کتابخانه
68

ويجب أن نعرف قبل كلّ شي‏ء أنّ الإدراك ينقسم بصورة رئيسية إلى نوعين: أحدهما التصوّر، وهو: الإدراك الساذَج. والآخر التصديق، وهو:

الإدراك المنطوي على حكم. فالتصوّر، كتصوّرنا لمعنى الحرارة أو النور أو الصوت. والتصديق، كتصديقنا بأنّ الحرارة طاقة مستورَدة من الشمس، وأنّ الشمس أنور من القمر، وأنّ الذرّة قابلة للانفجار[1].

ونبدأ الآن بالتصوّرات البشرية لدرس أسبابها ومصادرها، ونتناول بعد ذلك التصديقات والمعارف.

 

[1] ولبعض الفلاسفة الحسّيين( كجون ستوارت ميل) نظرية خاصّة في التصديق حاولوا بها تفسيره بتصوّرين متداعيين. فمردّ التصديق إلى قوانين تداعي المعاني، وليس المحتوى النفسي إلّاتصوّر الموضوع وتصوّر المحمول.

ولكنّ الحقيقة: أنّ تداعي المعاني يختلف عن طبيعة التصديق كلّ الاختلاف، فهو قد يتحقّق في كثير من المجالات ولا يوجد تصديق، فالرجال التأريخيون الذين تسبغ عليهم الأساطير ألواناً من البطولات يقترن تصوّرهم في ذهننا بتصوّر تلك البطولات، وتتداعى‏ التصوّرات، ومع ذلك فقد لا نصدّق بشي‏ء من تلك الأساطير. فالتصديق- إذن- عنصر جديد يمتاز على التصوّر الخالص، وعدم التمييز بين التصوّر والتصديق في عِدّة من الدراسات الفلسفية الحديثة، أدّى إلى جملة من الأخطاء، وجعل عِدّة من الفلاسفة يدرسون مسألة تعليل المعرفة والإدراك من دون أن يضعوا فارقاً بين التصوّر والتصديق. وستعرف أنّ النظرية الإسلامية تفصِّل بينهما، وتشرح المسألة في كلّ منهما باسلوب خاصّ.( المؤلّف قدس سره)

67

تدور حول المعرفة الإنسانية مناقشات فلسفية حادّة تحتلّ مركزاً رئيسياً في الفلسفة وخاصّة الفلسفة الحديثة، فهي نقطة الانطلاق الفلسفي لإقامة فلسفة متماسكة عن الكون والعالم، فما لم تُحدَّد مصادر الفكر البشري ومقاييسه وقيمه لا يمكن القيام بأيّة دراسة مهما كان لونها.
وإحدى تلك المناقشات الضخمة هي: المناقشة التي تتناول مصادر المعرفة ومنابعها الأساسية بالبحث والدرس، وتحاول أن تستكشف الركائز الأوّلية للكيان الفكري الجبّار الذي تملكه البشرية. فتجيب بذلك على هذا السؤال: كيف نشأت المعرفة عند الإنسان؟ وكيف تكوّنت حياته العقلية بكلّ ما تزخر به من أفكار ومفاهيم؟ وما هو المصدر الذي يمدّ الإنسان بذلك السيل من الفكر والإدراك؟
إنّ الإنسان- كلّ إنسان- يعلم أشياء عديدة في حياته، وتتعدّد في نفسه ألوان من التفكير والإدراك، ولا شكّ في أنّ كثيراً من المعارف الإنسانية ينشأ بعضها عن بعض، فيستعين الإنسان بمعرفة سابقة على تكوين معرفة جديدة.
والمسألة هي: أن نضع يدنا على الخيوط الأوّلية للتفكير، على الينبوع العامّ للإدراك بصورة عامّة.

66

65

1- نظريّة المعرفة

 

المصدر الأساسي للمعرفة

التصوّر ومصدره الأساسي.
التصديق ومصدره الأساسي.

64

63

1- نظريّة المعرفة

1- المصدر الأساسي للمعرفة.
2- قيمة المعرفة.

62

فيها. وهو لهذا ليس مبدأً بالمعنى الدقيق للفظ المبدأ، لأنّ المبدأ عقيدة في الحياة ينبثق عنها نظام للحياة.
وأمّا الاشتراكية والشيوعية الماركسيتان فقد وُضعتا على قاعدة فكرية وهي (الفلسفة المادّية الجدلية). ويختصّ الإسلام بقاعدة فكرية عن الحياة لها طريقتها الخاصّة في فهم الحياة وموازينها المعيّنة لها.
فنحن- إذن- بين فلسفتين لا بدّ من دراستهما؛ لنتبيّن القاعدة الفكرية الصحيحة للحياة التي يجب أن نشيد عليها وعينا الاجتماعي السياسي لقضية العالم كلّه، ومقياسنا الاجتماعي والسياسي الذي نقيس به قيم الأعمال، ونزن به أحداث الإنسانية في مشاكلها الفردية والدولية.
والقاعدة التي يرتكز عليها المبدأ تحتوي على الطريقة والفكرة، أي: على تحديد طريقة التفكير، وتحديد المفهوم للعالم والحياة. ولمّا كنّا لا نستهدف في هذا الكتاب الدراسات الفلسفية لذاتها، وإنّما نريد دراسة القواعد الفكرية للمبادئ، فسوف نقتصر على درس العنصرين الأساسيين لكلّ قاعدة فكرية ينبثق عنها نظام، وهما: طريقة التفكير، والمفهوم الفلسفي للعالم. فهاتان المسألتان هما مدار البحث في هذا الكتاب. ولمّا كان من الضروري تحديد الطريقة قبل تكوين المفاهيم، فنبدأ بنظرية المعرفة التي تحتوي على تحديد معالم التفكير وطريقته وقيمته، ويتلو بعد ذلك درس المفهوم الفلسفي العامّ عن العالم بصورة عامّة.
ويحسن بالقارئ العزيز أن يعرف قبل البدء أنّ المستفاد من الإسلام بالصميم إنّما هو: الطريقة والمفهوم، أي: الطريقة العقلية في التفكير، والمفهوم الإلهي للعالم. وأمّا أساليب الاستدلال وألوان البرهنة على هذا وذاك فلسنا نضيفها جميعاً إلى الإسلام، وإنّما هي حصيلة دراسات فكرية لكبار المفكّرين من علماء المسلمين وفلاسفتهم.

61

سياسياً يدرس العالم من زاوية المادّة البحتة، التي تموِّن البشرية بالصراع والشقاء في مختلف أشكاله وألوانه.

وأخيراً:

وأخيراً، وفي نهاية مطافنا على المذاهب الاجتماعية الأربعة، نخرج بنتيجة، هي: أنّ المشكلة الأساسية التي تتولّد عنها كلّ الشرور الاجتماعية وتنبعث منها مختلف ألوان الآثام، لم تُعالَج المعالجة الصحيحة التي تحسم الداء وتستأصله من جسم المجتمع البشري في غير المذهب الاجتماعي للإسلام من مذاهب.
فلا بدّ أن نقف عند المبدأ الإسلامي في فلسفته عن الحياة والكون، وفي فلسفته عن الاجتماع والاقتصاد، وفي تشريعاته ومناهجه؛ لنحصل على المفاهيم الكاملة للوعي الإسلامي والفكر الإسلامي الشامل، مقارنين بينه وبين المبادئ الاخرى فيما يقرِّر من مناهج ويتبنّى من عقيدة.
وبطبيعة الحال أنّ دراستنا لكلّ مبدأ تبدأ بدراسة ما يقوم عليه من عقيدة عامّة عن الحياة والكون وطريقة فهمهما، فمفاهيم كلّ مبدأ عن الحياة والكون تشكّل البنية الأساسية لكيان ذلك المبدأ. والميزان الأوّل لامتحان المبادئ هو:
اختبار قواعدها الفكرية الأساسية التي يتوقّف على مدى إحكامها وصحّتها إحكام البنيات الفوقية ونجاحها.
ولأجل ذلك فسوف نخصِّص هذه الحلقة الاولى من (كتابنا) لدراسة البنية الاولى التي هي نقطة الانطلاق للمبدأ، وندرس البنيات الفوقية في الحلقات الاخرى إن شاء اللَّه تعالى.
والنظام الرأسمالي الديمقراطي ليس منبثقاً من عقيدة معيّنة عن الحياة والكون، ولا مرتكزاً على فهم كامل لقيمها التي تتّصل بالحياة الاجتماعية وتؤثّر

60

للإنسانية واستقرار اجتماعي لها، فهذا هو الرجاء الذي لا يتحقّق إلّاإذا تبدّل البشر إلى أجهزة ميكانيكية يقدِم على تنظيمها عِدّة من المهندسين الفنّيين.
وليست إقامة الإنسان على قاعدة ذلك الفهم المعنوي للحياة والإحساس الخلقي بها، عملًا شاقّاً وعسيراً؛ فإنّ الأديان في تأريخ البشرية قد قامت بأداء رسالتها الكبيرة في هذا المضمار، وليس لجميع ما يحفل به العالم اليوم من مفاهيم معنوية، وأحاسيس خُلُقية، ومشاعر وعواطف نبيلة تعليل أوضح وأكثر منطقية من تعليل ركائزها واسسها بالجهود الجبّارة التي قامت بها الأديان لتهذيب الإنسانية والدافع الطبيعي في الإنسان، وما ينبغي له من حياة وعمل.
وقد حمل الإسلام المشعل المتفجّر بالنور بعد أن بلغ البشر درجة خاصّة من الوعي، فبشّر بالقاعدة المعنوية والخُلُقية على أوسع نطاق وأبعد مدى، ورفع على أساسها راية إنسانية، وأقام دولة فكرية أخذت بزمام العالم ربع قرن، واستهدفت إلى توحيد البشر كلّه، وجمعه على قاعدة فكرية واحدة ترسم اسلوب الحياة ونظامها.
فالدولة الإسلامية لها وظيفتان: إحداهما تربية الإنسان على القاعدة الفكرية، وطبعه في اتّجاهه وأحاسيسه بطابعها، والاخرى مراقبته من خارج، وإرجاعه إلى القاعدة إذا انحرف عنها عملياً.
ولذلك فليس الوعي السياسي للإسلام وعياً للناحية الشكلية من الحياة الاجتماعية فحسب، بل هو وعي سياسي عميق، مردّه إلى نظرة كلّية كاملة نحو الحياة والكون والاجتماع والسياسة والاقتصاد والأخلاق، فهذه النظرة الشاملة هي الوعي الإسلامي الكامل.
وكلّ وعي سياسي آخر فهو إمّا أن يكون وعياً سياسياً سطحياً لا ينظر إلى العالم من زاوية معيّنة، ولا يقيم مفاهيمه على نقطة ارتكاز خاصّة، أو يكون وعيا