هذا النظام، ثمّ لا نجد لدى هذاالجيل تطبيقاً واقعيّاً لهذا النظام أو مفهوماً محدّداً عنه؟!!
كما أ نّنا لا يمكن أن نتصوّر من ناحية اخرى أنّ الرسول القائد صلى الله عليه و آله وضع هذا النظام وحدَّده تشريعياً ومفهوميّاً ثمّ لا يقوم بتوعية المسلمين عليه وتثقيفهم به.
وهكذا يبرهن ما تقدّم على أنّ النبي صلى الله عليه و آله لم يكن قد طرح الشورى كنظام بديل على الامّة؛ إذ ليس من الممكن عادة أن تطرح بالدرجة التي تتناسب مع أهمّيتها، ثمّ تختفي اختفاءاً كاملًا عن الجميع وعن كلّ الاتجاهات.
وممّا يوضّح هذه الحقيقة بدرجة أكبر أن نلاحظ:
أوّلًا: أنّ نظام الشورى كان نظاماً جديداً بطبيعته على تلك البيئة التي لم تكن قد مارست قبل النبوة أيّ نظام مكتمل للحكم، فكان لابدّ من توعية مكثّفة ومركّزة عليه، كما أوضحنا ذلك.
ثانياً: أنّ الشورى كفكرة مفهوم غائم لا يكفي طرحه هكذا لإمكان وضعه موضع التنفيذ، ما لم تشرح تفاصيله وموازينه ومقاييس التفضيل عند اختلاف الشورى، وهل تقوم هذه المقاييس على أساس العدد والكمّ، أو على أساس الكيف والخبرة؟ إلى غير ذلك مما يحدِّد للفكرة معالمها ويجعلها صالحة للتطبيق فور وفاة النبي صلى الله عليه و آله.
ثالثاً: أنّ الشورى تعبِّر في الحقيقة عن ممارسة للُامّة بشكل وآخر للسلطةعن طريق التشاور وتقرير مصير الحكم، فهي مسؤولية تتعلّق بعدد كبير من الناس هم كلّ الذين تشملهم الشورى، وهذا يعني أ نّها لو كانت حكماً شرعيّاً يجب وضعه موضع التنفيذ عقيب وفاة النبي صلى الله عليه و آله لكان لابدّ من طرحه على أكبر عدد من اولئك الناس؛ لأنّ موقفهم من الشورى إيجابي، وكلّ منهم يتحمّل قسطاً من المسؤولية.
وكلّ هذه النقاط تبرهن على أنّ النبي صلى الله عليه و آله في حالة تبنّيه لنظام الشورى كبديل له بعد وفاته يتحتّم عليه أن يطرح فكرة الشورى على نطاق واسع وبعمق، وبإعداد نفسي عام، وملءٍ لكلّ الثغرات، وإبراز لكلّ التفاصيل التي تجعل الفكرة عمليّة، وطرح للفكرة على هذا المستوى كمّاً وكيفاً وعمقاً لا يمكن أن يمارس من قِبل الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله ثمّ تنطمس معالمه لدى جميع المسلمين الذين عاصروه إلى حين وفاته.
وقد يفترض أنّ النبي صلى الله عليه و آله كان قد طرح فكرة الشورى بالصورة اللازمة وبالحجم الذي يتطلّبه الموقف كمّاً وكيفاً واستوعبها المسلمون، غير أنّ الدوافع السياسية استيقظت فجأةً وحجبت الحقيقة وفرضت على الناس كتمان ما سمعوه من النبي فيما يتّصل بالشورى وأحكامها وتفاصيلها.
غير أنّ هذا الافتراض ليس عمليّاً؛ لأنّ تلك الدوافع مهما قيل عنها فهي لا تشمل المسلمين الاعتياديين من الصحابة الذين لم يساهموا في الأحداث السياسية عقب وفاة النبي صلى الله عليه و آله ولا في بناء هرم السقيفة، وكان موقفهم موقف المترسّل، وهؤلاء يمثّلون في كلّ مجتمع جزءاً كبيراً من الناحية العددية مهما طغى الجانب السياسي عليه.
فلو كانت الشورى مطروحة من قِبل النبي صلى الله عليه و آله بالحجم المطلوب لما اختصّ الاستماع إلى نصوصها بأصحاب تلك الدوافع، بل لسمعها مختلف الناس، ولانعكست بصورة طبيعية عن طريق الاعتياديين من الصحابة، كما انعكست فعلًا النصوص النبويّة على فضل الإمام علي عليه السلام ووصايته عن طريق الصحابة أنفسهم، فكيف لم تَحُل الدوافع السياسية دون أن تصل إلينا مئات الأحاديث عن طريق الصحابة عن النبي صلى الله عليه و آله في فضل علي عليه السلام ووصايته ومرجعيته، على الرغم من تعارض ذلك مع الاتّجاه السائد وقتئذٍ، ولم يصلنا شيء ملحوظ من ذلك فيما يتّصل بفكرة الشورى؟
بل حتّى اولئك الذين كانوا يمثّلون الاتّجاه السائد كانوا في كثير من الأحيان يختلفون في المواقف السياسية، وتكون من مصلحة هذا الفريق أو ذاك أن يرفع شعار الشورى ضدّ الفريق الآخر، ومع ذلك لم نعهد أنّ فريقاً منهم استعمل هذا الشعار كحكمٍ سمعه من النبي صلى الله عليه و آله، فلاحظوا- على سبيل المثال- موقف طلحة من تعيين أبي بكر لعمر واستنكاره لذلك وإعلانه السخط على هذا التعيين[1]، فإنّه لم يفكّر على الرغم من ذلك أن يلعب ضدّ هذا التعيين بورقة الشورى، ويشجب موقف أبي بكر بأ نّه يخالف ما هو المسموع من النبي صلى الله عليه و آله عن الشورى والانتخاب.
[عدم التعبئة الفكريّة والرساليّة للُامّة:]
2- إنّ النبي صلى الله عليه و آله لو كان قد قرّر أن يجعل من الجيل الإسلامي الرائد الذي ضمّ المهاجرين والأنصار من صحابته- قيّماً على الدعوة بعده ومسؤولًا عن مواصلة عمليّة التغيير، فهذا يحتمّ على الرسول القائد صلى الله عليه و آله أن يعبّئ هذا الجيل تعبئة رساليّة وفكريّة واسعة يستطيع أن يمسك بالنظرية بعمق، ويمارس التطبيق على ضوئها بوعي، ويضع للمشاكل التي تواجهها الدعوة باستمرار الحلول النابعة من الرسالة، خصوصاً إذا لاحظنا أنّ النبي صلى الله عليه و آله كان- وهو الذي بشّر بسقوط كسرى وقيصر[2]– يعلم بأنّ الدعوة مقبلة على فتوح عظيمة، وأنّ الامّة الإسلامية سوف تنضمّ إليها في غدٍ قريب شعوب جديدة ومساحة كبيرة وتواجه مسؤولية توعية تلك الشعوب على الإسلام وتحصين الامّة من أخطار هذا الانفتاح، وتطبيق أحكام الشريعة على الأرض المفتوحة وأهل الأرض.
وبالرغم من أنّ الجيل الرائد من المسلمين كان أنظف الأجيال
[1] تاريخ الطبري 3: 433
[2] تاريخ الطبري 2: 569، حديث النبي عند حفر الخندق