الاسس المنطقية للاستقراء
67

نقد المبدأ الأرسطي‏

تمهيد: المبدأ الأرسطي للاستقراء يشكّل علماً إجماليّاً:

عرفنا أنّ المبدأ الأرسطي المتقدّم للاستقراء ينفي تكرّر الصدفة النسبيّة في عدد معقول من التجارب والمشاهدات خلال الاستقراء، ولنفرض الآن- تيسيراً للتعبير- أنّ هذا العدد هو (عشرة). فعلى أساس هذا الافتراض يعني المبدأ الأرسطي: أنّ (ألف) و (باء) إذا لم تكن بينهما رابطة سببيّة، وأوجدنا الألف عشر مرّات، فإنّ الباء سوف لا توجد في مرّة واحدة- على الأقلّ- من هذه المرّات؛ لأنّها لو وجدت واقترنت بالألف فيها جميعاً لكان معنى ذلك تكرّر الصدفة النسبيّة في عشر تجارب، وهذا ما ينفيه المبدأ الأرسطي.
والمبدأ الأرسطي إذ يخبرنا بأنّ الظاهرتين اللتين لا ترتبط إحداهما بالاخرى برباط السببيّة سوف لن تقترنا في تجربة واحدة على الأقلّ من التجارب العشر، لا يعيّن لنا هذه التجربة التي لا تقترن فيها الظاهرتان، فقد تكون الاولى أو الرابعة، أو أيّ تجربة اخرى من العشرة، وبذلك يكون المبدأ الأرسطي علماً بنفي غير محدّد.
والعلم بنفي غير محدّد، له أمثلة كثيرة في معارفنا الاعتياديّة، كما أنّ العلم بنفي محدّد له أمثلة كثيرة أيضاً.
فنحن قد نعلم بأنّ هذه الورقة ليست سوداء، وهذا علم بنفي محدّد. وقد لا نعلم بذلك، ولكنّا نعلم بأنّ الورقة ليست سوداء وبيضاء في نفس الوقت، وهذا علم بنفي غير محدّد؛ لأنّه ينفي أحد اللونين عن الورقة على أقلّ تقدير.
وقد نعلم بأنّ كتاب تأريخ الطبري الذي كان موجوداً في مكتبتنا قد فقد ولم‏

66

الصدفة النسبيّة، فإنّه- رغم عدم وقوعه في عالمنا هذا- لا ندرك استحالة مطلقة فيه، وبإمكاننا من الناحية النظريّة أن نتصوّر عالماً تتكرّر فيه الصدفة النسبيّة باستمرار، وتتعايش فيه تلك الصدف المتكرّرة بسلام.
وإذا كان المبدأ الأرسطي ينفي تكرّر الصدفة النسبيّة في عالمنا الذي نعيشه، مع الاعتراف بإمكان تكرّرها، فمن الطبيعي أن لا يكون هذا المبدأ من المبادئ العقليّة الأوليّة المستقلّة عن التجربة؛ لأنّ هذه المبادئ- حينما تنفى أو تثبت- تستند دائماً إلى الاستحالة والضرورة، وإذا ما أدركنا إمكان شي‏ء مّا، فكيف نستطيع أن ننفي وقوعه بصورة منفصلة عن الحسّ والتجربة؟
إنّ شيئاً من قبيل هذا التحليل قد يكفي للانتباه إلى أنّ هذا المبدأ ليس من المبادئ العقليّة القبليّة، غير أ نّنا سوف لن نكتفي بهذا، بل سوف نحاول القيام بتوضيح كامل لتفنيد الطابع العقلي المستقلّ لذلك المبدأ الأرسطي، ونستعمل وسائل عديدة للتنبيه على واقع ذلك المبدأ، وتجريده عن طابعه العقلي المزعوم.

65

ولما كانت القضيّة التجريبيّة من فئات القضايا الأوّليّة.
فالمنطق الأرسطي بحكم اعتباره للقضيّة التجريبيّة أوليّة، وبحكم إيمانه بأنّ كلّ تجربة يجب أن يدخل فيها ذلك المبدأ العقلي الذي ينفي تكرّر الصدفة النسبيّة، لا بدّ ان يكون مؤمناً بأنّ هذا المبدأ يمثّل معرفة عقليّة أوليّة، ومن أجل ذلك لا يجد حاجة إلى الاستدلال عليه، كما لا يستدلّ على أيّ معرفة عقليّة أوليّة.
فكما لا حاجة في الإيمان بمبدأ عدم التناقض إلى دليل، كذلك الأمر في مبدأ عدم تكرّر الصدفة النسبيّة؛ لأنّ المعارف الأوليّة تشكّل بدايات المعرفة العقليّة القبليّة، فلا يمكن أن يستدلّ عليها بمقدّمات سابقة عليها.
وما دمنا قد حصلنا على تصوّر محدّد لمفهوم المنطق الأرسطي عن المبدأ الذي ينفي تكرّر الصدفة النسبيّة، وعرفنا أ نّه يعتبره من القضايا العقليّة الأوليّة، كمبدأ عدم التناقض، فقد يكون بالإمكان التأكّد من خطأ المنطق الأرسطي في اعتقاده هذا بمجرّد تصوّره تصوّراً دقيقاً؛ لأنّ المبدأ الذي يقدّمه لنا المنطق الأرسطي- بوصفه مبدأً أوليّاً- هل ينفي تكرّر الصدفة النسبيّة على مستوى الوقوع فحسب، أي أ نّه ينفي وقوع هذا التكرار، أو ينفي الإمكان ويقرّر استحالة تكرّر الصدفة النسبيّة؟
فإن كان المبدأ الأرسطي يقرّر استحالة تكرّر الصدفة النسبيّة، كما يقرّر مبدأ عدم التناقض استحالة التناقض، فبسهولة يمكننا أن ندرك أنّ هذا المبدأ غير موجود في عقولنا؛ لأنّا جميعاً نميّز بين مبدأ عدم التناقض ومبدأ عدم تكرّر الصدفة النسبيّة، فإنّ عالمنا الواقعي الذي نعيش فيه وإن لم يوجد فيه تناقض ولا تكرّر مستمرّ في الصدفة النسبيّة على خطّ طويل، ولكنّنا ندرك أ نّه ليس بالإمكان أن يوجد التناقض فيه؛ لأنّه مستحيل، ولهذا لا يمكن أن نتصوّر عالماً تتعايش فيه الأشياء مع أعدامها في وقت واحد. وليس كذلك التكرّر المستمرّ في‏

64

فنحن هنا لا نريد أن نناقش المنطق الأرسطي في صدق المبدأ الذي ينفي تكرّر الصدفة النسبيّة، وإنّما نريد أن نناقشه في الطابع العقلي لهذا المبدأ واعتباره معرفة قبليّة.
وعلى هذا الأساس نتساءل: ما هو الدليل الذي يستند إليه المنطق الأرسطي في التأكيد على الطابع العقلي لهذا المبدأ؟ وكيف يمكن أن يثبت أ نّه مبدأ عقلي مستقلّ عن التجربة؟

كيف يثبت المنطق الأرسطي المبدأ العقلي؟

والواقع أنّ المنطق الأرسطي لم يقم أيّ دليل على هذا المبدأ؛ لأنّه يرى أنّ هذا المبدأ معرفة عقليّة أوليّة، والمعارف العقليّة الأوّليّة بطبيعتها لا تحتاج إلى دليل، ولا يمكن لأحد أن يبرهن عليها.
فإنّ المنطق الأرسطي يقسّم المعارف العقليّة إلى قسمين: معارف أوّليّة، ومعارف ثانويّة. فالمعارف الأوّليّة: هي المعلومات التي توجد بداهة في الذهن البشري، من قبيل مبدأ عدم التناقض. والمعارف الثانويّة: هي المعلومات التي تستنتج من المعلومات الأوليّة، من قبيل أنّ زوايا المثلّث تساوي قائمتين. فكلّ معرفة تنتمي إلى القسم الأوّل لا يمكن أن يبرهن عليها؛ لأنّها أوليّة، وليست مستنتجة. وكلّ معرفة تنتمي إلى القسم الثاني تحتاج إلى برهنة عليها عن طريق المعلومات الأوليّة. والمنطق الأرسطي يرى أنّ التجربة أحد المصادر الرئيسيّة للمعرفة، وأنّ القضايا التجريبيّة هي من فئات القسم الأوّل، أي أ نّها معارف أوّليّة.
وهذا يدلّ على أنّ المنطق الأرسطي يرى أنّ المبدأ العقلي- الذي يعتبره أساساً لتفسير الدليل الاستقرائي والتجربة- معرفة عقليّة أوليّة، إذ لو كان معرفة ثانويّة مستنتجة من مقدّمات سابقة، لما كانت التجربة مصدراً رئيساً للمعرفة،

63

تكرّر الصدفة النسبيّة باستمرار في عدد معيّن من التجارب، أي يثبت أنّ الصدف النسبيّة المتماثلة لا تتتابع خلال عدد معيّن من التجارب باستمرار.

النقطة الجوهريّة في الخلاف:

والنقطة الجوهريّة في خلافنا مع المنطق الأرسطي: أ نّا وإن كنّا لا نرفض بشكل كامل الاعتقاد بالمبدأ الذي تقرّره النقطة الثالثة، ولا ننكر صدقه- في حدودٍ مّا- على الطبيعة، ولكنّا نختلف مع المنطق الأرسطي في تقييم هذا المبدأ.
فإنّ المنطق الأرسطي يعتبر هذا المبدأ أساساً للاستدلالات الاستقرائيّة، وهذا يعني ضمناً أ نّه مبدأ عقلي قبلي، أي أ نّه مدرك للعقل بصورة مستقلّة عن الاستقراء والتجربة؛ لأنّه إذا كان مستخلصاً من الاستقراء والتجربة فلا يمكن أن يعتبر أساساً للاستدلال الاستقرائي، وشرطاً ضروريّاً للتعميمات الاستقرائيّة، إذ يصبح هو بنفسه واحداً من تلك التعميمات الاستقرائيّة، فيتوجّب على المنطق الأرسطي- وهو يحاول أن يتّخذ من ذلك المبدأ أساساً منطقيّاً للاستدلال الاستقرائي عموماً- أن يمنحه طابعاً عقليّاً خالصاً، ويؤمن به بوصفه معرفة عقليّة قبليّة مستقلّة عن الاستقراء والتجربة.
وهنا تكمن النقطة الجوهريّة في خلافنا مع المنطق الأرسطي؛ لأنّنا نرى أنّ المبدأ الذي ينفي تكرّر الصدفة النسبيّة باستمرار ليس معرفة عقليّة قبليّة، بل هو- إذا قبلناه- ليس على أفضل تقدير، إلّانتاج استقراء للطبيعة، كشف عن عدم تكرّر الصدفة النسبيّة فيها على خطٍّ طويل، وإذا كان هذا المبدأ بنفسه معطىً استقرائيّاً فلا يمكن أن يكون هو الأساس للاستدلال الاستقرائي، بل يتوجّب عندئذٍ الاعتراف بأنّ الأمثلة التي يعرضها الاستقراء كافية للاستدلال على قضيّة كليّة وتعميم استقرائي، دون حاجة إلى إضافة ذلك المبدأ الأرسطي إليها.

62

وهكذا لا بدّ للمنطق الأرسطي أن يضع مبدأه في صيغة محدّدة، من قبيل أن يقول: أنّ الصدفة النسبيّة لا تتكرّر خلال عمليّة الاستقراء في عشر تجارب باستمرار، أو في مائة تجربة، أو في ألف تجربة، أو في أيّ عدد آخر يحدّد، أكبر من ذلك أو أصغر.
فإذا افترضنا أ نّا حدّدنا ذلك العدد المعقول من التجارب بعشر مثلًا، فمعنى المبدأ الأرسطي على ضوء هذا التحديد: هو أ نّا إذا قمنا بتجربة على الماء، فخفضنا درجة حرارته إلى الصفر، فاقترن ذلك بالانجماد، لم نستطع أن نكتشف من وقوع هذا الاقتران مرّة واحدة وجود رابطة سببيّة بين الانخفاض والانجماد؛ لأنّ بالإمكان أن يكون الاقتران مجرّد صدفة نسبيّة، ويظلّ احتمال الصدفة النسبيّة قائماً إلى أن يتكرّر الاقتران بين الانخفاض والانجماد في تجاربنا عشر مرّات، فعندئذٍ نستطيع أن ننفي الصدفة في ضوء المبدأ الأرسطي، ونكتشف أنّ اقتران الانجماد بالانخفاض كان نتيجة لوجود رابطة سببيّة بينهما، ونجعل من هذه السببيّة- بعد ذلك- الجسر الذي ننتقل عن طريقه من الحالات الخاصّة إلى تعميم شامل.
ويمكننا على ضوء ما تقدّم أن نلخّص موقف المنطق الأرسطي من الاستقراء الناقص، وقدرته على التعميم في النقاط التالية:
أوّلًا: إنّ استنتاج التعميم من الحالات الخاصّة التي يقدّمها الاستقراء الناقص يتوقّف على اكتشاف رابطة السببيّة بين الظاهرتين اللتين اقترنتا خلال الاستقراء.
ثانياً: إنّ اكتشاف رابطة السببيّة بين الظاهرتين المقترنتين لا يمكن أن يقوم على أساس الأمثلة التي يقدّمها الاستقراء فحسب، مهما كان عددها.
ثالثاً: إنّ رابطة السببيّة تستنتج في حالات الاستقراء من المبدأ الذي ينفي‏

61

ويترتّب على ذلك أنّ المبدأ الأرسطي إذا كان ينفي فقط التكرار المستوعب لعمر الطبيعة، فلا يصلح أن يكون أساساً منطقيّاً لتبرير الدليل الاستقرائي واستنتاج رابطة السببيّة من تكرار الاقتران بين ظاهرتين؛ لأنّنا سوف لن نستطيع أن نستبعد احتمال الصدفة النسبيّة ونكتشف السببيّة، إلّاإذا عاصرنا الطبيعة في الماضي والحاضر والمستقبل، وتأكّدنا من تكرّر الاقتران واستمراره في كلّ تلك الأزمنة، وهذا شي‏ء مستحيل من الناحية الواقعيّة. فيظلّ أيّ اقتران متكرّر بين ظاهرتين خلال عمليّة الاستقراء عاجزاً عن إثبات السببيّة بين الظاهرتين.
وإذا كان التكرار الذي ينفيه المبدأ الأرسطي هو التكرار في مجال محدّد، وبالقدر الذي يتيح أن يضع أساساً منطقيّاً لاكتشاف السببيّة في حالات الاستقراء، فهذا يعني أنّ المبدأ الأرسطي يستهدف إثبات أنّ الصدفة النسبيّة لا تتكرّر باستمرار في عدد معقول من التجارب والمشاهدات التي يقوم بها الإنسان خلال عمليّة الاستقراء. فإذا قمنا بعدد معقول من التجارب لتخفيض درجة الحرارة في الماء إلى الصفر، واقترن ذلك في جميع تلك التجارب بالانجماد، استطعنا أن نستنتج على ضوء المبدأ الأرسطي أنّ انخفاض درجة الحرارة إلى الصفر هو السبب في الانجماد، وليس اقترانهما مجرّد صدفة؛ لأنّه لو كان صدفة لجاز أن يوجد مرّة أو مرّتين مثلًا، ولما تكرّر باستمرار في كلّ التجارب التي قمنا بها.
ويبقى على المبدأ الأرسطي بعد هذا أن يحدّد ذلك العدد المعقول من التجارب والمشاهدات الذي لا تتكرّر الصدفة النسبيّة فيه باستمرار؛ لأنّ عدد التجارب والمشاهدات يختلف من استقراء إلى آخر، ومن حالة إلى اخرى، فإذا حدّد العدد الذي لا تتكرّر الصدفة النسبيّة فيه دائماً، وجب على كلّ استقراء أن يصل بملاحظاته وتجاربه إلى ذلك العدد، لكي يستطيع أن ينفي الصدفة، ويبرهن على السببيّة بين الظاهرتين.

60

باستمرار، ويستهدف من وراء ذلك إلى استنتاج رابطة سببيّة بين كلّ ظاهرتين يتكرّر اقترانهما باستمرار خلال الاستقراء؛ لأنّ اقترانهما لو كان مجرّد صدفة نسبيّة لما تكرّر باستمرار؛ لأنّ الصدفة النسبيّة لا تتكرّر باستمرار بصورة متماثلة، فقد يتّفق مرّة أن تقترن الألف بالباء صدفة، وفي مرّة ثانية وثالثة قد تقترن الألف بالباء صدفة أيضاً، ولكن ليس من الممكن أن تقترن الألف بالباء صدفة في جميع المرّات؛ لأنّ الصدف النسبيّة المتماثلة لا يمكن أن تتتابع.
ويريد المنطق الأرسطي- بالتأكيد على أنّ هذا المبدأ عقلي قبلي- وضع أساس منطقي للدليل الاستقرائي وربطه بالمعرفة العقليّة المنفصلة عن التجربة بوصفه استنتاجاً منطقيّاً قياسيّاً من تلك المعرفة.

حاجة المبدأ إلى صيغة محدّدة:

ورغم كلّ هذه الإيضاحات السابقة ظلّت نقطة جوهريّة بحاجة إلى الإيضاح والتحديد في المبدأ الأرسطي للاستقراء، وهي أنّ المبدأ الأرسطي ينفي تكرار الصدفة النسبيّة، أي تتابع صدف نسبيّة متماثلة، ولكن لا يحدّد درجة التكرار والتتابع الذي ينفيه. فهل ينفي تكرار الصدفة النسبيّة بالقدر الذي يستوعب كلّ عمر الطبيعة، بما يضمّ من زمان حاضر وماضٍ ومستقبل؟ أو ينفي تكرار الصدفة النسبيّة في مجال محدّد كمجال التجارب التي يقوم بها شخص، أو التي تقع خلال فترة زمنيّة معيّنة؟
فإن كان الأوّل، فهو يعني أنّ الصدفة النسبيّة لا تتكرّر باستمرار مع امتداد عمر الطبيعة في الماضي والحاضر والمستقبل، ولا ينفي المبدأ الأرسطي على هذا الأساس أن تتكرّر الصدفة النسبيّة في تجارب شخص واحد، مهما كانت كثيرة، أو في فترة محدّدة من الزمن مهما كانت طويلة.

59

وأمّا الصدفة النسبيّة فليس فيها استحالة من وجهة نظر فلسفيّة؛ لأنّها لا تتعارض مع مبدأ السببيّة، فإنّ الاقتران بين انجماد ماءٍ وغليان ماءٍ آخر صدفةً لا ينفي نشوء كلّ من الانجماد والغليان عن سبب خاصّ، هو انخفاض درجة الحرارة إلى الصفر في الأوّل، وارتفاعها إلى مائة في الثاني. فهناك في هذا المثال ثلاثة اقترانات، واحد منها تتمثّل فيه الصدفة النسبيّة، وهو اقتران انجماد الماء بغليان الماء الآخر، واثنان منها لا يعبّران عن صدفة؛ لأنّهما يقومان على أساس رابطة السببيّة، وهما اقتران الانجماد بانخفاض الحرارة من ناحية، واقتران الغليان بارتفاعها من ناحية اخرى.
وهكذا نعرف أنّ الاقتران بين حادثتين قد يكون مجرّد صدفة، ونطلق عليها اسم الصدفة النسبيّة، وقد يكون ناتجاً عن رابطة سببيّة بين الحادثتين.
وهناك فارق ملحوظ- في تجاربنا جميعاً- بين هذين القسمين من الاقتران؛ فالاقتران الناتج عن رابطة سببيّة مطّرد دائماً، فمتى حدث انخفاض في درجة الحرارة إلى الصفر اقترن ذلك بالانجماد، ومتى حصل برق وجد صوت الرعد. وأمّا الاقتران الذي يتمثّل في الصدفة النسبيّة فهو قد يحدث ولكنّه لا يطّرد ولا يتكرّر باستمرار، فأنت قد يتّفق لك أن تجد صديقك أحياناً حين تفتح الباب وتهمّ بالخروج من بيتك، ولكنّ هذا لا يطّرد في كلّ مرّة تفتح فيها الباب وتخرج من البيت على سبيل الصدفة، ولو اطّرد ذلك لاستطعت أن تستنتج أنّ رؤيتك لصديقك كلّما فتحت الباب ليس صدفة، بل نتيجة لحرص صديقك على أن يفاجئك دائماً بنفسه في كلّ مرّة تحاول فيها الخروج.
والمنطق الأرسطي ينطلق من هذه النقطة، فيقدّم لنا المبدأ التالي: (إنّ الاتفاق لا يكون دائمياً ولا أكثريّاً)، بوصفه مبدأً عقليّاً قبليّاً، وهو يريد بالاتفاق الصدفة النسبيّة، ويقصد بهذا المبدأ التأكيد على أنّ الصدفة النسبيّة لا تتكرّر