کتابخانه
59

وكلّ نظام اجتماعي لا ينبثق عن ذلك الفهم والإحساس، فهو إمّا نظام يجري مع الفرد في نزعته الذاتية، فتتعرّض الحياة الاجتماعية لأقسى المضاعفات وأشدّ الأخطار، وإمّا نظام يحبس في الفرد نزعته ويشلّ فيه طبيعته؛ لوقاية المجتمع ومصالحه. فينشأ الكفاح المرير الدائم بين النظام وتشريعاته، والأفراد ونزعاتهم، بل يتعرّض الوجود الاجتماعي للنظام- دائماً- للانتكاس على يد منشئه ما دام هؤلاء ذوي نزعات فردية أيضاً، وما دامت هذه النزعات تجد لها- بكبت النزعات الفردية الاخرى وتسلّم القيادة الحاسمة- مجالًا واسعاً وميداناً لا نظير له للانطلاق والاستغلال.
وكلّ فهم معنوي للحياة وإحساس خُلُقي بها لا ينبثق عنهما نظام كامل للحياة يحسب فيه لكلّ جزء من المجتمع حسابه، وتعطى لكلّ فرد حرّيته التي هذّبها ذلك الفهم والإحساس، والتي تقوم الدولة بتحديدها في ظروف الشذوذ عنهما، أقول: إنّ كلّ عقيدة لا تلد للإنسانية هذا النظام فهي لا تخرج عن كونها تلطيفاً للجوّ وتخفيفاً من الويلات، وليست علاجاً محدوداً وقضاءً حاسماً على أمراض المجتمع ومساوئه. وإنّما يشاد البناء الاجتماعي المتماسك على فهم معنوي للحياة وإحساس خُلُقي بها، ينبثق عنهما، يملأ الحياة بروح هذا الإحساس وجوهر ذلك الفهم.
وهذا هو الإسلام في أخصر عبارة وأروعها. فهو عقيدة معنوية وخُلُقية، ينبثق عنها نظام كامل للإنسانية، يرسم لها شوطها الواضح المحدَّد، ويضع لها هدفاً أعلى في ذلك الشوط، ويعرّفها على مكاسبها منه.
وأمّا أن يقضى على الفهم المعنوي للحياة، ويجرّد الإنسان عن إحساسه الخُلُقي بها، وتعتبر المفاهيم الخُلُقية أوهاماً خالصة خلقتها المصالح المادّية، والعامل الاقتصادي هو الخلّاق لكلّ القيم والمعنويات، وترجى بعد ذلك سعادة

58

المحبوبة تحقيقاً للذّة الخاصّة بذلك.
فهذان هما الطريقان اللذان ينتج عنهما ربط المسألة الخُلُقية بالمسألة الفردية. ويتلخّص أحدهما في إعطاء التفسير الواقعي لحياة أبدية، لا لأجل أن يزهد الإنسان في هذه الحياة، ولا لأجل أن يخنع للظلم ويقرّ على غير العدل، بل لأجل ضبط الإنسان بالمقياس الخُلُقي الصحيح الذي يمدّه ذلك التفسير بالضمان الكافي.
ويتلخّص الآخر في التربية الخُلُقية التي ينشأ عنها في نفس الإنسان مختلف المشاعر والعواطف التي تضمن إجراء المقياس الخُلُقي بوحي من الذات.
فالفهم المعنوي للحياة، والتربية الخُلُقية للنفس في رسالة الإسلام، هما السببان المجتمعان على معالجة السبب الأعمق للمأساة الإنسانية.
ولنعبِّر- دائماً- عن فهم الحياة على أ نّها تمهيد لحياة أبدية بالفهم المعنوي للحياة. ولنعبِّر- أيضاً- عن المشاعر والأحاسيس التي تغذّيها التربية الخُلُقية بالإحساس الخُلُقي بالحياة.
فالفهم المعنوي للحياة، والإحساس الخُلُقي بها، هما الركيزتان اللتان يقوم على أساسهما المقياس الخُلُقي الجديد الذي يضعه الإسلام للإنسانية، وهو:
رضا اللَّه تعالى. ورضا اللَّه- هذا الذي يقيمه الإسلام مقياساً عامّاً في الحياة- هو الذي يقود السفينة البشرية إلى ساحل الحقّ والخير والعدالة.
فالميزة الأساسية للنظام الإسلامي تتمثّل فيما يرتكز عليه من فهم معنوي للحياة، وإحساس خُلُقي بها. والخطّ العريض في هذا النظام هو: اعتبار الفرد والمجتمع معاً، وتأمين الحياة الفردية والاجتماعية بشكل متوازن. فليس الفرد هو القاعدة المركزية في التشريع والحكم، وليس الكائن الاجتماعي الكبير هو الشي‏ء الوحيد الذي تنظر إليه الدولة وتشرِّع لحسابه.

57

هذه بعض الصور الرائعة التي يقدّمها الدين مثالًا على الاسلوب الأوّل الذي يتّبعه للتوفيق بين المقياسين وتوحيد الميزانين، فيربط بين الدوافع الذاتية وسبل الخير في الحياة، ويطوِّر من مصلحة الفرد تطويراً يجعله يؤمن بأنّ مصالحه الخاصّة والمصالح الحقيقية العامّة للإنسانية- التي يحدّدها الإسلام- مترابطتان‏[1].

وأمّا الاسلوب الثاني الذي يتّخذه الدين للتوفيق بين الدافع الذاتي والقيم أو المصالح الاجتماعية فهو: التعهّد بتربية أخلاقية خاصّة تعنى بتغذية الإنسان روحياً، وتنمية العواطف الإنسانية والمشاعر الخُلُقية فيه. فإنّ في طبيعة الإنسان- كما ألمعنا سابقاً- طاقات واستعدادات لميول متنوّعة: بعضها ميول مادّية تتفتّح شهواتها بصورة طبيعية كشهوات الطعام والشراب والجنس، وبعضها ميول معنوية تتفتّح وتنمو بالتربية والتعاهد؛ ولأجل ذلك كان من الطبيعي للإنسان- إذا تُرِك لنفسه- أن تسيطر عليه الميول المادّية؛ لأنّها تتفتّح بصورة طبيعية، وتظلّ الميول المعنوية واستعداداتها الكامنة في النفس مستترة. والدين باعتباره يؤمن بقيادة معصومة مسدَّدة من اللَّه، فهو يوكل أمر تربية الإنسانية وتنمية الميول المعنوية فيها إلى هذه القيادة وفروعها، فتنشأ بسبب ذلك مجموعة من العواطف والمشاعر النبيلة، ويصبح الإنسان يحبّ القيم الخُلُقية والمثل التي يربّيه الدين على احترامها، ويستبسل في سبيلها، ويزيح عن طريقها ما يقف أمامها من مصالحه ومنافعه. وليس معنى ذلك أنّ حبّ الذات يُمحى من الطبيعة الإنسانية، بل إنّ العمل في سبيل تلك القيم والمثل تنفيذ كامل لإرادة حبّ الذات؛ فإنّ القيم بسبب التربية الدينية تصبح محبوبة للإنسان، ويكون تحقيق المحبوب بنفسه معبِّراً عن لذّة شخصية خاصّة، فتفرض طبيعة حبّ الذات بذاتها السعي لأجل القيم الخُلُقية

 

[1] انظر اقتصادنا، مبحث: المادية التاريخية والمشكلة

56

تعالى؛ لأنّ ذلك يدخل في حساب ربحه الشخصي ما دام كلّ عمل ونشاط في هذا الميدان يُعوَّض عنه بأعظم العوض وأجلّه.

فمسألة المجتمع هي مسألة الفرد أيضاً في مفاهيم الدين عن الحياة وتفسيرها. ولا يمكن أن يحصل هذا الاسلوب من التوفيق في ظلّ فهم مادّي للحياة؛ فإنّ الفهم المادّي للحياة يجعل الإنسان بطبيعته لا ينظر إلّاإلى ميدانه الحاضر وحياته المحدودة، على عكس التفسير الواقعي للحياة الذي يقدِّمه الإسلام؛ فإنّه يوسّع من ميدان الإنسان، ويفرض عليه نظرة أعمق إلى مصالحه ومنافعه، ويجعل من الخسارة العاجلة ربحاً حقيقياً في هذه النظرة العميقة، ومن الأرباح العاجلة خسارة حقيقية في نهاية المطاف:

«مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ أَساءَ فَعَلَيْها»[1].

«وَ مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى‏ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ»[2]

«يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ‏* فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ‏* وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ»[3].

«ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَ لا نَصَبٌ وَ لا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ لا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَ لا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ‏* وَ لا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً وَ لا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ»[4].

 

[1] فصّلت: 46

[2] المؤمن: 40

[3] الزلزال: 6- 8

[4] التوبة: 120- 121

55

رسالة الدين:

ويقوم الدين هنا برسالته الكبرى التي لا يمكن أن يضطلع بأعبائها غيره، ولا أن تحقِّق أهدافها البنّاءة وأغراضها الرشيدة إلّاعلى اسسه وقواعده، فيربط بين المقياس الخُلُقي الذي يضعه للإنسان وحبّ الذات المتركّز في فطرته.
وفي تعبير آخر: إنّ الدين يوحِّد بين المقياس الفطري للعمل والحياة وهو:
حبّ الذات، والمقياس الذي ينبغي أن يقام للعمل والحياة؛ ليضمن السعادة والرفاه والعدالة.
إنّ المقياس الفطري يتطلّب من الإنسان أن يقدّم مصالحه الذاتية على مصالح المجتمع ومقوِّمات التماسك فيه، والمقياس الذي ينبغي أن يحكم ويسود هو: المقياس الذي تتعادل في حسابه المصالح كلّها، وتتوازن في مفاهيمه القيم الفردية والاجتماعية.
فكيف يتمّ التوفيق بين المقياسين وتوحيد الميزانين؛ لتعود الطبيعة الإنسانية في الفرد عاملًا من عوامل الخير والسعادة للمجموع، بعد أن كانت مثار المأساة والنزعة التي تتفنّن في الأنانية وأشكالها؟
إنّ التوفيق والتوحيد يحصل بعملية يضمنها الدين للبشرية التائهة. وتتّخذ العملية اسلوبين:
الاسلوب الأوّل- هو تركيز التفسير الواقعي للحياة وإشاعة فهمها في لونها الصحيح كمقدّمة تمهيدية إلى حياة اخروية، يكسب الإنسان فيها من السعادة على مقدار ما يسعى في حياته المحدودة هذه في سبيل تحصيل رضا اللَّه. فالمقياس الخُلُقي- أو رضا اللَّه تعالى- يضمن المصلحة الشخصية في نفس الوقت الذي يحقّق فيه أهدافه الاجتماعية الكبرى. فالدين يأخذ بيد الإنسان إلى المشاركة في إقامة المجتمع السعيد، والمحافظة على قضايا العدالة فيه التي تحقِّق رضا اللَّه‏

54

حياته، فجعله يؤمن بأنّ حياته منبثقة عن مبدأ مطلق الكمال، وأ نّها إعداد للإنسان إلى عالم لا عناء فيه ولا شقاء، ونصب له مقياساً خُلُقياً جديداً في كلّ خطواته وأدواره، وهو: رضا اللَّه تعالى. فليس كلّ ما تفرضه المصلحة الشخصية فهو جائز، وكلّ ما يؤدّي إلى خسارة شخصية فهو محرّم وغير مستساغ، بل الهدف الذي رسمه الإسلام للإنسان في حياته هو: الرضا الإلهي. والمقياس الخُلُقي الذي توزن به جميع الأعمال إنّما هو: مقدار ما يحصل بها من هذا الهدف المقدّس.
والإنسان المستقيم هو: الإنسان الذي يحقّق هذا الهدف. والشخصية الإسلامية الكاملة هي: الشخصية التي سارت في شتّى أشواطها على هدي هذا الهدف، وضوء هذا المقياس، وضمن إطاره العامّ.
وليس هذا التحويل في مفاهيم الإنسان الخُلُقية وموازينه وأغراضه يعني تغيير الطبيعة الإنسانية وإنشاءها إنشاءً جديداً، كما كانت تعني الفكرة الشيوعية.
فحبّ الذات- أي: حبّ الإنسان لذاته وتحقيق مشتهياتها الخاصّة- طبيعي في الإنسان، ولا نعرف استقراء في ميدان تجريبي أوضح من استقراء الإنسانية في تأريخها الطويل الذي يبرهن على ذاتية حبّ الذات، بل لو لم يكن حبّ الذات طبيعياً وذاتياً للإنسان لما اندفع الإنسان الأوّل- قبل كلّ تكوينة اجتماعية- إلى تحقيق حاجاته، ودفع الأخطار عن ذاته، والسعي وراء مشتهياته بالأساليب البدائية التي حفظ بها حياته وأبقى وجوده، وبالتالي خوض الحياة الاجتماعية والاندماج في علاقات مع الآخرين؛ تحقيقاً لتلك الحاجات ودفعاً لتلك الأخطار. ولما كان حبّ الذات يحتلّ هذا الموضع من طبيعة الإنسان، فأيّ علاج حاسم للمشكلة الإنسانية الكبرى يجب أن يقوم على أساس الإيمان بهذه الحقيقة. وإذا قام على فكرة تطويرها أو التغلّب عليها، فهو علاج مثالي لا ميدان له في واقع الحياة العملية التي يعيشها الإنسان.

53

إنّ الديمقراطية الرأسمالية نظام محكوم عليه بالانهيار والفشل المحقّق في نظر الإسلام، ولكن لا باعتبار ما يزعمه الاقتصاد الشيوعي من تناقضات رأس المال بطبيعته، وعوامل الفناء التي تحملها الملكية الخاصّة في ذاتها؛ لأنّ الإسلام يختلف في طريقته المنطقية واقتصاده السياسي وفلسفته الاجتماعية عن مفاهيم هذا الزعم وطريقته الجدلية- كما أوضحنا ذلك في كتاب (اقتصادنا)- ويضمن وضع الملكية الفردية في تصميم اجتماعي، خالٍ من تلك التناقضات المزعومة.
بل إنّ مردّ الفشل والوضع الفاجع الذي منيت به الديمقراطية الرأسمالية في عقيدة الإسلام إلى مفاهيمها المادّية الخالصة، التي لا يمكن أن يسعد البشر بنظام يستوحي جوهره منها، ويستمدّ خطوطه العامّة من روحها وتوجيهها.
فلا بدّ إذن من معين آخر- غير المفاهيم المادّية عن الكون- يستقي منه النظام الاجتماعي، ولا بدّ من وعي سياسي صحيح ينبثق عن مفاهيم حقيقية للحياة، ويتبنّى القضية الإنسانية الكبرى، ويسعى إلى تحقيقها على قاعدة تلك المفاهيم، ويدرس مسائل العالم من هذه الزاوية. وعند اكتمال هذا الوعي السياسي في العالَم، واكتساحه لكلّ وعي سياسي آخر، وغزوه لكلّ مفهوم للحياة لا يندمج بقاعدته الرئيسية … يمكن أن يدخل العالَم في حياة جديدة مشرقة بالنور عامرة بالسعادة.
إنّ هذا الوعي السياسي العميق هو: رسالة السلام الحقيقي في العالم، وإنّ هذه الرسالة المنقذة لهي رسالة الإسلام الخالدة التي استمدّت نظامها الاجتماعي- المختلف عن كلّ ما عرضناه من أنظمة- من قاعدة فكرية جديدة للحياة والكون.
وقد أوجد الإسلام بتلك القاعدة الفكرية النظرة الصحيحة للإنسان إلى‏

52

الاشتراكي وإن كان يلغي الملكية الخاصّة لوسائل الانتاج، غير أ نّه لا يلغي إدارتها الخاصّة من قِبل هيئات الجهاز الحاكم الذي يمارس دكتاتورية البروليتاريا، ويحتكر الإشراف على جميع وسائل الانتاج وإدارتها؛ إذ ليس من المعقول أن تدار وسائل الانتاج في لحظة تأميمها إدارة جماعية اشتراكية من قِبل أفراد المجتمع كافّة. فالنظام الاشتراكي يحتفظ- إذن- بظواهر فردية بارزة، ومن الطبيعي لهذه الظواهر الفرديّة أن تحافظ على الدافع الذاتي، وتعكسه في المحتوى الداخلي للإنسان باستمرار، كما كانت تصنع ظاهرة الملكية الخاصّة.
وهكذا نعرف قيمة السبيل الأوّل لحلّ المشكلة- السبيل الشيوعي- الذي يعتبر إلغاء تشريع الملكية الخاصّة ومحوها من سجلّ القانون كفيلًا وحده بحلّ المشكلة وتطوير الإنسان.
وأمّا السبيل الثاني- الذي مرّ بنا- فهو الذي سلكه الإسلام؛ إيماناً منه بأنّ الحلّ الوحيد للمشكلة تطوير المفهوم المادّي للإنسان عن الحياة. فلم يبتدر إلى مبدأ الملكية الخاصّة ليبطله، وإنّما غزا المفهوم المادّي عن الحياة، ووضع للحياة مفهوماً جديداً، وأقام على أساس ذلك المفهوم نظاماً لم يجعل فيه الفرد آلة ميكانيكية في الجهاز الاجتماعي، ولا المجتمع هيئة قائمة لحساب الفرد، بل وضع لكلّ منهما حقوقه، وكفل للفرد كرامته المعنوية والمادّية معاً. فالإسلام وضع يده على نقطة الداء الحقيقية في النظام الاجتماعي للديمقراطية وما إليه من أنظمة، فمحاها محواً ينسجم مع الطبيعة الإنسانية؛ فإنّ نقطة الارتكاز الأساسية لما ضجّت به الحياة البشرية من أنواع الشقاء وألوان المآسي هي: النظرة المادّية إلى الحياة التي نختصرها بعبارة مقتضبة في افتراض حياة الإنسان في الدنيا هي كلّ ما في الحساب من شي‏ء، وإقامة المصلحة الشخصية مقياساً لكلّ فعّالية ونشاط.

51

وفي المحتوى الداخلي للإنسان، فتنقلب مشاعره الفردية إلى مشاعر جماعية، ويتحوّل حبّه لمصالحه ومنافعه الخاصّة إلى حبّ لمنافع الجماعة ومصالحها، وفقاً لقانون التوافق بين حالة الملكية الأساسية، ومجموع الظواهر الفوقية التي تتكيّف بموجبها.
والواقع: أنّ هذا المفهوم الماركسي لحبّ الذات، يقدِّر العلاقة بين الواقع الذاتي (غريزة حبّ الذات)، وبين الأوضاع الاجتماعية بشكل مقلوب. وإلّا فكيف نستطيع أن نؤمن بأنّ الدافع الذاتي وليد الملكية الخاصّة والتناقضات الطبقية التي تنجم عنها؟! فإنّ الإنسان لو لم يكن يملك سلفاً الدافع الذاتي، لما أوجد هذه التناقضات، ولا فكّر في الملكية الخاصّة والاستئثار الفردي.
ولماذا يستأثر الإنسان بمكاسب النظام، ويضعه بالشكل الذي يحفظ مصالحه على حساب الآخرين ما دام لا يحسّ بالدافع الذاتي في أعماق نفسه؟!
فالحقيقة: أنّ المظاهر الاجتماعية للأنانية في الحقل الاقتصادي والسياسي لم تكن إلّانتيجة للدافع الذاتي لغريزة حبّ الذات. فهذا الدافع أعمق منها في كيان الإنسان، فلا يمكن أن يزول وتقتلع جذوره بإزالة تلك الآثار؛ فإنّ عملية كهذه لا تعدو أن تكون استبدالًا لآثار باخرى قد تختلف في الشكل والصورة، لكنّها تتّفق معها في الجوهر والحقيقة.
أضف إلى ذلك: أ نّنا لو فسّرنا الدافع الذاتي (غريزة حبّ الذات) تفسيراً موضوعياً- بوصفه انعكاساً لظواهر الفردية في النظام الاجتماعي، كظاهرة الملكية الخاصّة- كما صنعت الماركسية، فلا يعني هذا أنّ الدافع الذاتي سوف يفقد رصيده الموضوعي وسببه من النظام الاجتماعي بإزالة الملكية الخاصّة؛ لأنّها وإن كانت ظاهرة ذات طابع فردي، ولكنّها ليست هي الوحيدة من نوعها، فهناك- مثلًا- ظاهرة الإدارة الخاصّة التي يحتفظ بها حتّى النظام الاشتراكي؛ فإنّ النظام‏