رسالتنا
38

ولا نشّك أنّ هذا الإحساس الأليم بالحاجة إلى الرسالة البنّاءة في كلّ الميادين الفكرية والعملية، هذا الإحساس الذي يسيطر على الامّة، وأنّ هذه اليقظة الخيِّرة التي بدأت تباشيرها تبدو هنا وهناك، وأنّ هذا الموج المعنويّ المتزايد الذي بدأ يفجِّر تيّاراً من الشعور الإسلامي لا نشكّ في أنّ هذا كلّه يؤكّد أنّ رسالتنا المقدّسة إنّما بدأت تسير في طريقها إلى مركزها الطبيعي، إلى مركز القاعدة الفكرية من الذهنية الإسلامية، وذلك حينما يستأنف المسلمون إيمانهم بالرسالة إيمان وعيٍ لا إيمان تقليد، وإخلاصهم لها إخلاصاً أصيلًا لا إخلاصاً سطحياً يعتمد على الوراثة والبيئة فحسب:

«سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ شَهِيدٌ»[1].

 

[1] فصِّلت: 53

37

من استيحاءاتٍ مستمَدّةٍ من القاعدة الفكرية، كما يفعل كثير من الباحثين المسلمين اليوم مع أفكار كثيرة من علماء الاجتماع والنفس والتاريخ الأوربيين، فإنّ أول نقطةٍ يجب التأكّد منها قبل كلّ شي‏ءٍ هي البحث عن مدى صلة الفكرة المبحوث عنها بالقاعدة التي ثبت لدينا خطؤها، وعلى ضوء هذه الصلة يجب أن تتركّز نظرتنا إلى الفكرة والحكم لها أو عليها بما نستخلصه من البحث والدراسة.
كما أ نّه ليس من الصحيح أيضاً ما يتّجه إليه بعض الدعاة المسلمين من الحكم على كلّ تفكيرٍ اوروبّيٍّ يتّصل بالحياة الإنسانية بأ نّه خطأ لأنّه مستنبط من القاعدة، وما دامت القاعدة خطأً فما يستنبط منها خطأ أيضاً، فإنّ استنباط الفكرة من القاعدة في المجالات النظرية لا يعني أ نّها مستنتجة منها استنتاجاً ومتوقّفة في مصيرها على القاعدة نفسها، وإنّما يعني- كما ألمعنا إليه- أنّ الفكرة صيغت بالشكل الذي لا يتناقض مع تلك القاعدة، سواء أكانت مستمَدّةً منها بصورةٍ مباشرةٍ أم لا، والقاعدة وإن كانت خطأً ولكن ليس من الضروري في كلّ فكرةٍ لا تتناقض مع الخطأ أن تكون خطأً.
وثانياً: من واجب المسلمين الواعين أن يجعلوا من الإسلام قاعدةً فكريةً وإطاراً عامّاً لكلّ ما يتبنَّون من أفكارٍ حضاريةٍ ومفاهيم عن الكون والحياة والإنسان والمجتمع، ولا شكّ أنّ العقيدة الدينية نفسها تعني هذا الشي‏ء وتفرضه موجوداً لدى المتديِّن، غير أنّ العقيدة الدينية لمّا كانت تعيش اليوم في نفوس كثيرٍ من الناس مجرّدةً عن وعيٍ حقيقيٍّ يسندها نجد أنّ جمهرةً من المسلمين لا يَعُون المكان الطبيعيّ الذي يجب أن تحتلّه رسالتنا الفكرية الأصلية من التفكير العامّ.
وليس هذا الفرق الذي نجده بين رسالتنا الإسلامية والرسالات الاوروبّية في مواضعها من التفكير العامّ ناشئاً عن طبيعة تلك الرسالة، وإنّما هو نتيجة الإختلاف فيما يرافق كلّ رسالةٍ في ذهنية أصحابها من درجة الوعي والشعور.

36

تجاه الكون والحياة والمجتمع والتاريخ هي القطب المركزيّ الذي ينعكس إلى حدٍّ قصير أو طويل في كلّ المفاهيم والأفكار الحضارية التي تتبنّاها الماركسية ويؤمن بها مفكّروها.
ونحن بطبيعة الحال لا نعني من احتلال الرسالة مركز القاعدة من التفكير في الحضارة الاوروبّية أنّ الرسالة استطاعت أن تموّن المفكّر مباشرةً بكلّ ما يحتاجه من مفاهيم ومعارف في كلّ الحقول والميادين إلى الدرجة التي تصبح كلّ معرفةٍ منبثقةً عن الرسالة ومتفرّعةً عن القاعدة الرئيسية المفترضة، بل الواقع أنَّ وضع الرسالة في الموضع الرئيسي من التفكير الحضاري إنّما يعني محاولة التوفيق بين جوهر الرسالة وروحها وبين الأفكار الحضارية المتبنّاة، إذ من المنطقيّ والطبيعيّ أ نّه ما دامت الرسالة صحيحةً فعليها أن ترفض كلّ فكرةٍ تتّصل بالميادين الإنسانية إذا كانت تناقض تلك الرسالة، فالأفكار التي تتكوّن منها كلّ حضارةٍ ذات رسالةٍ تخضع لمقاييس تلك الرسالة وتتجنّب مناقضتها، سواء أكانت مستنبطةً منها أم لا.
هذا هو الواقع الذي يتبيّن بكلّ وضوحٍ لدى دراسة كلٍّ من الكيانين الحضاريّين المتصارعين اليوم على مسرح التفكير الاوروبّي.
وأمّا موقفنا من هذا الواقع فهو:
أولًا: أن نكون على حظٍّ عظيمٍ من الدقّة والوعي حينما نبحث عن الأفكار الاوروبّية، لأجل أن نستطيع تعريتها عن إطارها الرسالي، والتعرّف على مدى صلتها بهذا الإطار وتأثّرها به.
وهذا هو الموقف الوسط الذي يجب أن يقفه المسلم الواعي من كلّ تفكيرٍ اوروبّيٍّ يتّصل من قريبٍ أو بعيدٍ بالحقول التي تعالجها الرسالة وتمتّد إليها القاعدة الفكرية، فليس من الصحيح إغفال هذه الناحية الخطيرة (ناحية الصلة بين الفكرة ودراسة الفكرة) بغضّ النظر عمّا قد يكون لها من إطارٍ خاصٍّ، أو قد يكون فيها

35

بسم الله الرحمن الرحيم‏

رسالتنا يجب أن تكون قاعدة

إنّ للحضارة الغربية بأفكارها ومفاهيمها وكيانها الثقافي عامّةً قاعدةً فكريةً تستند إليها وهي «الديمقراطية»، أو بالأحرى الحرّيات الرئيسية في المجالات الفكرية والدينية والسياسية والاقتصادية، فإنّ هذه الحرّيات بمفهومها الحضاريّ الغربيّ هي حجر الزاوية في ثقافة الغرب، والإطار الفكريّ الذي تدور في نطاقه الأفكار والمفاهيم الغربية عن الإنسان والحياة والكون والمجتمع، وحتّى أ نّه لعب دوراً رئيسياً في تحديد الاتّجاه العامّ لمفكّري الغرب فيما يسمّونه بالعلوم الإنسانية والاجتماعية، فلم تستطع البحوث الإنسانية لهؤلاء المفكّرين أن تتجرّد عن تأثير الرسالة التي يعتنقها الباحثون كقاعدةٍ عامّة.
وليس تأثّر قوانين الاقتصاد السياسي بالحرّية الاقتصادية وتأثّر الاتّجاهات السيكولوجية لبعض مدارس علم النفس التحليلي التي يتزعّمها «فرويد» وغيره من اللاشعوريّين بالحرّية الشخصية إلّامن الأمثلة الواضحة لما نؤكّد عليه من الصلة الوثيقة بين أفكار الحضارة الغربية وبين القاعدة الفكرية التي تستند إليها ورسالتها الإجتماعية التي تدعو وتبشِّر بها.
وكذلك الأمر تماماً فيما يتّصل بالحضارة الماركسية التي تنافس الحضارة الرأسمالية في كلّ الميادين، فإنّ رسالتها الفكرية التي تدعو إلى نظرةٍ ماديةٍ معيّنة

34

33

رسالتنا يجب أن تكون قاعدة

32

ثالثاً: المقياس العمليّ العامّ الذي بَشَّر به الإسلام على أساس نظرته العامّة للحياة والكون، فما دام الإنسان مرتبطاً بخالقٍ وهبه الحياة وكلّ محتوياتها وإطاراتها المادية والمعنوية يجب أن يكون مقياسه في الحياة هو رضا اللَّه تعالى بأن يكيّف حياته طبقاً لرضاه جل شأنه: «وَ اتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَ اللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ»[1]. وهذا المقياس العمليّ يشمل جميع الميادين العملية للإنسان من فرديةٍ أو اجتماعية، ويشمل مختلف الحقول الإجتماعية من سياسيةٍ واقتصاديةٍ وأخلاقية.

فالإسلام يحتِّم على الإنسان أن يسير في كلّ هذه المجالات طبقاً لرضا اللَّه سبحانه وتوجيهه. ويمتاز هذا المقياس عن أيّ مقياسٍ آخر يقدِّمه فلاسفة الأخلاق عادةً بمميّزاتٍ أساسية، فهو مقياس من النظرة الروحية العامة إلى الحياة والكون وليس مقياساً مرتجلًا، كما أ نّه يزيل كلّ تناقضٍ من الصعيد العملي، على عكس كثيرٍ من المقاييس التي يقدِّمها فلاسفة الأخلاق كاللذّة أو المنفعة ونحوهما من مفاهيم غائمةٍ أو غير محدّدة، فإنّ الناس في المجتمع الواحد يتناقضون في لذّاتهم ومنافعهم. كما تتناقض المجتمعات البشرية المختلفة في هذه المقاييس أيضاً، فما كان فيه منفعة فردٍ أو مجتمع أو كان ملذّاً لهما قد يكون مضرّاً بفردٍ أو بمجتمعٍ آخر. وإيمان الإنسانية بهذه المقاييس الخلقية الناقصة هو الذي جرّ عليها كثيراً من ألوان البلاء وألقى بها في دوامةٍ من الصراع والنزاع. وأمّا حين تأخذ الإنسانية بالمقياس العمليّ الذي ينادي به الإسلام فسوف يزول كلّ لونٍ من ألوان الصراع والتناقض، لأنّ رضا اللَّه تعالى لا يتناقض ولا يختلف.

وبهذا المقياس وحده يمكن إنشاء المجتمع المطمئن المتعاون الذي إن ساده شي‏ء من روح التنافس فإنّما يوجد هذا التنافس على مقدار ما يحصل عليه من رضا اللَّه، وليس على مقدار ما يكسبه من المصالح الخاصّة والمنافع المادية.

 

[1] آل عمران: 174

31

العقيم. وهكذا أخطأ العقليّون حين لم يعرفوا- عملياً على الأقلّ- ما هي وظائف العقل بصفته مقياساً أساسياً للفكر.

وكما أخطأ هؤلاء أخطأ التجريبيون أيضاً الذين اتّجهوا اتجاهاً معاكساً تماماً كردِّ فعلٍ للإتجاه العقلي السابق، فآمنوا بالتجربة وقدرتها على استكشاف الحقائق والأسرار، وظنّوا في غمرةٍ من نشوة الظفر بما توصّلوا إليه من معلوماتٍ تجريبيةٍ أ نّهم استغنوا عن خدمات العقل لأنّه ممّا لم تتكشّف عنه التجربة بعد.

وكان نتائج ذلك أن تحرّر كثير من أنصار التجربة المعملية، وخسر العقليون الثروة التجريبية الضخمة، كذلك خسر التجريبيون الثروة العقلية الروحية الجبّارة.

وأمّا الإسلام فقد وقف من الفريقين الموقف الصحيح، ورسم الطريق اللاحب للفكر الإنساني الذي يضمن للإنسان أفضل النتائج في كلّ الميادين، ويحول بينه وبين الألوان العقيمة من الجدل الذي مُنِيَ به العقليون، كما يحول بينه وبين المادّية المُسِفَّة التي انتهى التجريبيون إليها. وتلخّص هذا الطريق في أنّ العقل يجب أن يؤخذ كمقياسٍ للأفكار، وحاكم فصلٍ نُلقي بين يديه المعلومات التي حصل عليها الإنسان عن طريق الملاحظة الحسّية أو التجربة العملية، لينظّمها ويستنتج منها ما تنتجه من حقائق مادّية أو حقائق خارجةٍ عن حدود المادة:

«أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها …»[1]. فليس السير في الأرض وما يشير إليه من ألوان التأمّل التجريبي في حقائقها مغنياً عن العقل، وليس العقل مغنياً عن السير في الأرض ودراسة حقائقها بالطرق الحسّية والتجريبية.

فالأخذ بالتجربة واستثمارها واستنطاقها صحيح كلّ الصحّة ولكن شريطة أن لا يلغى العقل ولا يحبس الإنسان نفسه في حدود حِسِّهِ التجريبي، بل يحكِّم عقله فيما يحسّ ويجرّب ليستنتج ما وراء التجربة استنتاجاً عقلياً متّسقاً.

 

[1] الحجّ: 46

30

ثانياً: الطريقة العقلية في التفكير، إذ توجد طريقتان للتفكير:
إحداهما: الطريقة العقلية التي تعتبر العقل حاكماً نهائياً ومقياساً أساسياً تقاس على ضوئه الأفكار والمعلومات لامتحان مدى صحّتها وموضوعيتها.
والاخرى: هي الطريقة التجريبية التي تُقصي العقل عن هذا المجال وتسلب منه وظيفته الأساسية هذه في الحياة الفكرية، وتضع موضعه التجربة مدَّعيةً أ نّها هي الأساس الوحيد لكلّ ما يمكن أن يتوصّل إليه الإنسان من حقائق واستنتاجات.
والواقع أنّ كلًاّ من العقليّين والتجريبيّين وقع في خطأ كانت له أسوأ النتائج.
فالعقليون الذين نادوا بالعقل مقياساً لم يطبّقوا عملياً هذا المقياس وحسب، وإنّما أفرطوا فحصروا بحوثهم في النطاق العقلي وكلّفوا العقل المجرّد أن يزوّدهم بالحقائق والمعلومات حتى في الميادين والمجالات التي ليست من حقّه، وبذلك ضاعت عليهم فرصة الاستفادة من المعين التجريبي وما يتدفّق به من حقائق ونتائج.
ومن أوضح الأمثلة لذلك: ما شغل بال العقليّين قروناً متطاولةً من الزمان حين حاولوا أن يتعرّفوا على ما إذا كانت المادة متكوّنةً من أجزاءٍ وذرّاتٍ يتخلّلها الفراغ أو متّصلةً إتّصالًا حقيقياً لا فراغ فيه.
لقد خيِّل للعقليّين أ نّهم يستطيعون أن يصلوا إلى الكلمة النهائية في البحث عن طريق العقل وحده، ومنها نشأت النظريتان: «الاتّصالية، والانفصالية»، وقام الصراع عنيفاً بين هؤلاء واولئك من الاتّصاليّين والانفصاليّين بعيداً عن التجربة ووسائلها، فلم يصلوا إلى نتيجةٍ حاسمة، لا لشي‏ءٍ إلّالأنّ العقل بطبيعته حياديٌّ في مثل هذا الموقف وما يشابهه من المواقف التحليلية للكون، فهو لا يستطيع أن يدرك بصورةٍ مستقلّة عن التجربة ما إذا كان الجسم مؤلّفاً من ذرّاتٍ أم لا. ولو أنّ العقليّين إنصرفوا إلى التجربة واستنطقوها ثمّ رجعوا إلى العقل كمفسِّرٍ نهائيٍّ لظواهر التجربة ونتائجها لوصلوا إلى خيرٍ كبيرٍ هو أفضل ألف مرّةٍ من هذا الجدل‏