الاسس المنطقية للاستقراء
76

وفرضيّة التضادّ بين الصدف النسبيّة بصورتها هذه وإن كانت تعطي تبريراً افتراضيّاً لبعض الاستقراءات، ولكنّها لا يمكن أن تفسّر كلّ الاستقراءات المقبولة التي نحتاج إلى تفسيرها.
فنحن قد نواجه ثلاث ظواهر: (أ) و (ب) و (ح)، ونتأكّد من اقتران كلّ أفراد (ح) ب (ب) التي هي في نفس الوقت أفراد ل (أ) وتظلّ أفراد اخرى ل (أ) لا نعلم عن اقترانها ب (ب) شيئاً، وفي هذه الحالة إذا افترضنا العلم مسبقاً بأنّ (ح) لا أثر له في إيجاد (ب) فسوف يكون بإمكان فرضيّة التضادّ بصورتها الأخيرة، أن تفسّر لنا الطريقة التي بها نثبت سببيّة (أ) ل (ب) ونصل إلى التعميم الاستقرائي القائل: كلّ (أ) تقترن ب (ب)؛ لأنّ (أ) لو لم تكن سبباً ل (ب) وكانت تقترن ب (ب) تارة وتقترن بعدمه اخرى حسب الظروف والملابسات، لكان معنى ذلك أنّ اقتران (ح) باستمرار ب (ب) مستحيل بحكم فرضيّة التضادّ؛ لأ نّه يعني في حالة عدم سببيّة (أ) ل (ب) صدفاً نسبيّة تمثّل اقتراناً موضوعيّاً مستوعباً.
فإذا كان (أ) هو شكل الغراب و (ح) هو سكناه في المناطق الجبليّة و (ب) هو السواد، وافترضنا أنّ الاستقراء شمل كلّ الغربان التي تسكن في المناطق الجبليّة، وكنّا نعلم مسبقاً بأنّ سكنى هذه المناطق لا أثر لها في السواد، فسوف نحصل على الشروط التي تتيح لفرضيّة التضادّ بصورتها الأخيرة، أن تبرّر التعميم الاستقرائي القائل: كلّ غراب أسود؛ لأنّ شكل الغراب إذا كان سبباً للسواد، فلا يوجد أيّ صدفة فيما لاحظناه من اقتران سكنى الغراب للمناطق الجبليّة مع السواد، ما دام كلّ غراب أسود. وأمّا إذا كان الغراب يتّصف بالسواد تارة وبالبياض اخرى حسب الظروف والملابسات، فسوف نحصل على اقتران مستوعب يقوم على أساس الصدفة؛ إذ يكون من الصدفة أن تتوفّر لجميع الغربان‏

75

أيضاً ما يبرّر استحالة تكرّره؛ لأنّا لو افترضنا أنّ الاقتران الذاتي لا يتكرّر عشر مرّات مثلًا، للتضادّ بين الاقترانات الذاتيّة المتتالية، لكان معناه أ نّا حينما نختار عشوائيّاً تسعة غربان ويبدو أ نّها سوداء، سوف يهرب منّا أيّ غراب آخر أسود، حرصاً على أن لا تتكرّر الصدفة النسبيّة عشر مرّات.
ويمكن أن ندخل في الموقف اقتراناً ثالثاً، وذلك بأن نفترض في مثال الغربان أ نّا فحصنا كلّ الغربان التي تسكن في المناطق الجبليّة، دون الغربان القاطنة في المناطق الساحليّة. ففي هذه الفرضيّة يوجد اقتران موضوعي جديد، وهو اقتران العيش في منطقة جبليّة مع السواد. ويتميّز هذا الاقتران عن الاقتران الموضوعيّ السابق بين شكل الغراب والسواد بأ نّه مستوعب، بمعنى أنّ كلّ غربان المناطق الجبليّة، قد لوحظ اقترانها بالسواد بينما لم يلحظ في الاقتران الموضوعي السابق اقتران كلّ غراب بالسواد.
ويمكن للمنطق الأرسطي أن يحصل على تطبيق أفضل لفرضيّة التضادّ، إذا خصّ التضادّ بالصدف النسبيّة المتماثلة التي تمثّل اقتراناً موضوعيّاً مستوعباً.
فليس المهمّ عدد الصدف النسبيّة المتماثلة، بل استيعابها لكلّ الأفراد التي تنتمي إلى إحدى الظاهرتين. فكلّما كانت هناك ظاهرتان (ح) و (ب) ولوحظ أنّ كلّ الأفراد التي تنتمي إلى (ح) تقترن ب (ب) فمن المستحيل أن يكون اقتران (ب) و (ح) صدفة. وأمّا إذا لوحظ فقط أنّ عدداً من الأفراد التي تنتمي إلى (ح) تقترن ب (ب) فلا توجد استحالة في أن تكون هذه الاقترانات صدفة.
وحينما تحدّد فرضيّة التضادّ بين الصدف النسبيّة المتماثلة على هذا النحو، يكون من الصعب دحضها؛ إذ لا يمكن أن نحصل من الطبيعة على مثال اقترنت فيها كلّ الأفراد التي تنتمي إلى ظاهرة بظاهرة اخرى، دون رابطة سببيّة، وعلى سبيل الصدفة.

74

فهي أيضاً لا يوجد بينها تضادّ أو تمانع في إدراكنا؛ لأنّ فرضيّة التضادّ إذا حاولنا تطبيقها على هذه الاقترانات الذاتيّة، كان معناها حينما نفترض أنّ الصدفة النسبيّة لا تتكرّر عشر مرّات مثلًا، أنّ بإمكان المجرّب أن يختار عشوائيّاً تسعة أشخاص، ممّن تتوفّر فيهم مسبقاً شروط ظهور الصداع، ولكن إذا وقع اختياره عشوائيّاً على تسعة من هذا القبيل على سبيل التتابع، فسوف يعجز عن الاختيار العشوائي لأيّ فرد آخر تتوفّر فيه نفس الشروط، لا لشي‏ء إلّامن أجل أن لا تتكرّر الصدفة النسبيّة عشر مرّات بصورة متتابعة. فكأنّ شروط الصداع يصبح وجودها لدى أيّ إنسان- بعد الاختيار العشوائي لتسعة مصابين بأعراض الصداع- سبباً لعجز الممارس للتجربة عن اختياره، ولا يوجد إنسان يزعم أ نّه يدرك شيئاً من هذا القبيل لكي يصحّ أن تتّخذ فرضيّة التضادّ أساساً لتفسير العلم الإجمالي الأرسطي.
والشي‏ء نفسه نقوله في مجال الاستقراء القائم على أساس الملاحظة والتعداد البسيط، فإذا اخترنا عشوائيّاً عدداً من الغربان، فوجدناها سوداء، نلاحظ اقتراناً موضوعيّاً بين الشكل المعيّن للطائر- الذي نرمز إليه باسم الغراب- والسواد، واقتراناً ذاتيّاً بين الاختيار العشوائي للغراب وكونه أسود. ولا استحالة في أن يتكرّر أيّ واحد من هذين الاقترانين دون رابطة سببيّة بين شكل الغراب والسواد.
أمّا الاقتران الموضوعي بين شكل الغراب والسواد، فبإمكاننا أن نحقّق نظيره بصورة متكرّرة في حالات لا توجد فيها رابطة سببيّة بين الشكل والسواد.
ففي ميسور أيّ إنسان أن يختار بصورة واعية، عدداً كبيراً من الدجاج الأسود كمثال للاقتران المتكرّر بين الشكل واللون، دون رابطة السببيّة.
وأمّا الاقتران الذاتي بين الاختيار العشوائي للغراب والسواد، فلا يوجد

73

بصورة متتابعة.
ولنأخذ حالة افتراضيّة لتوضيح الفكرة في هذا الاعتراض، فنفترض أ نّا نريد أن نختبر أثر شراب معيَّن ومدى قدرته على إيجاد الصداع لدى الشخص الذي يستعمله، فنعطي هذا الشراب إلى عدد كبير من الناس، فنلاحظ أ نّهم اصيبوا جميعاً بالصداع عقيب استعمال الشراب. ففي هذا المثال نلاحظ اقترانين:
أحدهما موضوعيّ مستقلّ عن ذاتيّة المجرّب، وهو اقتران ذلك الشراب بالصداع.
والآخر ذاتي، وهو اقتران الاختيار العشوائي للمجرّب بظهور الصداع، حيث ظهر الصداع لدى كلّ الأفراد الذين اختيروا عشوائيّاً لإجراء التجربة عليهم.
فإذا كانت بين الشراب والصداع رابطة سببيّة حقّاً فهذان الاقترانان نتيجة طبيعيّة لهذه الرابطة، ولا يوجد في الموقف حينئذٍ أيّ صدفة نسبيّة. وأمّا إذا افترضنا عدم وجود رابطة سببيّة بين الشراب والصداع وأ نّنا على علم مسبق بأنّ الشراب لا أثر له في الصداع، فسوف نواجه في كلّ من الاقترانين الموضوعي والذاتي صدفة نسبيّة، وفي تكرّر تلك الاقترانات تكرّراً في الصدفة النسبيّة.
وعند هذا نتساءل: إنّ فرضيّة التضادّ بين الصدف النسبيّة المتماثلة التي نريد مناقشتها الآن، هل تطبّق على الاقتران الموضوعي بين الشراب والصداع، أو على الاقتران الذاتي بين الاختيار العشوائي وظهور الصداع؟
أمّا الاقترانات الموضوعيّة المتكرّرة بين الشراب والصداع، فليس بينها أيّ تضادّ أو تمانع، بدليل أنّ بإمكان الإنسان أن يختار- مسبقاً وبطريقة واعية- الأفراد الذين تتوفّر فيهم الشروط اللازمة لظهور الصداع، فيعطيهم من الشراب ويحصل عندئذٍ على أيّ عدد يشاء من الاقترانات الموضوعيّة بين الشراب والصداع التي تمثّل صدفاً نسبيّة متماثلة.
وأمّا الاقترانات الذاتيّة بين الاختيار العشوائي للمجرّب وظهور الصداع،

72

الصدفة المحدّدة في الواقع.
وفيما يلي سوف نقوم بعدد من المحاولات لتوضيح موقفنا من المبدأ الأرسطي، والكشف عن عدم كونه مبدأ عقليّاً قبليّاً، وبالتالي عن عدم كونه الأساس المنطقي للاستدلالات الاستقرائيّة كما يزعم المنطق الأرسطي.
والاعتراضات التي سوف نوجّهها إلى المبدأ الأرسطي تختلف في مدلولاتها ونتائجها، فبعضها يبرهن على نفي العلم الإجمالي الذي يعبّر عنه هذا المبدأ، وعدم وجود كلا الأساسين اللذين يتكوّن على أساسهما العلم الإجمالي (أساس التضادّ والتمانع، وأساس الاشتباه) وبعضها يبرهن على نفي الأساس الأوّل لتكوين العلم الإجمالي وعدم وجود أيّ تمانع وتضادّ بين الصدف النسبيّة المتماثلة، وبعضها يبرهن على نفي الأساس الثاني لتكوين العلم الإجمالي وعدم وجود أيّ اشتباه يبرّر نشوء علم إجمالي بنفي غير محدّد.

الاعتراض الأوّل [على أساس التمانع‏]

: حينما لا يكون بين الألف والباء رابطة سببيّة، ونوجد (أ) في عشر تجارب متتالية فسوف يؤكّد لنا المبدأ الأرسطي السالف الذكر أنّ (ب) غير مقترن مع (أ) في مرّة واحدة على الأقلّ خلال تلك التجارب، إذا أخذنا تسعة مثلًا هي الحدّ الأعلى لإمكان تكرّر الصدفة النسبيّة خلال التجربة.
ونحن نريد في هذا الاعتراض أن نثبت أنّ هذا العلم الإجمالي بنفي صدفة نسبيّة واحدة على الأقلّ لا يمكن أن يفسّر على أساس إدراكنا للتمانع والتضادّ بين الصدف النسبيّة، أي بين الاقترانات المتماثلة التي لا تقوم على أساس رابطة السببيّة، فأيّ عدد نفرضه من هذه الاقترانات التي تمثّل صدفاً نسبيّة في مشاهداتنا وتجاربنا، لا نجد أيّ تمانع وتضادّ يحول دون اجتماعها ووجودها

71

ونطلق على العلم بنفي غير محدّد في الحالة الاولى اسم (العلم الإجمالي على أساس التمانع) وعلى العلم بنفي غير محدّد في الحالة الثانية اسم (العلم الإجمالي على أساس التشابه أو الاشتباه).

العلم الإجمالي الأرسطي من أيّ القسمين؟

عرفنا فيما سبق، أنّ المبدأ الأرسطي مردّه إلى علم بنفي غير محدّد، أي علم إجمالي. وعرفنا أيضاً، أنّ العلم الإجمالي قد ينشأ على أساس التمانع، وقد ينشأ على أساس الاشتباه.
وفي ضوء ذلك يمكن أن نفترض كلا الفرضين في العلم الإجمالي الأرسطي. فيمكن أن نتصوّر العلم بنفي الاقتران في تجربة واحدة على الأقلّ علماً إجماليّاً على أساس التمانع، وذلك إذا ادّعى المنطق الأرسطي أ نّه يدرك تمانعاً ذاتيّاً بين الصدف النسبيّة في عشر تجارب، وعلى هذا الأساس يعلم بأنّ الصدفة النسبيّة غير موجودة في تجربة واحدة على الأقلّ من تلك التجارب العشر.
ويمكن أن نتصوّر العلم بنفي الاقتران في تجربة واحدة على الأقلّ، علماً إجماليّاً على أساس الاشتباه، وذلك إذا ادّعى المنطق الأرسطي أنّ هذا العلم نتيجة لنفي محدّد في الواقع ولكنّه غير محدّد في علمنا، من قبيل العلم بفقدان أحد كتب التأريخ في مثال المكتبة المتقدّم، بمعنى أنّ صدفة نسبيّة محدّدة في الواقع- كصدفة الاقتران بين الظاهرتين في التجربة الثالثة مثلًا- لا توجد؛ لعدم توفّر الشروط الكفيلة بوجودها. ولكنّا لم يتح لنا تمييز تلك الصدفة (أي لم يتح لنا أن نعرف أنّ الصدفة التي لم تتوفّر شروط وجودها هي صدفة الاقتران في التجربة الثالثة مثلًا) فينشأ لدينا علم بنفي صدفة واحدة على أقلّ تقدير نتيجة لانتفاء تلك‏

70

منه لتعرف نوع الكتاب المفقود بالضبط، ففي حالة من هذا القبيل، يوجد لديك علم بنفي غير محدّد (علم إجمالي)، لأنّك تعلم أنّ واحداً من كتب التأريخ غير موجود، ولا تستطيع أن تحدّده، وبالرغم من علمك هذا لا ترى أيّ تمانع وتضادّ بين هذه الكتب كالتمانع الذي كنّا نراه في الحالة السابقة بين السواد والبياض. وهذا يعني: أنّ علمنا بنفي غير محدّد في هذه الحالة، لا يقوم على أساس إدراك التمانع بين مجموعة من الأشياء واستحالة اجتماعها في وقت واحد، كما في الحالة الاولى، بل يقوم على أساس نفي محدّد في الواقع تشابه علينا، ولم نستطع تمييزه، فنشأ من أجل ذلك علم بنفي غير محدّد[1].

ففي مثال المكتبة، إذا افترضنا أنّ الفراغ الذي لاحظناه في رفّ كتب التأريخ كان يمثّل موضع تأريخ الطبري، ولكنّا لم نعرف في النظرة الاولى ذلك؛ لأ نّنا لم نتذكّر موضع تأريخ الطبري بالضبط، فمن الطبيعي أن نعلم بنفي غير محدّد، وإن كان هذا العلم نفسه نتيجة لنفي محدّد في الواقع، وهو فقدان كتاب تأريخ الطبري بالذات، إذ لو لم تفقد المكتبة تأريخ الطبري لما لاحظنا فراغاً في رفّ كتب التأريخ، ولما تكوّن لدينا العلم بنفي غير محدّد.

ونستخلص من ذلك كلّه: أنّ العلم بنفي غير محدّد (العلم الإجمالي) قد ينشأ من إدراك التمانع بين شيئين أو مجموعة من أشياء، وقد ينشأ من نفي محدّد في الواقع وقد تشابه على الملاحِظ فنتج عن ذلك علم بنفي غير محدّد، ولو زال ذلك التشابه لكان هذا النفي غير المحدّد هو نفس ذلك النفي المحدّد في الواقع.

 

[1] ومن خصائص هذا القسم من العلم الإجمالي أنّ المعلوم بالإجمال فيه له تعيّن في ذات الواقع وإن خفي علينا ذلك( لجنة التحقيق)

69

كما أنّ علمك غير المحدّد بأنّ أحد كتب التأريخ قد فقد من مكتبتك لا يمكن أن يكون نتيجة لتفتيش شامل للمكتبة كلّها، إذ في هذه الحالة سوف تعرف عادةً الكتاب المفقود بالضبط، ولن يكون النفي لديك غير محدّد، فيجب أن يكون هذا العلم نتيجة لشي‏ء آخر.

ونحن إذا درسنا الظروف التي ينشأ فيها العلم بنفي غير محدّد (العلم الإجمالي) نجد أنّ هذا العلم يتولّد في حالتين:

الاولى: أن يدرك الإنسان التمانع بين شيئين أو مجموعة من الأشياء، فيعلم على هذا الأساس بنفي غير محدّد، أي بأنّ واحداً منها على الأقلّ غير موجود؛ لأنّ افتراض وجودها جميعاً لا ينسجم مع التمانع الثابت بينها.

ومثال ذلك: العلم بنفي أحد اللونين على الأقلّ- البياض أو السواد- عن الورقة، فإنّ هذا العلم نشأ عن إدراك التمانع بين السواد والبياض، واستحالة اجتماعهما[1].

والعلم في هذه الحالة ينصبّ بطبيعته على عدم اجتماع السواد والبياض، والمعلوم بهذا العلم هو عدم اجتماع اللونين، لا عدم هذا ولا عدم ذاك.

الحالة الثانية: أن لا يدرك الإنسان أيّ تمانع بين وجود هذا الشي‏ء ووجود ذاك، ومع هذا يعلم بأنّ أحدهما على الأقلّ غير موجود، ومثال ذلك علمك بأنّ أحد كتب التأريخ (للطبري أو ابن الأثير أو اليعقوبي) قد فقد من مكتبتك، إذا دخلت إلى المكتبة ورأيت فراغاً في رفّ كتب التأريخ، ولم تقترب‏

 

[1] ومن خصائص هذا القسم من العلم الإجمالي أنّ المعلوم بالإجمال فيه ليس معيّناً حتّى في ذات الواقع، ولهذا لو كان كلا اللونين منتفياً في الواقع لم يمكن تعيين المعلوم بالإجمال في أحدهما دون الآخر( لجنة التحقيق)

68

يعد موجوداً، وهذا علم بنفي محدّد، وقد لا نعلم بذلك، ولكنّا نعلم بأنّ أحد كتب التأريخ قد فقد من مكتبتنا، وهذا علم بنفي غير محدّد؛ لأنّنا لا نستطيع بموجب هذا العلم أن نحدّد نوع الكتاب الذي فقدناه، هل هو تأريخ الطبري أو تأريخ الكامل؟
ونطلق على العلم بنفي غير محدّد، وعلى أيّ علم بشي‏ء غير محدّد بالضبط اسم العلم الإجمالي. ونطلق على العلم بالنفي المحدّد، وعلى أيّ علم بشي‏ء محدّد بالضبط اسم العلم التفصيلي.
وعلى هذا الأساس يمكن أن نعتبر المبدأ الأرسطي تعبيراً عن علم إجمالي بالنفي.

كيف ينشأ العلم الإجمالي؟

ويمكننا بسهولة أن نفسّر نشوء العلم بنفي محدّد (العلم التفصيلي)، فأنت حين تقول: هذه الورقة ليست سوداء، أو إنّ تأريخ الطبري ليس موجوداً في مكتبتي يمكنك أن تستند في ذلك إلى رؤيتك للورقة، وإدراكك بأ نّها ليست سوداء، وإلى رؤيتك لمكتبتك، وافتقادك لتأريخ الطبري من بين كتبك.
وأمّا العلم بنفي غير محدّد (العلم الإجمالي) فإنّه حين تتحدّث عن ورقة تجهل لونها بالضبط غير أ نّك تعلم على أيّ حال أ نّها ليست سوداء وبيضاء في وقت واحد، فتقول: إنّ أحد اللونين على الأقلّ- السواد أو البياض- غير موجود في الورقة، لا تستند في تأكيدك لهذا النفي غير المحدّد إلى رؤيتك للورقة وإحساسك بلونها؛ لأنّك لو كنت قد رأيت الورقة لاستطعت أن تحدّد لونها بالضبط، وإنّما تؤكّد ذلك النفي غير المحدّد قبل رؤية الورقة نتيجة للعلم المسبق بأنّ السواد والبياض لا يجتمعان في شي‏ء واحد.