العقيم. وهكذا أخطأ العقليّون حين لم يعرفوا- عملياً على الأقلّ- ما هي وظائف العقل بصفته مقياساً أساسياً للفكر.
وكما أخطأ هؤلاء أخطأ التجريبيون أيضاً الذين اتّجهوا اتجاهاً معاكساً تماماً كردِّ فعلٍ للإتجاه العقلي السابق، فآمنوا بالتجربة وقدرتها على استكشاف الحقائق والأسرار، وظنّوا في غمرةٍ من نشوة الظفر بما توصّلوا إليه من معلوماتٍ تجريبيةٍ أ نّهم استغنوا عن خدمات العقل لأنّه ممّا لم تتكشّف عنه التجربة بعد.
وكان نتائج ذلك أن تحرّر كثير من أنصار التجربة المعملية، وخسر العقليون الثروة التجريبية الضخمة، كذلك خسر التجريبيون الثروة العقلية الروحية الجبّارة.
وأمّا الإسلام فقد وقف من الفريقين الموقف الصحيح، ورسم الطريق اللاحب للفكر الإنساني الذي يضمن للإنسان أفضل النتائج في كلّ الميادين، ويحول بينه وبين الألوان العقيمة من الجدل الذي مُنِيَ به العقليون، كما يحول بينه وبين المادّية المُسِفَّة التي انتهى التجريبيون إليها. وتلخّص هذا الطريق في أنّ العقل يجب أن يؤخذ كمقياسٍ للأفكار، وحاكم فصلٍ نُلقي بين يديه المعلومات التي حصل عليها الإنسان عن طريق الملاحظة الحسّية أو التجربة العملية، لينظّمها ويستنتج منها ما تنتجه من حقائق مادّية أو حقائق خارجةٍ عن حدود المادة:
«أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها …»[1]. فليس السير في الأرض وما يشير إليه من ألوان التأمّل التجريبي في حقائقها مغنياً عن العقل، وليس العقل مغنياً عن السير في الأرض ودراسة حقائقها بالطرق الحسّية والتجريبية.
فالأخذ بالتجربة واستثمارها واستنطاقها صحيح كلّ الصحّة ولكن شريطة أن لا يلغى العقل ولا يحبس الإنسان نفسه في حدود حِسِّهِ التجريبي، بل يحكِّم عقله فيما يحسّ ويجرّب ليستنتج ما وراء التجربة استنتاجاً عقلياً متّسقاً.
[1] الحجّ: 46