ثانياً: الطريقة العقلية في التفكير، إذ توجد طريقتان للتفكير:
إحداهما: الطريقة العقلية التي تعتبر العقل حاكماً نهائياً ومقياساً أساسياً تقاس على ضوئه الأفكار والمعلومات لامتحان مدى صحّتها وموضوعيتها.
والاخرى: هي الطريقة التجريبية التي تُقصي العقل عن هذا المجال وتسلب منه وظيفته الأساسية هذه في الحياة الفكرية، وتضع موضعه التجربة مدَّعيةً أ نّها هي الأساس الوحيد لكلّ ما يمكن أن يتوصّل إليه الإنسان من حقائق واستنتاجات.
والواقع أنّ كلًاّ من العقليّين والتجريبيّين وقع في خطأ كانت له أسوأ النتائج.
فالعقليون الذين نادوا بالعقل مقياساً لم يطبّقوا عملياً هذا المقياس وحسب، وإنّما أفرطوا فحصروا بحوثهم في النطاق العقلي وكلّفوا العقل المجرّد أن يزوّدهم بالحقائق والمعلومات حتى في الميادين والمجالات التي ليست من حقّه، وبذلك ضاعت عليهم فرصة الاستفادة من المعين التجريبي وما يتدفّق به من حقائق ونتائج.
ومن أوضح الأمثلة لذلك: ما شغل بال العقليّين قروناً متطاولةً من الزمان حين حاولوا أن يتعرّفوا على ما إذا كانت المادة متكوّنةً من أجزاءٍ وذرّاتٍ يتخلّلها الفراغ أو متّصلةً إتّصالًا حقيقياً لا فراغ فيه.
لقد خيِّل للعقليّين أ نّهم يستطيعون أن يصلوا إلى الكلمة النهائية في البحث عن طريق العقل وحده، ومنها نشأت النظريتان: «الاتّصالية، والانفصالية»، وقام الصراع عنيفاً بين هؤلاء واولئك من الاتّصاليّين والانفصاليّين بعيداً عن التجربة ووسائلها، فلم يصلوا إلى نتيجةٍ حاسمة، لا لشيءٍ إلّالأنّ العقل بطبيعته حياديٌّ في مثل هذا الموقف وما يشابهه من المواقف التحليلية للكون، فهو لا يستطيع أن يدرك بصورةٍ مستقلّة عن التجربة ما إذا كان الجسم مؤلّفاً من ذرّاتٍ أم لا. ولو أنّ العقليّين إنصرفوا إلى التجربة واستنطقوها ثمّ رجعوا إلى العقل كمفسِّرٍ نهائيٍّ لظواهر التجربة ونتائجها لوصلوا إلى خيرٍ كبيرٍ هو أفضل ألف مرّةٍ من هذا الجدل