کتابخانه
86

بالمعلومات الثانوية.
والعملية التي تستنبط بها معرفة نظرية من معارف سابقة هي العملية التي نطلق عليها اسم الفكر والتفكير. فالتفكير: جهد يبذله العقل في سبيل اكتساب تصديق وعلم جديد من معارفه السابقة. بمعنى: أنّ الإنسان حين يحاول أن يعالج قضية جديدة كقضية (حدوث المادّة)- مثلًا- ليتأكّد من أ نّها حادثة أو قديمة يكون بين يديه أمران: أحدهما الصفة الخاصّة وهي (الحدوث)، والآخر الشي‏ء الذي يريد أن يتحقّق من اتّصافه بتلك الصفة وهو (المادّة). ولمّا لم تكن القضية من الأوّليات العقلية، فالإنسان سوف يتردّد بطبيعته في إصدار الحكم والإذعان بحدوث المادّة، ويلجأ- حينئذٍ- إلى معارفه السابقة ليجد فيها ما يمكنه أن يركّز عليه حكمه، ويجعله واسطة للتعرّف على حدوث المادّة، وتبدأ بذلك عملية التفكير باستعراض المعلومات السابقة.
ولنفترض أنّ من جملة تلك الحقائق التي كان يعرفها المفكّر سلفاً هي (الحركة الجوهرية) التي تقرِّر أنّ المادّة حركة مستمرّة وتجدّد دائم، فإنّ الذهن سيضع يده على هذه الحقيقة حينما تمرّ أمامه في الاستعراض الفكري، ويجعلها همزة الوصل بين المادّة والحدوث؛ لأنّ المادّة لمّا كانت متجدّدة فهي حادثة حتماً؛ لأنّ التغيّر المستمرّ يعني: الحدوث على طول الخطّ، وتتولّد- عندئذٍ- معرفة جديدة للإنسان، وهي: أنّ المادّة حادثة، لأنّها متحرّكة ومتجدّدة، وكلّ متجدّد حادث.
وهكذا استطاع الذهن أن يربط بين الحدوث والمادّة، وهمزة الربط هي حركة المادّة، فإنّ حركتها هي التي جعلتنا نعتقد بأ نّها حادثة؛ لأنّنا نعلم أنّ كلّ متحرّك هو حادث.
ويؤمن المذهب العقلي لأجل ذلك بقيام علاقة السببية في المعرفة البشرية

85
1- المذهب العقلي‏

تنقسم المعارف البشرية في رأي العقليين إلى طائفتين:
إحداهما معارف ضرورية أو بديهية. ونقصد بالضرورة هنا: أنّ النفس تضطرّ إلى الإذعان بقضية معيّنة من دون أن تطالب بدليل أو تُبرهن على صحّتها، بل تجد من طبيعتها ضرورة الإيمان بها إيماناً غنياً عن كلّ بيّنة وإثبات، كإيمانها ومعرفتها بالقضايا الآتية: (النفي والإثبات لا يصدقان معاً في شي‏ء واحد)، (الحادث لا يوجد من دون سبب)، (الصفات المتضادّة لا تنسجم في موضوع واحد)، (الكلّ أكبر من الجزء)، (الواحد نصف الاثنين).
والطائفة الاخرى معارف ومعلومات نظرية. فإنّ عدّة من القضايا لا تؤمن النفس بصحّتها إلّاعلى ضوء معارف ومعلومات سابقة، فيتوقّف صدور الحكم منها في تلك القضايا على عملية تفكير واستنباط للحقيقة من حقائق أسبق وأوضح منها، كما في القضايا الآتية: (الأرض كروية)، (الحركة سبب الحرارة)، (التسلسل ممتنع)، (الفلزات تتمدّد بالحرارة)، (زوايا المثلّث تساوي قائمتين)، (المادّة تتحوّل إلى طاقة) وما إلى ذلك من قضايا الفلسفة والعلوم. فإنّ هذه القضايا حين تُعرَض على النفس لا تحصل على حكم في شأنها إلّابعد مراجعة للمعلومات الاخرى. ولأجل ذلك فالمعارف النظرية مستندة إلى المعارف الأوّلية الضرورية، فلو سُلِبت تلك المعارف الأوّلية من الذهن البشري لم يستطع التوصّل إلى معرفة نظرية مطلقاً، كما سنوضِّح ذلك فيما بعد إن شاء اللَّه.
فالمذهب العقلي يوضح أنّ الحجر الأساسي للعلم هو: المعلومات العقلية الأوّلية، وعلى ذلك الأساس تقوم البنيات الفوقية للفكر الإنساني التي تُسمَّى‏

84

عن غيرها؟

وفي هذه المسألة عدّة مذاهب فلسفية، نتناول بالدرس منها المذهب العقلي والمذهب التجريبي. فالأوّل هو المذهب الذي ترتكز عليه الفلسفة الإسلامية، وطريقة التفكير الإسلامي بصورة عامّة. والثاني هو الرأي السائد في عدّة مدارس للمادّية ومنها المدرسة الماركسية[1].

 

[1] وقد توصّل المؤلّف قدس سره بعد تأليفه لهذا الكتاب إلى مذهب ثالث للمعرفة عرضه في كتابه القيّم« الاسس المنطقيّة للاستقراء» وسمّاه بالمذهب الذاتي للمعرفة تمييزاً له عن المذهبين الآخرين، وهذا المذهب يتّفق مع المذهب العقلي في الإيمان بوجود قضايا ومعارف يدركها الإنسان بصورة قبليّة ومستقلّة عن الحسّ والتجربة، وأنّ هذه القضايا تشكّل الأساس للمعرفة البشريّة، خلافاً للمذهب التجريبي الذي يؤمن بأنّ التجربة والخبرة الحسّيّة هي المصدر الوحيد للمعرفة، فلا توجد لدى الإنسان أيّ معرفة قبليّة بصورة مستقلّة عن الحسّ والتجربة، ففي هذه النقطة يتّفق المذهب الذاتي للمعرفة مع المذهب العقلي، ولكنّه يختلف معه اختلافاً أساسيّاً في تفسير نموّ المعرفة، بمعنى أنّ هذه المعارف القبليّة الأوّليّة كيف يمكن أن تنشأ منها معارف جديدة؟ فالمذهب العقلي لا يعترف عادةً إلّابطريقةٍ واحدة لنموّ المعرفة، وهي طريقة التوالد الموضوعي التي تعتمد على التلازم بين الواقع الموضوعي للمعارف القبليّة والواقع الموضوعي للمعرفة الجديدة، بينما يؤمن المذهب الذاتي بوجود طريقة اخرى أيضاً لنموّ المعرفة، وهي طريقة التوالد الذاتي التي تعني نشوء معرفةٍ من معارف اخرى قبليّة لا على أساس التلازم بين الواقع الموضوعي لتلك المعارف القبليّة والواقع الموضوعي للمعرفة الجديدة، بل على أساس التلازم بين ذات تلك المعارف القبليّة بوصفها اعتقادات ذهنيّة وذات المعرفة الجديدة بوصفها كذلك، من دون ضرورة التلازم بين الموضوعات الواقعيّة لتلك المعارف في خارج الذهن والموضوع الواقعي للمعرفة الجديدة في خارج الذهن أيضاً، ويعتقد هذا المذهب أنّ الجزء الأكبر من معارفنا يمكن تفسيره على هذا الأساس.( لجنة التحقيق)

83

التصديق ومصدره الأساسي‏

ننتقل الآن من درس الإدراك الساذج- التصوّر- إلى درس الإدراك التصديقي الذي ينطوي على الحكم، ويحصل به الإنسان على معرفة موضوعية.
فكلّ واحد منّا يدرك عدّة من القضايا، ويصدّق بها تصديقاً، ومن تلك القضايا ما يرتكز الحكم فيها على حقائق موضوعية جزئية، كما في قولنا: الجوّ حارّ، الشمس طالعة. وتُسمَّى القضية لأجل ذلك جزئية. ومن القضايا ما يقوم الحكم فيها بين معنيين عامّين كما في قولنا الكلّ أعظم من الجزء، والواحد نصف الاثنين، والجزء الذي لا يتجزّأ مستحيل، والحرارة تولّد الغليان، والبرودة سبب للتجمّد، ومحيط الدائرة أكبر من قطرها، والكتلة حقيقة نسبية، إلى غير ذلك من القضايا الفلسفية والطبيعية والرياضية. وتُسمَّى هذه القضايا بالقضايا الكلّية والعامّة.
والمشكلة التي تواجهنا هي مشكلة أصل المعرفة التصديقية والركائز الأساسية التي يقوم عليها صرح العلم الإنساني، فما هي الخيوط الأوّلية التي نسجت منها تلك المجموعة الكبيرة من الأحكام والعلوم؟ وما هو المبدأ الذي تنتهي إليه المعارف البشرية في التعليل، ويعتبر مقياساً أوّلياً عامّاً لتمييز الحقيقة

82

81

والجوهر والعرض، والوجود [والعدم، والكثرة] والوحدة في الذهن البشري. إنّها كلّها مفاهيم انتزاعية يبتكرها الذهن على ضوء المعاني المحسوسة، فنحن نحسّ- مثلًا- بغليان الماء حين تبلغ درجة حرارته مئة، وقد يتكرّر إحساسنا بهاتين الظاهرتين- ظاهرتي الغليان والحرارة- آلاف المرّات ولا نحسّ بعلّية الحرارة للغليان مطلقاً، وإنّما الذهن هو الذي ينتزع مفهوم العلّية من الظاهرتين اللتين يقدِّمهما الحسّ إلى مجال التصوّر.

ولا نستطيع في مجالنا المحدود أن نعرض لكيفية الانتزاع الذهني وألوانه وأقسامه؛ لأنّنا لا نتناول في دراساتنا الخاطفة هذه إلّاالإشارة إلى الخطوط العريضة[1].

 

[1] راجع الإشارات والتنبيهات 2: 353 وما بعدها. وشرح المنظومة 2: 163

80

لمعانٍ غير محسوسة؟!
ونواجه نفس المشكلة في المفاهيم الاخرى التي عرضناها آنفاً، فهي جميعاً ليست من المعاني المحسوسة، فيجب طرح التفسير الحسّي الخالص للتصوّر البشري، والأخذ بنظرية الانتزاع.

4- نظرية الانتزاع:

وهي نظرية الفلاسفة الإسلاميين بصورة عامّة. وتتلخّص هذه النظرية في تقسيم التصوّرات الذهنية إلى قسمين: تصوّرات أوّلية، وتصوّرات ثانوية.
فالتصوّرات الأوّلية هي الأساس التصوّري للذهن البشري، وتتولّد هذه التصوّرات من الإحساس بمحتوياتها بصورة مباشرة. فنحن نتصوّر الحرارة لأنّنا أدركناها باللمس، ونتصوّر اللون لأنّنا أدركناه بالبصر، ونتصوّر الحلاوة لأنّنا أدركناها بالذوق، ونتصوّر الرائحة لأنّنا أدركناها بالشمّ. وهكذا جميع المعاني التي ندركها بحواسّنا، فإنّ الإحساس بكلّ واحد منها هو السبب في تصوّره ووجود فكرة عنه في الذهن البشري. وتتشكّل من هذه المعاني القاعدة الأوّلية للتصوّر، وينشئ الذهن بناءً على هذه القاعدة التصوّرات الثانوية، فيبدأ بذلك دور الابتكار والإنشاء، وهو الذي تصطلح عليه هذه النظرية بلفظ (الانتزاع) فيولّد الذهن مفاهيم جديدة من تلك المعاني الأوّلية، وهذه المعاني الجديدة خارجة عن طاقة الحسّ وإن كانت مستنبطة ومستخرجة من المعاني التي يقدّمها الحسّ إلى الذهن والفكر.
وهذه النظرية تتّسق مع البرهان والتجربة، ويمكنها أن تفسِّر جميع المفردات التصوّرية تفسيراً متماسكاً.
فعلى ضوء هذه النظرية نستطيع أن نفهم كيف انبثقت مفاهيم العلّة والمعلول،

79

وصرنا نتصوّره ونفكّر فيه؟
وقد كان (دافيد هيوم)- أحد رجال المبدأ الحسّي- أدقّ من غيره في تطبيق النظرية الحسّية، فقد عرف أنّ العلّية بمعناها الدقيق لا يمكن أن تُدرك بالحسّ، فأنكر مبدأ العلّية، وأرجعها إلى عادة تداعي المعاني قائلًا: إنّي أرى كرة البلياردو تتحرّك فتصادف كرة اخرى فتتحرّك هذه، وليس في حركة الاولى ما يظهرني على ضرورة تحرّك الثانية، والحسّ الباطني يدلّني على أنّ حركة الأعضاء في تعقّب أمر الإرادة، ولكنّي لا أدرك به إدراكاً مباشراً علاقة ضرورية بين الحركة والأمر.
ولكنّ الواقع: أنّ إنكار مبدأ العلّية لا يخفّف من المشكلة التي تواجه النظرية الحسّية شيئاً؛ فإنّ إنكار هذا المبدأ كحقيقة موضوعية يعني: أ نّنا لم نصدّق بالعلّية كقانون من قوانين الواقع الموضوعي، ولم نستطع أن نعرف ما إذا كانت الظواهر ترتبط بعلاقات ضرورية تجعل بعضها ينبثق عن بعض، ولكن مبدأ العلّية كفكرة تصديقية شي‏ء، ومبدأ العلّية كفكرة تصوّرية شي‏ء آخر، فهب أ نّا لم نصدّق بعلّية الأشياء المحسوسة بعضها لبعض، ولم نكوّن عن مبدأ العلّية فكرة تصديقية، فهل معنى ذلك: أ نّنا لا نتصوّر مبدأ العلّية أيضاً، وإذا كنّا لا نتصوّره فما الذي نفاه (دافيد هيوم)؟ وهل ينفي الإنسان شيئاً لا يتصوّره؟!
فالحقيقة التي لا مجال لإنكارها هي: أ نّنا نتصوّر مفهوم العلّية سواء أصدّقنا بها أم لا، وليس تصوّر العلّية تصوّراً مركّباً من تصوّر الشيئين المتعاقبين، فنحن حين نتصوّر علّية درجة معيّنة من الحرارة للغليان لا نعني بهذه العلّية تركيباً اصطناعياً بين فكرتي الحرارة والغليان، بل فكرة ثالثة تقوم بينهما، فمن أين جاءت هذه الفكرة التي لم تُدرك بالحسّ إذا لم يكن للذهن خلّاقية

78

تصوّرات جديدة على ضوء التصوّرات المستورَدة من الحسّ.
ويمكننا أن نوضِّح فشل النظرية الحسّية في محاولة إرجاع جميع مفاهيم التصوّر البشري إلى الحسّ، على ضوء دراسة عدّة من مفاهيم الذهن البشري كالمفاهيم التالية: العلّة والمعلول، الجوهر والعرض، الإمكان والوجوب، الوحدة والكثرة، الوجود والعدم، وما إلى ذلك من مفاهيم وتصوّرات.
فنحن جميعاً نعلم أنّ الحسّ إنّما يقع على ذات العلّة وذات المعلول، فندرك ببصرنا سقوط القلم على الأرض إذا سُحِبت من تحته المنضدة التي وضع عليها، وندرك باللمس حرارة الماء حين يوضع على النار، وكذلك ندرك تمدّد الفلزّات في جوّ حار. ففي هذه الأمثلة نحسّ بظاهرتين متعاقبتين، ولا نحسّ بصلة خاصّة بينهما، هذه الصلة التي نسمّيها بالعلّية، ونعني بها: تأثير إحدى الظاهرتين في الاخرى، وحاجة الظاهرة الاخرى إليها لأجل أن توجد.
والمحاولات التي ترمي إلى تعميم الحسّ لنفس العلّية واعتبارها مبدأ حسّياً، تقوم على تجنّب العمق والدقّة في معرفة ميدان الحسّ وما يتّسع له من معاني وحدود. فمهما نادى‏ الحسّيون بأنّ التجارب البشرية والعلوم التجريبية القائمة على الحسّ هي التي توضّح مبدأ العلّية، وتجعلنا نحسّ بصدور ظواهر مادّية معيّنة من ظواهر اخرى مماثلة، أقول: مهما نادوا بذلك فلن يحالفهم التوفيق ما دمنا نعلم أنّ التجربة العلمية لا يمكن أن تكشف بالحسّ إلّاالظواهر المتعاقبة، فنستطيع بوضع الماء على النار أن ندرك حرارة الماء وتضاعف هذه الحرارة، وأخيراً نحسّ بغليان الماء، وأمّا أنّ هذا الغليان منبثق عن بلوغ الحرارة درجة معيّنة، فهذا ما لا يوضّحه الجانب الحسّي من التجربة، وإذا كانت تجاربنا الحسّية قاصرة عن كشف مفهوم العلّية فكيف نشأ هذا المفهوم في الذهن البشري،