الاسس المنطقية للاستقراء
85

المفيد للعلم فسوف يزول علمنا بالسببيّة نتيجةً لاكتشافنا أنّ واحداً من العشرة كان قد تناول قرص الأسبرين قبيل التجربة.
وهكذا نجد أنّ أيّ حالة من حالات نجاح التجربة في عمليّة الاستقراء تفقد أثرها إذا عرفنا بعد ذلك أ نّه كان إلى جانب (أ) و (ب) شي‏ء ثالث لم نلاحظه حين إجراء التجربة نرمز إليه ب (ت) وهو كافٍ لإيجاد (ب) على أيّ حال.
والمنطق الأرسطي لا يمكنه أن يفسّر هذا الواقع على ضوء طريقته في تبرير الدليل الاستقرائي التي تفترض علماً إجماليّاً قبليّاً (أي قبل الاستقراء والتجربة) وأوّليّاً بأنّ الصدفة لا تتكرّر خلال الاستقراء على خطّ طويل؛ لأنّ هذا العلم القبلي الأوّلي الذي يفترضه المنطق الأرسطي لو كان هو الأساس للاستدلال الاستقرائي واكتشاف سببيّة (أ) ل (ب) لَما تزعزع علمنا بالسببيّة لمجرّد اكتشافنا بعد ذلك وجود (ت) في إحدى التجارب العشر؛ لأنّ هذا الاكتشاف لا يعني إلّا التأكّد من وقوع صدفة واحدة، وهي اقتران الألف بالتاء في تلك التجربة، وهذا لا ينفي بأيّ شكل من الأشكال علمنا المسبق الذي يفترضه المنطق الأرسطي، وهو العلم بأنّ الصدفة لا تتكرّر على خطّ طويل؛ لأنّ هذا العلم المسبق يعني العلم بأنّ الصدفة النسبيّة لا توجد مرّة واحدة على الأقلّ خلال عشر تجارب متتابعة (إذا افترضنا أنّ الخطّ الطويل يتمثّل في عشر تجارب متتابعة). فإذا اكتشفنا بعد ذلك أنّ الصدفة النسبيّة قد وجدت في مرّة لا يكون هذا متعارضاً مع ذلك العلم المسبق، فلماذا يزول ذلك العلم بسبب هذا الاكتشاف؟
إنّ التفسير الوحيد الصحيح لذلك هو أنّ العلم بأنّ الصدفة لا توجد مرّة واحدة على الأقلّ هو وليد ناتج جمع عدد من الاحتمالات، هي: احتمال عدم وجود الصدفة في المرّة الاولى، واحتمال عدم وجودها في المرّة الثانية، وهكذا …، فإذا سقط واحد من هذه الاحتمالات واكتشفنا وجود الصدفة في مرّة

84

الاعتراض الخامس [على كلا الأساسين‏]:

نريد الآن أن نستدلّ على أنّ العلم الإجمالي بأنّ الصدفة لا تتكرّر على خطّ طويل إذا كان موجوداً لدينا حقّاً فهو ليس علماً قبليّاً (أي قبل التجربة والاستقراء) أوّليّاً، كما يفترضه المنطق الأرسطي لكي يجعل منه الأساس العقلي المنطقي للدليل الاستقرائي. وفيما يلي توضيح ذلك:
إنّ العلم الإجمالي الأرسطي يقول: إنّ (أ) و (ب) إذا لم تكن بينهما رابطة سببيّة فلا يتكرّر اقتران أحدهما مع الآخر باستمرار خلال خطّ طويل، وحين نفترض أنّ هذا الخطّ الطويل يعبّر عن عشر تجارب متتابعة يمكننا على هذا الأساس أن نستنتج سببيّة (أ) ل (ب) إذا لاحظنا اقترانهما خلال التجارب المتتابعة عشر مرّات. فإذا كان (أ) مادّة معيّنة نريد امتحان تأثيرها في رفع الصداع، وكان (ب) هو ارتفاع الصداع، وأعطينا تلك المادّة إلى عشرة من المصابين بالصداع فارتفع صداعهم، استنتجنا من ذلك أنّ هذا التكرّر في الاقتران بين استعمال تلك المادّة وارتفاع الصداع ليس صدفة؛ لأنّ الصدفة النسبيّة لا تتكرّر عشر مرّات، بل هو ناتج عن سببيّة تلك المادّة لرفع الصداع.
ولنفترض أ نّنا اكتشفنا بعد ذلك أنّ واحداً على الأقلّ من اولئك العشرة- الذين أجرينا تجاربنا عليهم- كان قد استعمل في تلك اللحظة ودون علم منّا قرصاً من (الأسبرين) الكفيل بإزالة الصداع، ففي هذه الحالة سوف يفقد هذا الاكتشاف تلك التجربة التي اجريت على ذلك الشخص قيمتها ودورها في تكوين الدليل الاستقرائي وإيجاد العلم بالسببيّة بين (أ) و (ب) (أي بين المادّة التي نجري عليها تجاربنا وارتفاع الصداع) وسوف يكون موقفنا تماماً كالموقف الذي نقفه تجاه تسع حالات ناجحة فقط، فإذا كان عشرة هو الحدّ الأدنى للاستقراء

83

الثبوت أو النفي. وإن كان علماً بضرورة عدم وقوع تلك الصدفة الخاصّة فهذه الضرورة إمّا أن تكون ذاتيّة وإمّا أن تكون عرضيّة وناتجة عن عدم وجود السبب الكافي لوقوع تلك الصدفة.
وواضح أنّ الضرورة الذاتيّة لا مجال لافتراضها في أيّ صدفة؛ لأنّ كلّ صدفة بالإمكان أن تقع إذا توفّر سببها الكافي لإيجادها. فنحن إذا لاحظنا حادثة ظهور صداع لدى الشخص الذي تناول اللبن في كلّ واحدة من التجارب العشر، لم نجد أيّ ضرورة واستحالة ذاتيّة تفرض عدم ظهور الصداع في أيّ واحدة من تلك التجارب.
وأمّا افتراض الضرورة العرضيّة الناتجة عن عدم وجود السبب الكافي فهو يعني أ نّنا نعتقد بعدم حدوث الصداع في تجربة خاصّة من تلك التجارب العشر، نتيجة للاعتقاد بعدم توفّر سبب الصداع في تلك التجربة، مع أ نّنا في الواقع لا نجد علمنا الإجمالي بعدم تكرّر الصدفة النسبيّة خلال التجارب المتعاقبة مرتبطاً بأيّ فكرة مسبقة عن أسباب تلك الصدف، وقد لا نملك أيّ فكرة عن الأسباب ونوعيّتها ومع ذلك نعلم بعدم تكرّر الصداع، فمثلًا قد لا نعلم ما هي أسباب الصداع ومع هذا نعلم بأنّ حدوث الصداع لا يقترن صدفة بشرب اللبن في جميع الحالات التي تجري عليها التجربة، وهذا يعني إنّ العلم بعدم حدوث الصداع في بعض تلك الحالات، لم ينشأ عن فكرة مسبقة عن السبب؛ لأنّا لا نعرف ما هي أسباب الصداع.
وهكذا نستخلص من ذلك: أنّ العلم الإجمالي بعدم وقوع الصدفة في مرّة واحدة على الأقلّ إذا كان يقوم على أساس التشابه والاشتباه ويرتبط بصدفة خاصّة، فلا يمكن أن يكون علماً عقليّاً قبليّاً.

82

الأرسطي وهو أن يكون ثبوت المحمول للموضوع فيها ضروريّاً، فلا يكفي لكي يكون العلم عقليّاً قبليّاً أن ندرك أنّ (الألف) ثابتة ل (الباء) بل لا بدّ أن ندرك ضرورة ثبوته له.
وهذه الضرورة: إمّا ذاتيّة تفرضها طبيعة الموضوع، وإمّا ناشئة عن سبب أدّى إلى ثبوت المحمول للموضوع. فإن كانت ذاتيّة فالقضيّة أوّليّة، والعلم بها علم قبلي من القسم الأوّل. وإن كانت ناشئة عن سبب فالقضيّة ثانويّة مستنبطة، والعلم بها علم قبلي من القسم الثاني، والعقل يدركها نتيجة لإدراك ذلك السبب الذي نشأت عنه ضرورة ثبوت المحمول للموضوع، ويسمّى ذلك السبب في لغة المنطق الأرسطي بالحدّ الأوسط.
وفي هذا الضوء نأخذ العلم الإجمالي بأنّ الصداع سوف لن يوجد صدفة في مرّة واحدة على الأقلّ خلال عشر تجارب، لندرس مدى إمكان قبوله علماً عقليّاً قبليّاً- كما يدّعي المنطق الأرسطي- إذا افترضناه علماً إجماليّاً يقوم على أساس الاشتباه.
إنّ هذا العلم الإجمالي إذا كان يقوم على أساس الاشتباه فهو مرتبط- كما عرفنا سابقاً- بصدفة محدّدة في الواقع، ومردّ العلم عندئذٍ إلى العلم بعدم وقوع تلك الصدفة، غير أنّ عجزنا عن تحديدها جعل علمنا غير محدّد، أي جعله علماً إجماليّاً بعدم وقوع صدفة واحدة على الأقلّ خلال عشر تجارب مثلًا.
ويمكننا عندئذٍ أن نبرهن للمنطق الأرسطي بأنّ هذا العلم ليس عقليّاً قبليّاً؛ لأ نّنا نتساءل أنّ هذا العلم هل يعني عدم وقوع تلك الصدفة الخاصّة أو ضرورة عدم وقوعها؟ فإن كان يعني عدم الوقوع فحسب، فليس علماً عقليّاً قبليّاً؛ لما تقدّم من أنّ العلوم العقليّة القبليّة في رأي المنطق الأرسطي يجب أن تكشف عن ضرورة ثبوت المحمول للموضوع أو نفيه عنه، ولا يكفي كشفها عن مجرّد

81

ولا توجد أيّ صدفة يمكن أن نشير إليها بطريقة غامضة وبصورة غير محدّدة تكون هي الأساس الحقيقي للعلم الإجمالي، كما كانت حادثة الوفاة التي نشير إليها بطريقة غامضة- باعتبارها الحادثة التي أخبر بها من لا يكذب- هي الأساس الحقيقي للعلم الإجمالي بأنّ إنساناً مات، ومن أجل هذا نلاحظ أنّ العلم الإجمالي بعدم وجود صدفة واحدة على الأقلّ على الخطّ الطويل لا يزول مهما فرضنا الشكّ في أيّ صدفة نشير إليها بطريقة غامضة أو محدّدة، بينما كان العلم الإجمالي بوفاة إنسانٍ مّا يزول إذا طرأ الشكّ في حادثة الوفاة التي أخبر عنها من لا يكذب.

الاعتراض الرابع [على أساس التشابه‏]:

نريد في هذا الاعتراض أن ندحض- أيضاً- فكرة وجود علم إجمالي قبلي قائم على أساس التشابه والاشتباه، أي نثبت أنّ ما يفترضه المبدأ الأرسطي من العلم بعدم وقوع الصدفة في مرّة واحدة على الأقلّ خلال عشر تجارب مثلًا، ليس علماً إجماليّاً قبليّاً قائماً على أساس التشابه والاشتباه.
ولكي تتّضح هذه المحاولة يجب أن نعرف ما يقصده المنطق الأرسطي من العلوم القبليّة، أي العلوم العقليّة المستقلّة عن الحسّ والتجربة.
إنّ العلم العقلي القبلي في المنطق الأرسطي قسمان:
أحدهما: يضمّ العلوم العقليّة الأوّليّة التي تشكّل المنطلقات الأساسيّة للمعرفة البشريّة.
والآخر: يضمّ العلوم العقليّة الناتجة عن تلك العلوم، وهي العلوم التي تحصل عن طريق البرهان المستمدّ من العلوم الأوّليّة.
والعلوم القبليّة في كلا القسمين تخضع جميعاً لشرط أساسي في المنطق‏

80

أساس الاشتباه، وهي أنّ هذا العلم لمّا كان نتيجة لواقعة محدّدة إيجابيّة أو سلبيّة (نقصد بالواقعة الإيجابيّة وجود شي‏ء وبالواقعة السلبيّة عدمه) وقد نشأ العلم الإجمالي على أساس اشتباه تلك الواقعة وعدم تميّزها عن وقائع اخرى، فهو مرتبط بتلك الواقعة المحدّدة في الواقع، وإن كان عاجزاً عن تعيينها، وإنّما يشار إليها دائماً بطريقة غامضة وبصورة غير محدّدة. فمثلًا: إذا أخبَرَنا من لا يكذب بأنّ شخصاً معيّناً قد مات، وذكر اسمه، غير أ نّنا لم نسمع الاسم بالضبط، ولم ندرِ هل ذكر اسم سعيد أو خالد، ففي هذه الحالة ينشأ لدينا علم إجمالي بأنّ إنساناً واحداً على الأقلّ قد مات، وهذا العلم مرتبط بحادثة الوفاة المحدّدة في الواقع التي أخبر عنها من لا يكذب والتي لا نملك التعبير عنها إلّابهذه الطريقة الغامضة، وهذا يعني أ نّا كلّما توفّر لدينا أيّ مبرّر للشكّ في حادثة الوفاة تلك، التي نشير إليها بطريقة غامضة، فسوف يزول العلم الإجمالي بوفاة إنسانٍ مّا.

فالعلم الإجمالي الذي يقوم على أساس الاشتباه، يرتبط دائماً بواقعة محدّدة في الواقع يشار إليها بطريقة غامضة وبصورة غير محدّدة، ويكون أيّ شكّ في تلك الواقعة، سبباً لزوال العلم الإجمالي.

وإذا لاحظنا في هذا الضوء ما يفترضه المنطق الأرسطي من العلم الإجمالي بأنّ الصدفة النسبيّة لا تتكرّر باستمرار على خطّ طويل- أي أ نّها غير موجودة في مرّة واحدة على الأقلّ خلال عشر تجارب مثلًا- نجد أنّ هذا العلم لا يرتبط بنفي صدفة محدّدة في الواقع‏[1]، وهذا يوضّح أنّ العلم الإجمالي بأنّ واحدة على الأقلّ من الصدف النسبيّة على خطّ طويل غير موجودة لا يقوم على أساس الاشتباه.

 

[1] وبتعبير آخر: إنّ المعلوم بالإجمال ليس معيّناً حتّى في ذات الواقع( لجنة التحقيق)

79

لبناً فنحن على ثقة بأ نّه سوف لن يقترن ذلك بظهور الصداع صدفة في جميع الأشخاص الذين اخترناهم عشوائيّاً، ولكنّا في نفس الوقت لا نستطيع أن نؤكّد القضيّة الشرطيّة القائلة: لو كان هؤلاء الذين اخترناهم عشوائيّاً تتوفّر لديهم عوامل الصداع لما ظهر الصداع في جميعهم من أجل التمانع والتضادّ بين الصدف النسبيّة المتماثلة.
وهكذا نلاحظ أ نّنا كلّما استمددنا ثقتنا بعدم اجتماع مجموعة من الأشياء من الاعتقاد بالتمانع والتضادّ بينها، نجد أنفسنا متأكّدين من عدم اجتماع أفراد تلك المجموعة حتّى في حالة توفّر المقتضي لوجود كلّ واحد منها، وفي مجال الصدف النسبيّة- رغم اعتقادنا عادةً بأ نّها لا تجتمع بصورة متماثلة- لا نعتقد بعدم الاجتماع حتّى في حالة توفّر المقتضي لوجود الصداع في كلّ واحد من الأفراد المختارين عشوائيّاً، بل نحن متأكّدون من القضيّة الشرطيّة القائلة:
لو كان لدى كلّ واحد من هؤلاء المقتضي الكافي لإيجاد الصداع لاجتمعت الصدف النسبيّة المتماثلة، ولاقترن الصداع بشرب اللبن صدفة في كلّ اولئك الأفراد.
وهذا يعني أنّ ثقتنا الاعتيادية بأنّ اقتران ظهور الصداع بشرب اللبن لا يتكرّر باستمرار على خطّ طويل لم تنشأ من الاعتقاد بالتضادّ والتمانع بين مجموعة الاقترانات المتماثلة.

الاعتراض الثالث [على أساس التشابه‏]:

في هذا الاعتراض نريد أن نبرهن على أنّ العلم الإجمالي الذي يمثّله المبدأ الأرسطي ليس قائماً على أساس التشابه والاشتباه.
ومن أجل هذا يجب أن ندرك ميزة أساسيّة في كلّ علم إجمالي يقوم على‏

78

يكون العيش في المنطقة الجبليّة من عوامل السواد. وفي هذه الحالة لا يمكن أن نستنتج سببيّة شكل الغراب للسواد؛ لأنّ بديل افتراض هذه السببيّة هو افتراض سببيّة المنطقة الجبليّة للسواد، لا وجود اقتران مستوعب على أساس الصدفة.
ونستخلص ممّا تقدّم أنّ فرضيّة التضادّ إن طبّقت على نفس الاقترانات المتكرّرة بين (أ) و (ب) أو الاقترانات المتكرّرة بين الاختيار العشوائي ل (أ) و (ب) فهي خطأ بالإمكان دحضه. وإن طبّقت على الاقتران المستوعب بين (ح) و (ب) فلا نملك مثالًا من الطبيعة لدحضه، ولكنّها ضمن هذه الحدود لا تصلح أساساً لتفسير الدليل الاستقرائي في كثير من الأحيان؛ لأنّ كثيراً من الاستقراءات نتوصّل عن طريقها إلى تعميمات على أساس ملاحظة مجموعة مختلطة من الأفراد. وبتعبير آخر: إنّ الاستدلال الاستقرائي السليم على سببيّة (أ) ل (ب) يتوقّف على أن نلاحظ خلال التجربة اقتران (أ) ب (ب) في عدد كبير من الأفراد، ولا يتوقّف على افتراض (ح).

الاعتراض الثاني [على أساس التمانع‏]:

في كلّ حالة نواجه فيها التضادّ والتمانع بين مجموعة من الأشياء، نستطيع أن نؤكّد القضيّة الشرطيّة القائلة: لو وجدت الدوافع والعوامل الكافية لإيجاد تلك الأشياء فلا يمكن أن توجد جميعاً نتيجةً للتمانع والتضادّ بينها، فإذا كانت مساحة الغرفة لا تسع عشرة أشخاص أمكننا أن نؤكّد أنّ عشرة أشخاص حتّى لو توفّر لدى كلّ واحد منهم الدافع إلى دخول الغرفة لا يتاح لهم دخولها مجتمعين، من أجل التمانع والتضادّ الناتج عن ضيق مساحة الغرفة.
وحينما نلاحظ موقفنا من تكرّر الصدفة النسبيّة، نجد أ نّنا واثقون عادة بأ نّها لا تتكرّر على خطّ طويل، فإذا اخترنا أفراداً بصورة عشوائيّة وأعطيناهم‏

77

القاطنة في المناطق الجبليّة عوامل السواد دون عوامل البياض، ما دمنا نعلم أنّ نفس سكنى المنطقة الجبليّة ليس من عوامل السواد.
ونلاحظ في هذا الضوء أنّ فرضيّة التضادّ بصورتها الأخيرة، إنّما تصلح أساساً لتفسير الاستدلال الاستقرائي إذا توفّر:
أوّلًا: اقتران مستوعب، بمعنى أن يكون لدينا إضافة إلى (أ) و (ب) شي‏ء ثالث وهو (ح)، وتكون الأفراد المستقرأة من (أ) هي كلّ الأفراد التي تنتمي إلى (ح) بينما ليست هي كلّ الأفراد التي تنتمي إلى (أ).
وثانياً: علم مسبق بأنّ (ح) ليس له أثر في تكوين (ب).
ففي حالة توفّر هذين الشرطين نجد أمامنا أحد أمرين: فإمّا أن يكون (أ) سبباً ل (ب) فلا صدفة في اقتران (ح) ب (ب) باستمرار. وإمّا أن لا يكون (أ) سبباً ل (ب) فيكون اقتران (ح) ب (ب) اقتراناً مستوعباً لكلّ أفراد (ح) على أساس الصدفة، وفرضيّة التضادّ بصورتها التي افترضناها تنفي هذه الصدفة المستوعبة، فنستخلص من ذلك أنّ (أ) سبب ل (ب).
وإذا لم يتوفّر الشرط الأوّل، كما إذا لم نستوعب في فحصنا للغربان كلّ غربان المناطق الجبليّة، وإنّما التقطنا مجموعة مختلطة من الغربان دون تحديد، فوجدناها سوداء، فلا ضرورة إلى افتراض سببيّة شكل الغراب للسواد؛ لأنّ افتراض عدم سببيّة (أ) ل (ب) لا يعني قيام اقتران مستوعب على أساس الصدفة، وإنّما يعني تكرّر الاقتران الموضوعي بين شكل الغراب والسواد صدفة وتكرّر الاقتران الذاتي بين الاختيار العشوائي والسواد. ولا استحالة في تكرّر هذين الاقترانين كما عرفنا.
وإذا توفّر الشرط الأوّل، واستوعبنا في فحصنا للغربان كلّ غربان المناطق الجبليّة، فوجدناها سوداء، ولكن لم يتوفّر الشرط الثاني، فهذا يعني أ نّا نحتمل أن‏