الاسس المنطقية للاستقراء
112

منها، وكسب (ب) في اثنين، فإنّ هنالك مبرّراً من هذه الخبرة الماضية يبرّر لي أن أقول بأنّ (أ) سيكسب اللعب هذه المرّة، باحتمال أرجح من أن يكسب (ب). وعلى هذا الأساس نفسه يكون المبرّر غاية في القوّة حين أحكم بأنّ الرجل الساقط من النافذة سيتّجه في سقوطه نحو الأرض، وأنّ الشمس ستشرق غداً، وهكذا.

قد يقول المعترضون: لكنّ هذا ترجيح لا يقين.

ونحن نجيب: نعم، والعلوم الطبيعيّة كلّها قائمة على الترجيح لا اليقين؛ لأنّ اليقين لا يكون إلّافي القضايا التكراريّة التي لا تقول شيئاً جديداً كقضايا الرياضة، وأمّا القضايا الإخباريّة [التي تنبئ بجديد فهي دائماً معرّضة لشي‏ء من الخطأ ولذا][1] فصدقها احتمالي»[2].

وقد قام الدكتور زكي بعد هذا بدراسة لحساب الاحتمال، وفسّر الترجيحات الاستقرائيّة كلّها على أساس حساب الاحتمال.

مناقشة الاتجاه الثاني:

ولا يمكنني الآن أن أستعجل النتائج التي سوف نخرج بها من البحث المقبل في هذا الكتاب عند توضيح موقفنا من الدليل الاستقرائي. ولكن بإمكاني أن اشير إلى أمرين بصدد التعليق على كلام الدكتور زكي نجيب وما يمثّله من اتجاه في المنطق التجريبي على ضوء تلك النتائج:

الأوّل: إنّا نؤمن بأنّ الدليل الاستقرائي يؤدّي إلى العلم بالتعميم، ولا نعني‏

 

[1] نقلنا ما بين المعقوفتين من المصدر المشار إليه في نهاية النصّ( لجنة التحقيق)

[2] زكي نجيب محمود« المنطق الوضعي»: 504- 508

111

أساس التسليم بصحّته، فنعتبره دالًا بنفسه على صدق نفسه، وإمّا أن نبحث عبثاً عن مبرّرٍ يبرّر لنا أن نتوقّع حوادث المستقبل قبل وقوعها على أساس خبرة الماضي)[1].

فسؤالنا الآن هو: هل يجوز لنا الحكم بصحّة الاستدلال من حوادث الماضي على حوادث المستقبل دون الرجوع إلى أيّ مبدأ عقلي قبلي، كمبدأ الاستقراء الذي اقترحه (رسل)؟ … هل هناك مبرّر عقلي يحتّم أن تجي‏ء التجربة الجديدة مشابهة للتجارب الماضية؟ ونحن دفاعاً عن المذهب التجريبي نسأل بدورنا: ماذا يريد هؤلاء بقولهم: «مبرّر عقلي»؟ إذ نرى أنّ المشكلة كلّها متركّزة في المراد بهاتين الكلمتين … فالذين يقولون: إنّ تجربة الماضي وحدها ليس فيها مبرّر عقلي يجيز أن نحكم في ضوئها على المستقبل، يريدون بهاتين الكلمتين (مبرّر عقلي) صدقاً يقينيّاً في النتيجة. أو قل: إنّهم يريدون بهما أن يكون الاستدلال استنباطيّاً نتيجته محتواة في مقدّماته، وبذلك يستحيل أن تتعرّض للخطأ [فإن كان معنى كلمتي «مبرّر عقلي» عندهم هو أن يكون الاستدلال استنباطيّاً يقينيّ النتيجة لاحتواء المقدّمات عليها][2] فواضح أنّ الاستقراء لا يكون فيه مبرّر عقلي بهذا المعنى؛ لأنّ الاستقراء ليس استنباطاً.

لكن لماذا نفهم المبرّر العقلي بهذا المعنى؟ إنّها لا تعني ذلك في العلوم ولا في الحياة الجارية، فلو قيل لي في الحياة الجارية: إنّ (أ) سيلاعب (ب) وأنا لا أعرف عن (أ، ب) إلّاأ نّهما لعبا ستّ مرّات فيما سبق فكسب (أ) في أربع‏

 

[1] ما بين القوسين منقول- في عبارة زكي نجيب محمود- عن كتاب برتراند رسل« مشاكل الفلسفة»( باللغة الإنجليزيّة): 106

[2] نقلنا ما بين المعقوفتين من المصدر المشار إليه في نهاية النصّ( لجنة التحقيق)

110

الذي عرضناه:

قال الدكتور زكي: «إنّ معظم من تناول الاستقراء بالبحث- ومن هؤلاء (رسل) نفسه- لا يجدون مناصاً من الاعتراف بوجود مبدأ عقلي لم نستمدّه من الخبرة الحسيّة، هو الذي يكون سندنا في تعميم الأحكام العلميّة، فمهما بلغت من إخلاصك للمذهب التجريبي- في نظر هؤلاء- فلا مندوحة لك في النهاية عن أن تعترف بشي‏ء لم يأتك عن طريق التجربة، وهو المبدأ القائل بأنّ ما يصدق على بعض أفراد النوع الواحد يصدق كذلك على بقيّة أفراده، وبذلك يمكن التعميم … من أجل ذلك يرى (رسل) أ نّنا في النهاية مضطرّون في الاستقراء إلى الرجوع إلى أساس غير تجريبي وهو ما يسمّيه بمبدأ الاستقراء، (إنّ اولئك الذين يتمسّكون بالاستقراء ويلتزمون حدوده، يريدون أن يؤكّدوا بأنّ المنطق كلّه تجريبي، ولذا فلا ينتظر منهم أن يتبيّنوا بأنّ الاستقراء نفسه- حبيبهم العزيز- يستلزم مبدءاً منطقيّاً لا يمكن البرهنة عليه هو نفسه على أساس استقرائي، إذ لا بدّ أن يكون مبدءاً قبليّاً)[1]. فالرأي عند كثيرين ومنهم (رسل) كما بيّنا، هو أنّ التجربة الحسيّة وحدها لا تكفي، (ولا بدّ لنا إمّا أن نقبل مبدأ الاستقراء على‏

______________________________

-« الجبر الذاتي» من جامعة لندن. كان من أنصار الوضعيّة المنطقيّة ودعا لها في كتابه المعروف« المنطق الوضعي» سنة( 1951 م). وكان معجَباً جدّاً بشخصيّة المؤلّف( الشهيد السيّد محمّد باقر الصدر رحمه الله) حتّى قال فيه بعد شهادته:« إنّ إعدام مفكّرٍ ساهم في تنمية العقل العربي والإسلامي تثير لدينا مشاعر التقزّز والاشمئزاز، فالدول المتقدّمة تكرم أفذاذها، أمّا العراق فيُعدم مفكّريه».( كيهان العربي، العدد 691/ 12- كانون الثاني 1986- نقلًا عن جريدة الأهرام)( لجنة التحقيق)

[1] ما بين القوسين منقول- في عبارة زكي نجيب محمود- عن كتاب برتراند رسل« معرفتنا بالعالم الخارجي»( باللغة الإنجليزية): 226

109

الاتجاه الثاني ونزعته الترجيحيّة

يؤمن الاتجاه الثاني في المذهب التجريبي بأنّ التعميم الاستقرائي يحتاج إلى افتراض قضايا ومصادرات يجب إثباتها بصورة منفصلة عن الاستقراء، ويؤمن في الوقت نفسه بأنّ إثبات تلك المصادرات غير ممكن لا بالطريقة التي حاولها المذهب العقلي- حيث اعتقد بأ نّها قضايا عقليّة قبليّة- ولا بالطريقة التي حاولها الاتجاه السابق للمذهب التجريبي حيث اعتقد بأ نّها بدورها نتائج لاستقراءات سابقة. وما دام إثبات تلك المصادرات غير ممكن، فلا يتاح لأيّ استدلال استقرائي أن يؤدّي إلى اليقين بالقضيّة الاستقرائيّة، وإنّما يقتصر دوره على تنمية احتمالها، فكلّ تجربة في سياق الاستقراء تساهم في تنمية قيمة احتمال القضيّة الاستقرائيّة، ولهذا يتناسب احتمالها طرداً مع عدد ما يشتمل عليه الاستقراء من تجارب وشواهد.

وأظنّ أنّ من المفيد أن أقتطع هنا فقرات من كلام للدكتور زكي نجيب محمود[1] يوضّح فيه موقفه من مشكلة الاستقراء، وهو موقف يمثّل هذا الاتجاه‏

 

[1] مفكّر مصريّ عاش:( 1905- 1993 م). نال درجة الدكتوراه في الفلسفة في موضوع-

108

دورها في الاستدلال الاستقرائي منطقياً نجد أ نّها تتّجه جميعاً إلى علاج المشكلة الثانية من مشاكل الاستقراء الثلاث، ومقاومة احتمال الصدفة النسبيّة، أي احتمال (ت) المجهولة. فكما وضع المنطق الأرسطي مبدأه القائل: «إنّ الاتفاق لا يكون دائميّاً ولا أكثريّاً» لمقاومة هذا الاحتمال، كذلك وضع ستيورت مل طرقه الأربع لمقاومة نفس الاحتمال.
ولكنّ هذه الطرق الأربع لا تستطيع أن تفسّر لنا كيف يقضى على احتمال (ت) نهائيّاً؛ لأنّ أقصى ما تنجزه هو أ نّها تربط افتراض (ت) بافتراض امور كثيرة، فيتضاءل بذلك احتمال (ت)؛ لأنّه يعبّر عندئذٍ عن حاصل ضرب قيم احتمالات تلك الامور الكثيرة بعضها ببعض، وحاصل ضرب هذه القيم الاحتماليّة- مهما كان ضئيلًا- لا يصل إلى الصفر بحال من الأحوال.

107

ضوئه، وفعلًا كشف بعد ذلك أحد علماء الفلك عن نبتون، وهو اسم الكوكب الجديد.
ورغم أنّ الصيغة التي وضعت للتعبير عن هذه الطريقة ناقصة فإنّ تطبيقها على اكتشاف نبتون يعطينا الصورة التالية عنها:
إنّ العلماء حينما واجهوا انحراف مدار يورانوس عن الموقع الذي تحدّده نظريّة الجاذبيّة- على افتراض أن لا يوجد كوكب آخر في موقع نبتون- كان أمامهم افتراضان:
أحدهما: أنّ نظريّة الجاذبيّة صحيحة، وأنّ هذا الانحراف ينشأ من وجود كوكب آخر، بالشكل الذي يتيح لنظريّة الجاذبيّة أن تفسّر ذلك الانحراف.
والآخر: أ نّه لا وجود لكوكب آخر، وأنّ هذا الانحراف يتعارض مع نظريّة الجاذبيّة، وهذا يعني أنّ النظريّة غير صحيحة.
وقد رجّح العلماء نظريّاً الافتراض الأوّل على الافتراض الثاني، وذلك لأنّ عدداً كبيراً من الظواهر كان منسجماً كلّ الانسجام مع التقديرات التي تفرضها نظريّة الجاذبيّة، وهذا الانسجام يجب أن يفسَّر عند الأخذ بالافتراض الثاني من الافتراضين السابقين بأ نّه صدفة، وأنّ هناك (ت) مجهولة هي الموجّه الحقيقي لتلك الظواهر دون قانون الجاذبيّة. ومن الواضح أ نّه كلّما ازدادت تلك الظواهر التي ثبت علميّاً انسجامها مع قانون الجاذبيّة، ضعف احتمال تفسير كلّ هذا الانسجام على أساس (ت) المجهولة، وكبر احتمال الأخذ بالافتراض الأوّل من الافتراضين السابقين.
وهكذا نجد- عند تحليل طريقة البواقي- أ نّها اسلوب آخر في التقليل من درجة احتمال (ت).
ونستخلص ممّا تقدّم أنّ الطرق الأربعة التي وضعها ستيورت مل إذا حلّلنا

106

إرجاع جميع النتائج في المجموعة الثانية- ما عدا نتيجة واحدة- إلى جميع المقدّمات في المجموعة الاولى- ما عدا مقدّمة واحدة- فمن المرجّح أن توجد علاقة بين المقدّمة والنتيجة الباقيتين.

وقد قيل: إنّ هذه الطريقة هي التي أتاحت للعلماء الفلكيين أن يكتشفوا نظريّاً كوكباً اطلق عليه فيما بعد اسم «نبتون‏[1]»؛ لأنّهم آمنوا بنظريّة الجاذبيّة التي تحدّد موقع أيّ كوكب وفقاً لقوانين الجاذبيّة، ولاحظوا في ضوء ذلك انحرافاً في مدار الكوكب «يورانوس‏[2]» عن الموقع الذي تفترضه نظريّة الجاذبيّة، فهذا الفارق بين النظريّة والواقع هو الظاهرة الباقية التي يجب تفسيرها. فوضع (لوفرييه‏[3]) الفرض الآتي، وهو: أنّ هذا الاضطراب في مدار يورانوس يرجع إلى وجود كوكب سيّار آخر مجهول لا يقع تحت ملاحظتنا بسبب شدّة بعده وقلّة

 

[1] (Neptune ): ثامن كواكب المجموعة الشمسيّة بعداً عن الشمس، لا يرى بالعين المجرّدة، كان اكتشافه نتيجةً لدراسة عدم انتظام حركة الكوكب« اورانوس» قام« جون آدامز» و« أوربان لوفرييه» بحساب مواقعه، وعثر عليه« جوهان جوتفريد جال»(Johann Gottfried Gall ) في عام( 1846 م)( لجنة التحقيق)

[2] (Uranus ): سابع كواكب المجموعة الشمسيّة بعداً عن الشمس وأكبرها حجماً، وهو أكبر كوكب تمّ اكتشافه عبر« التلسكوب» عام( 1781 م) بفضل الفلكي« وليَم هرشل»(William Herschel ). كان لعدم انتظام حركته الفضل في اكتشاف الكوكب« نبتون»( لجنة التحقيق)

[3] « أوربان لوفرييه»:(Urbain Le Verrier ):( 1811- 1877 م): فلكيّ فرنسي، عمل على تحسين الجداول الفلكيّة لكوكب« عطارد» وقد آمن بوجود كوكب أقرب إلى الشمس من« عطارد» أسماه« فالكان». أدّت حساباته الرياضيّة إلى اكتشاف كوكب« نبتون» عام( 1846 م)( لجنة التحقيق)

105

اكتشاف علاقة سببيّة بين الظاهرتين.

وهذه الطريقة ينحصر دورها أيضاً في التقليل من احتمال (ت)؛ لأنّنا إذا درسنا إحدى الحالات ووجدنا تناسباً بين التغيّر الذي طرأ على ظاهرة (أ) والتغيّر الذي طرأ على ظاهرة (ب) واجهنا احتمال أنّ هذا التناسب صدفة، وأن يكون التغيّر الطارئ على (ب) مرتبطاً بسبب آخر لا صلة له ب (أ)، ولكن إذا وجدنا التناسب نفسه بين كلّ درجات التغيّر الملحوظة في حالات عديدة فسوف يتضاءل باستمرار احتمال (ت) ويكبر احتمال السببيّة بين (أ) و (ب).

وليست طريقة التلازم في التغيّر، إلّاشكلًا معقّداً من أشكال طريقة الاتفاق‏[1]؛ لأنّ طريقة التلازم في التغيّر تستبطن وجود ظرف مشترك بين الحالات العديدة لوجود (ب) وهو (أ)، وهذا هو ما تعنيه طريقة الاتفاق، غير أنّ طريقة التلازم في التغيّر تضيف إلى ذلك: أنّ هذا العنصر المشترك له درجات، وأنّ نفس الظاهرة الملحوظة وهي (ب) لها درجات أيضاً، وأنّ تناسباً معيّناً بينهما يشمل كلّ الحالات التي تدخل في نطاق الاستقراء.

رابعاً- طريقة البواقي‏[2]:

وقد حُدّدت هذه الطريقة على النحو الآتي:

إذا أدّت مجموعة من المقدّمات إلى مجموعة اخرى من النتائج، وأمكن‏

 

[1] وبتعبير أدقّ: إنّها شكل مركّب من طريقة الاتّفاق وطريقة الاختلاف، لأنّها تستبطن- من ناحية- وجود ظرف مشترك بين الحالات، وهو مقدار ما يتواجد من( أ) في كلّ الحالات، وتستبطن- من ناحية اخرى- افتراض تخلّف بعض درجات( ب) عند تخلّف تلك الدرجة من( أ)( لجنة التحقيق)

[2] (Method of Residues )

104

الاختلاف: أنّ الحالتين متّفقتان في كلّ الظروف التي اتيح للمستقرئ أن يستوعبها في ملاحظته، باستثناء ظرف واحد.

وهذه الطريقة- كالطريقة السابقة- تقتصر وظيفتها على علاج المشكلة الثانية والتقليل من احتمال الصدفة النسبيّة؛ لأنّنا حين نواجه الحالة الاولى التي وجد فيها (ب) ونستوعب عدداً من ظروفها- بما في ذلك (أ)- لا نستطيع أن نمنح صفة السببيّة لواحد من تلك الظروف دون الآخر، ولذلك لا يمكن أن نعتبر (أ) هو السبب؛ لأنّ وجود (ت) محتمل ما دام من الممكن أن يكون أيّ واحد من الظروف الاخرى التي لاحظناها (ت). فإذا واجهنا بعد ذلك الحالة الثانية أمكننا أن نتأكّد من أنّ أيّ ظرف وجد في كلتا الحالتين لا يمكن أن يقوم بدور (ت)، وأن يكون هو السبب ل (ب)، وبهذا يتناقص احتمال (ت) بقدر ما نثبت اشتراك الحالة الثانية مع الاولى في الظروف.

ثالثاً- طريقة التلازم في التغيّر[1]:

وقد حدّد مل هذه الطريقة على النحو الآتي:

إنّ الظاهرة التي تتغيّر على نحو مّا كلّما تغيّرت ظاهرة اخرى على نحو خاصّ، تعدّ مرتبطة بتلك الظاهرة بنوع من العلاقة السببيّة. فإذا كانت لدينا ظاهرتان، ودرسنا إحداهما في حالات مختلفة فوجدنا أ نّها موجودة على درجات متفاوتة في تلك الحالات، ولاحظنا أنّ الظاهرة الاخرى موجودة في جميع تلك الحالات، وأنّ تغيّرات معيّنة تطرأ عليها تتناسب مع التغيّرات التي تطرأ على الظاهرة الاولى وتحدّد درجتها، فسوف نخرج من ذلك بنتيجة: وهي‏

 

[1] (Method of Concomitant Variations )