کتابخانه
104

والمبادئ الأوّلية بالنار وإحراقها، فكما أنّ إحراق النار فعّالية ذاتية للنار، ومع ذلك لا توجد هذه الفعّالية إلّافي ظلّ شروط، أي: في ظروف ملاقاة النار لجسم يابس، كذلك الأحكام الأوّلية فإنّها فعّاليات ضروريّة وذاتية للنفس في الظروف التي تكتمل عندها التصوّرات اللازمة.
وإذا أردنا أن نتكلّم على مستوىً أرفع قلنا: إنّ المعارف الأوّلية وإن كانت تحصل للإنسان بالتدريج، ولكن هذا التدريج ليس معناه أ نّها حصلت بسبب التجارب الخارجية؛ لأنّنا برهنّا على أنّ التجارب الخارجية لا يمكن أن تكون المصدر الأساسي للمعرفة، بل التدرّج إنّما هو باعتبار الحركة الجوهرية والتطوّر في النفس الإنسانية، فهذا التطوّر والتكامل الجوهري هو الذي يجعلها تزداد كمالًا ووعياً للمعلومات الأوّلية والمبادئ الأساسية، فيتفتّح ما كمن فيها من طاقات وقوىً.
وهكذا يتّضح: أنّ الاعتراض على المذهب العقلي بأ نّه: لماذا لم توجد المعلومات الأوّلية مع الإنسان حين ولادته، يبتني على عدم الاعتراف بالوجود بالقوّة، وباللاشعور الذي تدلّ عليه الذاكرة بكلّ وضوح، وإذن فالنفس الإنسانية بذاتها تنطوي بالقوّة على تلك المعارف الأوّلية، وبالحركة الجوهرية يزداد وجودها شدّة، حتّى تصبح تلك المدركات بالقوّة مدركات بالفعل.

الماركسية والتجربة:

إنّ المذهب التجريبي الذي عرضناه سابقاً يطلق على رأيين في مسألة المعرفة:
أحدهما الرأي القائل: بأنّ المعرفة كلّها تتوفّر في المرحلة الاولى، أي:
مرحلة الإحساسات والتجارب البسيطة.

103

ولكن بقي علينا أن ندرس من المذهب العقلي نقطة واحدة، وهي: أنّ المعلومات الأوّلية إذا كانت عقلية وضرورية، فكيف يمكن أن يُفسَّر عدم وجودها مع الإنسان منذ البداية، وحصوله عليها في مرحلة متأخّرة عن ولادته؟!
وبكلمة اخرى: أنّ تلك المعلومات إذا كانت ذاتية للإنسان فيجب أن توجد بوجوده، ويستحيل أن يخلو منها لحظة من حياته، وإذا لم تكن ذاتية لزم أن يوجد لها سبب خارجي لها وهو التجربة، وهذا ما لا يوافق عليه العقليون.
والواقع: أنّ العقليين حين يقرّرون أنّ تلك المبادئ ضرورية في العقل البشري يعنون بذلك: أنّ الذهن إذا تصوّر المعاني التي تربط بينها تلك المبادئ فهو يستنبط المبدأ الأوّلي دون حاجة إلى سبب خارجي.
ولنأخذ مبدأ عدم التناقض مثالًا، إنّ هذا المبدأ- الذي يعني: الحكم التصديقي بأنّ وجود الشي‏ء وعدمه لا يجتمعان- ليس موجوداً عند الإنسان في لحظة وجوده الأوّلي؛ لأنّه يتوقّف على تصوّر الوجود، وتصوّر العدم، وتصوّر الاجتماع. وبدون تصوّر هذه الامور لا يمكن التصديق بأنّ الوجود والعدم لا يجتمعان؛ فإنّ تصديق الإنسان بشي‏ء لم يتصوّره أمر غير معقول، وقد عرفنا عند محاولة تعليل التصوّرات الذهنية أ نّها ترجع جميعاً إلى الحسّ، وتنبثق عنه بصورة مباشرة أو غير مباشرة، فيجب أن يكتسب الإنسان مجموعة التصوّرات التي يتوقّف عليها مبدأ عدم التناقض عن طريق الحسّ؛ ليتاح له أن يحكم بهذا المبدأ ويصدّق به، فتأخّر ظهور هذا المبدأ في الذهن البشري لا يعني أ نّه ليس ضرورياً وليس منبثقاً عن صميم النفس الإنسانية بلا حاجة إلى سبب خارجي، بل هو ضروري ونابع عن النفس بصورة مستقلّة عن التجربة، ولكن التصوّرات الخاصّة شرائط وجوده وصدوره عن النفس، وإذا شئت فقس النفس‏

102

العلوم الطبيعية فليست كذلك؛ لأنّ قضاياها تركيبية، أي: إنّ المحمول فيها يضيف إلى الموضوع علماً جديداً، أي: ينبئ بجديد على أساس التجربة، فإذا قلت: إنّ الماء يغلي تحت ضغط كذا عندما تصبح درجة حرارته مئة مثلًا، فإنّي افيد علماً؛ لأنّ كلمة (ماء) لا تتضمّن كلمة (حرارة وضغط وغليان)؛ ولأجل ذلك كانت القضية العلمية عرضة للخطأ والصواب.
ولكن من حقّنا أن نلاحظ على هذه المحاولة لتبرير الفرق بين الرياضيات والطبيعيات: أنّ اعتبار القضايا الرياضية تحليلية لا يفسّر الفرق على أساس المذهب التجريبي، فهب أنّ (2+ 2/ 4) تعبير آخر عن قولنا: أربعة هي أربعة، فإنّ هذا يعني: أنّ هذه القضية الرياضية تتوقّف على التسليم بمبدأ عدم التناقض، وإلّا فقد لا تكون الأربعة هي نفسها إذا كان التناقض ممكناً، وهذا المبدأ ليس في رأي المذهب التجريبي عقلياً ضرورياً؛ لأنّه ينكر كلّ معرفة قبلية، وإنّما هو مستمدّ من التجربة كالمبادئ التي تقوم على أساسها القضايا العلمية في الطبيعيات، وهكذا تبقى المشكلة دون حلّ إذ ما دامت الرياضيات والعلوم الطبيعية تتوقّف جميعاً على مبادئ تجريبية، فلماذا تمتاز قضايا الرياضيات على غيرها باليقين الضروري المطلق؟!
وبعد، فلسنا نقرّ بأنّ قضايا الرياضيات كلّها تحليلية وامتداد لمبدأ (أنّ أربعة هي أربعة)، وكيف تكون الحقيقة القائلة: إنّ القطر أقصر- دائماً- من المحيط قضية تحليلية؟! فهل كان القِصَر أو المحيط مندمجاً في معنى القطر؟! وهل هي تعبير آخر عن القول: بأنّ القطر هو قطر؟!
ونخلص من هذه الدراسة إلى أنّ المذهب العقلي هو وحده المذهب الذي يستطيع أن يحلّ مشكلة تعليل المعرفة، ويضع لها مقاييسها ومبادئها الأوّلية.

101

التجريبيون بعد ذلك أن ينكروا ذلك المقياس ليبطلوا علينا فلسفتنا، فهم ينسفون بذلك الاسس التي تقوم عليها العلوم الطبيعية، ولا تثمر بدونها التجارب الحسّية شيئاً.

وفي ضوء المذهب العقلي نستطيع أن نفسِّر صفة الضرورة واليقين المطلق التي تمتاز بها الرياضيات على قضايا العلم الطبيعي؛ فإنّ مردّ هذا الامتياز إلى أنّ القوانين والحقائق الرياضية الضرورية تستند إلى مبادئ العقل الاولى، ولا تتوقّف على مستكشفات التجربة، وعلى العكس من ذلك قضايا العلم؛ فإنّ تمدّد الحديد بالحرارة ليس من المعطيات المباشرة لتلك المبادئ، وإنّما يرتكز على معطيات التجربة، فالطابع العقلي الصارم هو سرّ الضرورة واليقين المطلق في تلك الحقائق الرياضية.

وأمّا إذا درسنا الفارق بين الرياضيات والطبيعيات في ضوء المذهب التجريبي فسوف لن نجد مبرّراً حاسماً لهذا الفرق ما دامت التجربة هي المصدر الوحيد للمعرفة العلمية في كلا الميدانين.

وقد حاول بعض أنصار المذهب التجريبي‏[1] تفسير الفرق على أساسه المذهبي عن طريق القول: بأنّ قضايا الرياضيات تحليلية ليس من شأنها أن تأتي بجديد، فعندما نقول: (2+ 2/ 4)، لم نتحدّث بشي‏ء جديد لنفحص درجة يقيننا به؛ فإنّ الأربعة هي نفسها تعبير آخر عن (2+ 2)، فالعملية الرياضية الآنفة الذكر في تعبير صريح ليست إلّاأنّ أربعة تساوي أربعة، وكلّ قضايا الرياضيات امتداد لهذا التحليل، ولكنّه امتداد يتفاوت في درجة تعقيده. وأمّا

 

[1] يراجع للتفصيل: الاسس المنطقيّة للاستقراء، مبحث: هل توجد معرفة عقليّة قبليّة؟ عند بيان موقف المنطق الوضعي من الفروق المطروحة بين الرياضيّات والطبيعيّات

100

التكرار والاجترار[1].

ومرّة اخرى نؤكّد على أ نّنا لا ننكر على التجربة فضلها العظيم على الإنسانية ومدى خدمتها في ميادين العلم، وإنّما نريد أن يفهم هؤلاء التجريبيون:

أنّ التجربة ليست هي المقياس الأوّل والمنبع الأساسي للأفكار والمعارف الإنسانية، بل المقياس الأوّل والمنبع الأساسي هو: المعلومات الأوّلية العقلية التي نكتسب على ضوئها جميع المعلومات والحقائق الاخرى، حتّى إنّ التجربة بذاتها محتاجة إلى ذلك المقياس العقلي، فنحن والآخرون على حدّ سواء في ضرورة الاعتراف بذلك المقياس الذي ترتكز عليه اسس فلسفتنا الإلهية، وإذا حاول‏

 

[1] ومن الغريب حقّاً ما حاوله الدكتور زكي نجيب محمود: من تركيز الاعتراض السابق الذكر على الاستدلال القياسي كما في قولنا:( كلّ إنسان فانٍ، ومحمّد إنسان، فمحمّد فانٍ) قائلًا:« قد تقول: ولكن حين اعمّم في المقدّمة الاولى لا اريد الناس فرداً فرداً؛ لأنّ إحصاءهم على هذا النحو مستحيل، إنّما اريد النوع بصفة عامّة، ولكن إذا كان أمرك كذلك فكيف استطعت أن تخصّص الحكم على محمّد؟! إنّ محمّداً ليس هو النوع بصفة عامّة، إنّما هو فرد متعيّن متخصّص، فحكمك عليه بما حكمت به على النوع بصفة عامّة هو في حقيقة الأمر قياس باطل» المنطق الوضعي: 250.

وهذا خلط عجيب بين المعقول الأوّل والمعقول الثاني في مصطلح المنطقيين؛ فإنّ الحكم على النوع بصفة عامّة يعني أحد أمرين:

أوّلهما- أن يكون الحكم على الإنسان باعتبار صفة العموم والنوعية فيه، ومن الواضح: أنّ هذا الحكم لا يمكن أن يُخصَّص على محمّد؛ لأنّ محمّداً ليس فيه صفة العموم والنوعية.

وثانيهما- أن يكون الحكم على ذات الإنسان من دون إضافة أيّ تخصيص إليه، وهذا الحكم يمكن أن نطبّقه على محمّد؛ لأنّ محمّداً إنسان، فالحدّ الأوسط له معنى واحد تكرّر في الصغرى والكبرى معاً، فيكون القياس منتجاً.( المؤلّف قدس سره)

99

نتائج العلوم الطبيعية ظنّية في أكثر الأحايين؛ لأجل نقص في نفس التجربة، وعدم استكمال الشرائط التي تجعل منها تجربة حاسمة.

ويتّضح لنا على ضوء ما سبق: أنّ استنتاج نتيجة علمية من التجربة يتوقّف- دائماً- على الاستدلال القياسي، الذي يسير فيه الذهن البشري من العامّ إلى الخاصّ ومن الكلّي إلى الجزئي كما يرى المذهب العقلي تماماً، فإنّ العالم تمّ له استنتاج النتيجة في المثال الذي ذكرناه بالسير من المبادئ الأوّلية الثلاثة التي عرضنا: (مبدأ العلّية) (مبدأ الانسجام) (مبدأ عدم التناقض)، إلى تلك النتيجة الخاصّة على طريقة القياس‏[1].

وأمّا الاعتراض الذي يوجِّهه التجريبيون إلى الطريقة القياسية في الاستدلال: بأنّ النتيجة فيها ليست إلّاصدى للكبرى وتكريراً لها، فهو اعتراض ساقط على اصول المذهب العقلي؛ لأنّ الكبرى لو كنّا نريد إثباتها بالتجربة ولم يكن لنا مقياس غيرها لكان علينا أن نفحص جميع الأقسام والأنواع لنتأكّد من صحّة الحكم، وتكون النتيجة- حينئذٍ- قد درست في الكبرى بذاتها أيضاً، وأمّا إذا كانت الكبرى من المعارف العقلية التي ندركها بلا حاجة إلى التجربة:

كالأوّليات البديهية والنظريات العقلية المستنبطة منها، فلا يحتاج المستدلّ لإثبات الكبرى إلى فحص الجزئيات حتّى يلزم من ذلك أن تتّخذ النتيجة صفة

 

[1] أشرنا سابقاً إلى أنّ المؤلّف قدس سره انتهى في كتابه« الاسس المنطقيّة للاستقراء» إلى إمكان معالجة مشكلة التعميم في القضايا الاستقرائيّة في ضوء ما تبنّاه من المذهب الذاتي للمعرفة، بنحو يبقى معه السير الفكري في تلك القضايا من الخاصّ إلى العامّ، من دون حاجة إلى ضمّ الكبريات العقليّة المسبقة التي تجعل السير الفكري فيها من العامّ إلى الخاصّ على طريقة الاستدلال القياسي.( لجنة التحقيق)

98

وهي: أنّ الظروف المتماثلة والأشياء المتشابهة في النوع والحقيقة يجب أن تشترك في القوانين والنواميس؟! وهنا نتساءل مرّة اخرى عن هذه القاعدة:
كيف توصّل إليها العقل؟ ولا يمكن للتجريبيين هنا أن يزعموا أ نّها قاعدة تجريبية، بل يجب أن تكون من المعارف العقلية السابقة على التجربة؛ لأنّها لو كانت مستندة إلى تجربة فهذه التجربة التي ترتكز عليها القاعدة هي- أيضاً- لا تتناول بدورها إلّاموارد خاصّة، فكيف ركّزت على أساسها قاعدة عامّة؟! فبناء قاعدة عامّة وقانون كلّي على ضوء تجربة واحدة أو عدّة تجارب لا يمكن أن يتمّ إلّابعد التسليم بمعارف عقلية سابقة.
وبهذا يتّضح: أنّ جميع النظريات التجريبية في العلوم الطبيعية ترتكز على عدّة معارف عقلية لا تخضع للتجربة، بل يؤمن العقل بها إيماناً مباشراً، وهي:
أوّلًا- مبدأ العلّية بمعنى: امتناع الصدفة؛ ذلك أنّ الصدفة لو كانت جائزة لما أمكن للعالم الطبيعي أن يصل إلى تعليل مشترك للظواهر المتعدّدة التي ظهرت في تجاربه.
ثانياً- مبدأ الانسجام بين العلّة والمعلول الذي يقرّر أنّ الامور المتماثلة في الحقيقة لا بدّ أن تكون مستندة إلى علّة مشتركة.
ثالثاً- مبدأ عدم التناقض الحاكم باستحالة صدق النفي والإثبات معاً.
فإذا آمن العالم بهذه المعارف السابقة على التجربة ثمّ أجرى تجاربه المختلفة على أنواع الحرارة وأقسامها، استطاع أن يقرّر في نهاية المطاف نظرية في تعليل الحرارة بمختلف أنواعها بعلّة واحدة كالحركة مثلًا. وهذه النظرية لا يمكن في الغالب تقريرها بشكل حاسم وصورة قطعيّة؛ لأنّها إنّما تكون كذلك إذا أمكن التأكّد من عدم إمكان وجود تفسير آخر لتلك الظواهر، وعدم صحّة تعليلها بعلّة اخرى، وهذا ما لا تحقّقه التجربة في أغلب الأحيان، ولهذا تكون‏

97

فلو لم يكن لحركة اليد سبق واقعي وسببية موضوعية لحركة القلم لما أمكن اعتبارها علّة.
وخامساً: أنّ التداعي كثيراً ما يحصل بين شيئين دون الاعتقاد بعلّية أحدهما للآخر، فلو صحّ ل (دافيد هيوم) أن يفسّر العلّة والمعلول بأ نّهما حادثان ندرك تعاقبهما كثيراً حتّى تحصل بينهما رابطة تداعي المعاني في الذهن لكان الليل والنهار من هذا القبيل، فكما أنّ الحرارة والغليان حادثان تعاقبا حتّى نشأت بينهما رابطة التداعي كذلك الليل والنهار وتعاقبهما وتداعيهما، مع أنّ عنصر العلّية والضرورة الذي ندركه بين الحرارة والغليان ليس موجوداً بين الليل والنهار، فليس الليل علّة للنهار، ولا النهار علّة لليل، فلا يمكن- إذن- تفسير هذا العنصر بمجرّد التعاقب المتكرّر والمؤدّي إلى تداعي المعاني كما حاوله (هيوم).
ونخلص من ذلك إلى أنّ المذهب التجريبي يؤدّي حتماً إلى إسقاط مبدأ العلّية، والعجز عن إثبات علاقات ضرورية بين الأشياء، وإذا سقط مبدأ العلّية انهارت جميع العلوم الطبيعية؛ باعتبار ارتكازها عليه كما ستعرف.
إنّ العلوم الطبيعية التي يريد التجريبيون إقامتها على أساس التجربة الخالصة، هي بنفسها تحتاج إلى اصول عقلية أوّلية سابقة على التجارب؛ ذلك أنّ التجربة إنّما يقوم العالم بها في مختبره على جزئيات موضوعية محدودة، فيضع نظرية لتفسير الظواهر التي كشفتها التجربة في المختبر وتعليلها بسبب واحد مشترك، كالنظرية القائلة: بأنّ سبب الحرارة هو الحركة استناداً إلى عدّة تجارب فُسِّرت بذلك، ومن حقّنا على العالم الطبيعي أن نسأله عن كيفية إعطائه للنظرية بصفة قانون كلّي ينطبق على جميع الظروف المماثلة لظروف التجربة، مع أنّ التجربة لم تقع إلّاعلى عدّة أشياء خاصّة، أفليس هذا التعميم يستند إلى قاعدة،

96

الذي يباع فيه؟
فإن كانت علاقة ضرورية فقد ثبت مبدأ العلّية، واعترف ضمناً بقيام علاقة غير تجريبية بين فكرتين، وهي: علاقة الضرورة، فإنّ الضرورة سواءٌ أكانت بين فكرتين أم بين واقعين موضوعيّين لا يمكن إثباتها بالتجربة الحسّية.
وإن كانت العلاقة مجرّد مقارنة فلم يتحقّق ل (دافيد) ما أراد من تفسير عنصر الضرورة في قانون العلّة والمعلول.
وثالثاً: أنّ الضرورة التي ندركها في علاقة العلّية بين علّة ومعلول، ليس فيها- مطلقاً- أيُّ أثر لإلزام العقل باستدعاء إحدى الفكرتين عند حصول الفكرة الاخرى فيه، ولذا لا تختلف هذه الضرورة- التي ندركها بين العلّة والمعلول- بين ما إذا كانت لدينا فكرة معيّنة عن الصلة وما إذا لم تكن، فليست الضرورة في مبدأ العلّية ضرورة سيكولوجية، بل هي ضرورة موضوعية.
ورابعاً: أنّ العلّة والمعلول قد يكونان مقترنين تماماً ومع ذلك ندرك علّية أحدهما للآخر، كحركة اليد وحركة القلم حال الكتابة؛ فإنّ حركة اليد وحركة القلم توجدان دائماً في وقت واحد، فلو كان مردّ الضرورة والعلّية إلى استتباع إحدى العمليّتين العقليّتين للُاخرى بالتداعي لما أمكن في هذا المثال أن تحتلّ حركة اليد مركز العلّة دون حركة القلم؛ لأنّ العقل قد أدرك الحركتين في وقت واحد، فلماذا وضع إحداهما موضع العلّة والاخرى موضع المعلول؟!
وبكلمة اخرى: أنّ تفسير العلّية بضرورة سيكولوجية يعني: أنّ العلّة إنّما اعتبرت علّة لا لأنّها في الواقع الموضوعي سابقة على المعلول ومولّدة له، بل لأنّ إدراكها يتعقّبه دائماً إدراك المعلول بتداعي المعاني، فتكون لذلك علّة له، وهذا التفسير لا يمكنه أن يشرح لنا كيف صارت حركة اليد علّة لحركة القلم مع أنّ حركة القلم لا تجي‏ء عقب حركة اليد في الإدراك، وإنّما تدرك الحركتان معاً،