)، يجب- إذن- التأكيد بأنّ هذا الفكر لم يكن فكر الإنسان. إنّ المثالية في جميع أشكالها لا تستطيع أن تنجو من اللاهوت»[2].

 

[1] وقد جاء في كلام( أنجلز) السابق التأكيد على ناحية القيمة الموضوعية لخلق ظاهرة وإنشائها، وأنّ في ذلك الردّ الحاسم على النزعات المثالية. ولا أظنّ هذا التأكيد حين يصدر من المدرسة الماركسية ينطوي على معنىً فلسفي خاصّ، وإن أمكن للباحث الفلسفي أن يصوغ من ذلك دليلًا خاصّاً على إثبات الواقع الموضوعي يرتكز على العلم الحضوري، نظراً إلى أنّ الفاعل يعلم بآثاره وما يخلق علماً حضورياً، والعلم الحضوري بشي‏ء هو نفس وجوده الموضوعي. فالإنسان- إذن- يتّصل بالواقع الموضوعي لما يعلمه علماً حضورياً. فالمثالية إذا أسقطت من حساب المعرفة الموضوعية العلم الحصولي الذي لا نتّصل فيه إلّابأفكارنا، كفى للواقعية العلم الحضوري.

ولكنّ هذا الدليل يقوم على فهم مغلوط للعلم الحضوري؛ فإنّ أساس معرفتنا للأشياء إنّما هو العلم الحصولي. وأمّا العلم الحضوري فهو لا يعني أكثر من حضور المعلوم الواقعي لدى العالم، ولذلك كان كلّ إنسان يعلم بنفسه علماً حضورياً، مع أنّ كثيراً من الناس أنكر وجود النفس. ولا تتّسع حدودنا الخاصّة في هذه الدراسة للإفاضة في هذه الناحية.( المؤلّف قدس سره)

[2] ما هي المادّية؟: 32

191

وعلى ضوء تلك المبادئ نثبت موضوعية أحاسيسنا وتجاربنا.
ولنأخذ لذلك مثالًا: مبدأ العلّية الذي هو من تلك المبادئ الضرورية، فإنّ هذا المبدأ يحكم بأنّ لكلّ حادثة سبباً خارجاً عنه، وعلى أساسه نتأكّد من وجود واقع موضوعي للإحساسات والمشاعر التي تحدث في نفوسنا؛ لأنّها بحاجة إلى سبب تنبثق عنه، وهذا السبب هو الواقع الموضوعي.
وهكذا نستطيع أن نبرهن على موضوعية الحسّ والتجربة بمبدأ العلّية.
فهل يمكن للماركسية أن تتّخذ هذا الاسلوب؟ طبعاً لا؛ وذلك:
أوّلًا- لأنّها لا تؤمن بمبادئ ضرورية عقلية، فليس مبدأ العلّية في عرفها إلّا مبدأً تجريبياً تدلّ عليه التجربة، فلا يصحّ أن يعتبر أساساً لصدق التجربة وموضوعيتها.
وثانياً- أنّ الديالكتيك يفسِّر تطوّرات المادّة وحوادثها بالتناقضات المحتواة في داخلها. وليست الحوادث الطبيعية في تفسيره محتاجة إلى سبب خارجي، كما سندرس ذلك بكلّ تفصيل في المسألة الثانية. فإذا كان هذا التفسير الديالكتي كافياً لتبرير وجود الحوادث الطبيعية، فلماذا نذهب بعيداً؟! ولماذا نضطرّ إلى افتراض سبب خارجي وواقع موضوعي لكلّ ما يثور في نفوسنا من إدراك؟! بل يصبح من الجائز أن تقول المثالية في ظواهر الإدراك والحسّ ما قاله الديالكتيك عن الطبيعة تماماً، وتزعم أنّ هذه الظواهر في حدوثها وتعاقبها محكومة لقانون نقض النقض الذي يضع رصيد التغيّر والتطوّر في المحتوى الداخلي.
وبهذا نعرف أنّ الديالكتيك لا يحجبنا عن سبب خارج الطبيعة فحسب، بل يحجبنا بالتالي عن هذه الطبيعة بالذات، وعن كلّ شي‏ء خارج دنيا الشعور

190

ومن البديهي: أنّ هذه المسألة تضع الحسّ التجريبي بالذات موضع الامتحان والاختبار، فلايمكن أن يبرهن على موضوعية التجربة والحسّ بالتجربة والحسّ نفسهما، ولا الردّ على المثالية بها، مع أ نّها هي موضع النقاش والبحث بين الفريقين (المثاليين والواقعيين).
فكلّ مشكلة موضوعية إنّما يمكن اعتبارها علمية، وحلّها بأساليب العلم التجريبية، فيما إذا كان من المعترَف به سلفاً صدق التجربة العلمية وموضوعيّتها.
فمشكلة حجم القمر، أو بُعد الشمس عن الأرض، أو بنية الذرّة، أو تركيب النبات، أو عدد العناصر البسيطة، يمكن انتهاج الطرق العلمية في دراستها وحلّها. وأمّا إذا طُرِحت نفس التجربة على بساط البحث، وثار النقاش حول قيمتها الموضوعية، فلا موضع للاستدلال العلمي في هذا المجال على صدق التجربة وقيمتها الموضوعية بالتجربة نفسها.
فواقعية الحسّ والتجربة- إذن- هي الأساس الذي يتوقّف عليه كيان العلوم جميعاً، ولا تتمّ دراسة أو معالجة علمية إلّابناءً عليه، فيجب أن يعالج هذا الأساس معالجة فلسفية خالصة قبل الأخذ بأيّ حقيقة علمية.
وإذا درسنا المسألة دراسة فلسفية نجد أنّ الإحساس التجريبي لا يعدو أن يكون لوناً من ألوان التصوّر، فمجموعة التجارب مهما تنوّعت إنّما تموّن الإنسان بإدراكات حسّية متنوّعة. وقد مرّ بنا التحدّث عن الإحساسات في دراستنا للمثالية، وقلنا: إنّها ما دامت مجرّد تصوّرات فلا تبرهن على الواقع الموضوعي ودحض المفهوم المثالي.
وإنّما يجب علينا أن ننطلق من المذهب العقلي، لنشيد على أساسه المفهوم الواقعي للحسّ والتجربة، فنؤمن بوجود مبادئ تصديقية ضرورية في العقل،

189

ذاته العصيّ على الإدراك الذي أتى به (كانت)»[1].

وقال ماركس:

«إنّ مسألة معرفة ما إذا كان بوسع الفكر الإنساني أن ينتهي إلى حقيقة موضوعية، ليس بمسألة نظرية، بل إنّها مسألة عملية؛ ذلك أ نّه ينبغي للإنسان أن يقيم الدليل في مجال الممارسة على حقيقة فكره»[2].

وواضح من هذه النصوص: أنّ الماركسية تحاول أن تبرهن على الواقع الموضوعي بالتجربة، وتحلّ المشكلة الأساسية الكبرى في الفلسفة- مشكلة المثالية والواقعية- بالأساليب العلمية.

وهذا مظهر واحد من مظاهر عديدة وقع فيها الخلط بين الفلسفة والعلوم؛ فإنّ كثيراً من القضايا الفلسفية حاول بعضٌ دراستها بالأساليب العلمية، كما إنّ عدّة من قضايا العلم درسها بعض المفكّرين دراسة فلسفية، فوقع الخطأ في هذه وتلك.

والمشكلة التي يتصارع حولها المثاليون والواقعيون هي من تلك المشاكل التي لا يمكن اعتبار التجربة المرجع الأعلى فيها، ولا إعطاؤها الصفة العلمية؛ لأنّ المسألة التي يرتكز عليها البحث فيها هي مسألة وجود واقع موضوعي للحسّ التجريبي. فالمثالي يزعم أنّ الأشياء لا توجد إلّافي حسّنا وإدراكاتنا التجريبية، والواقعي يعتقد بوجود واقع خارجي مستقلّ للحسّ والتجربة.

 

[1] لودفيغ فيورباخ: 54

[2] المصدر نفسه: 112

188

النسبية التطوّرية

والآن، وقد طفنا على شتّى المذاهب الفلسفية في نظرية المعرفة، نصل إلى دور الديالكتيك فيها. فقد حاول المادّيون الديالكتيكيون إبعاد فلسفتهم عن الشكّ والسفسطة، فرفضوا المثالية والنسبية الذاتية، وما انتهت إليه عدّة مذاهب من ألوان الشكّ والارتياب، وأكّدوا على إمكان المعرفة الحقيقية للعالم. وبذلك ظهرت نظرية المعرفة على أيديهم في إطار من اليقين الفلسفي المرتكز على اسس النظرية الحسّية والمذهب التجريبي.
فماذا رصدوا لهذا المشروع الجبّار والتصميم الفلسفي الضخم؟
كان رصيدهم هو التجربة لتفنيد المثالية.
وكان رصيدهم هو الحركة لرفض النسبية.

التجربة والمثالية:

قال أنجلز عن المثالية:
«إنّ أقوى تفنيد لهذا الوهم الفلسفي ولكلّ وهم فلسفي آخر هو: العمل والتجربة والصناعة بوجه خاصّ. فإذا استطعنا أن نبرهن على صحّة فهمنا لظاهرة طبيعية ما، بخلقنا هذه الظاهرة بأنفسنا، وإحداثنا لها بواسطة توفّر شروطها نفسها، وفوق ذلك إذا استطعنا استخدامها في تحقيق أغراضنا، كان في ذلك القضاء المبرم على مفهوم الشي‏ء في‏

187

الأدوار الفعّالة التي يقوم بها الواقع الموضوعي لتلك الصور الذهنية في الخارج.

وبذلك نستطيع أن نحدِّد الناحية الموضوعية للفكرة، والناحية الذاتية، أي:

الناحية المأخوذة عن الواقع الموضوعي، والناحية التي ترجع إلى التبلور الذهني الخاصّ. فالفكرة موضوعية باعتبار تمثّل الشي‏ء فيها لدى الذهن، ولكنّ الشي‏ء الذي يمثّل لدى الذهن في تلك الصورة يفقد كلّ فعّالية ونشاط ممّا كان يتمتّع به في المجال الخارجي؛ بسبب التصرّف الذاتي. وهذا الفارق بين الفكرة والواقع هو- في اللغة الفلسفية- الفارق بين الماهية والوجود، كما سندرس ذلك في المسألة الثانية من هذا الكتاب‏[1].

 

[1] وهذه الناحية الذاتية التي تنطوي عليها الصور الذهنية في رأينا، تختلف عن الناحية الذاتية التي يقول بها( كانت)، والتي ينادي بها النسبيون الذاتيون. فليست الذاتية في رأينا باعتبار الجانب الصوري من العلم كما يزعم( كانت)، ولا باعتبار كون الإدراك حصيلة تفاعل مادّي، والتفاعل يستدعي التصرّف من الجانبين، بل هي على أساس التفرقة بين لوني الوجود: الذهني والخارجي. فالشي‏ء الموجود في الصورة الذهنية هو الشي‏ء الموجود في الخارج خلافاً للنسبيين، ولكن لون وجوده في الصورة يختلف عن لون وجوده الخارجي.( المؤلّف قدس سره)

186

وبهذا تختلف مسائل الميتافيزيقا عن العلم الطبيعي في كثير من مجالاتها.

ونقول (في كثير من مجالاتها)؛ لأنّ استنتاج النظرية الفلسفية أو الميتافيزيقية من المبادئ الضرورية في بعض الأحايين يتوقّف على التجربة أيضاً[1]، فيكون للنظرية الفلسفية- حينئذٍ- نفس ما للنظريات العلمية من قيمة ودرجة.

الخطّ الثالث- عرفنا أنّ المعرفة التصديقية هي التي تكشف لنا عن موضوعية التصوّر، ووجود واقع موضوعي للصورة التي توجد في ذهننا. وعرفنا- أيضاً- أنّ هذه المعرفة التصديقية مضمونة بمقدار ارتكازها على المبادئ الضرورية. والمسألة الجديدة هي مدى التطابق بين الصورة الذهنية- فيما إذا كانت دقيقة وصحيحة- والواقع الموضوعي الذي صدّقنا بوجوده من ورائها.

والجواب على هذه المسألة هو: أنّ الصورة الذهنية التي نكوّنها عن واقع موضوعي معيّن فيها ناحيتان: فهي من ناحية صورة الشي‏ء ووجوده الخاصّ في ذهننا، ولا بدّ لأجل ذلك أن يكون الشي‏ء متمثّلًا فيها، وإلّا لم تكن صورة له، ولكنّها من ناحية اخرى تختلف عن الواقع الموضوعي اختلافاً أساسياً؛ لأنّها لا تملك الخصائص التي يتمتّع بها الواقع الموضوعي لذلك الشي‏ء، ولا تتوفّر فيها ما يوجد في ذلك الواقع من ألوان الفعّالية والنشاط. فالصورة الذهنية التي نكوِّنها عن المادّة أو الشمس أو الحرارة مهما كانت دقيقة ومفصّلة لا يمكن أن تقوم بنفس‏

 

[1] الظاهر أنّ هذا الكلام يعبّر عن الجذور الأوّليّة التي نمت وترعرعت في ذهن السيّد المؤلّف رحمه الله بعد تأليفه لهذا الكتاب حتّى انتهت إلى القول بإمكان تفسير الجزء الأكبر من معارفنا- بما فيها القضايا الميتافيزيقيّة- بالطريقة الاستقرائيّة المتّبعة في القضايا الطبيعيّة، وهي طريقة التوالد الذاتي التي يؤمن بها المذهب الذاتي للمعرفة. وقد وضّح ذلك بالتفصيل في القسم الرابع من كتابه« الاسس المنطقيّة للاستقراء».( لجنة التحقيق)