وخلافاً لذلك شخص يتوغّل في التأريخ، عاش الدنيا قبل أن ترى تلك الحضارة النور، ورأى الحضارات الكبيرة سادت العالم الواحدة تلو الاخرى ثمّ تداعت وانهارت، رأى ذلك بعينيه ولم يقرأه في كتاب تأريخ.
ثمّ رأى الحضارة التي يقدّر لها أن تكوّن الفصل الأخير من قصّة الإنسان قبل اليوم الموعود، رآها وهي بذور صغيرة لا تكاد تتبيّن.
ثمّ شاهدها وقد اتّخذت مواقعها في أحشاء المجتمع البشري تتربّص الفرصة لكي تنمو وتظهر.
ثمّ عاصرها وقد بدأت تنمو وتزحف وتُصاب بالنكسة تارةً، ويحالفها التوفيق تارةً اخرى.
ثمّ واكبها وهي تزدهر وتتعملق وتسيطر بالتدريج على مقدّرات عالَمٍ بكامله، فإنّ شخصاً من هذا القبيل عاش كلّ هذه المراحل بفطنةٍ وانتباهٍ كاملين ينظر إلى هذا العملاق الذي يريد أن يصارعه من زاوية ذلك الامتداد التأريخي الطويل الذي عاشه بحسّه، لا في بطون كتب التأريخ فحسب، ينظر إليه لا بوصفه قدراً محتوماً، ولا كما كان ينظر (جان جاك روسو) إلى الملَكيّة في فرنسا، فقد جاء عنه أ نّه كان يرعبه مجرّد أن يتصور فرنسا بدون ملك، على الرغم من كونه من الدعاة الكبار فكرياً وفلسفياً إلى تطوير الوضع السياسي القائم وقتئذٍ؛ لأنّ (روسو) هذا نشأ في ظلّ الملَكيّة، وتنفّس هواءها طيلة حياته. وأمّا هذا الشخص المتوغّل في التأريخ فله هيبة التأريخ، وقوة التأريخ، والشعور المفعم بأنّ ما حوله من كيانٍ وحضارةٍ وليدُ يومٍ من أيّام التأريخ، تهيّأت له الأسباب فوجِد، وستتهيّأ الأسباب فيزول، فلا يبقى منه شي‏ء، كما لم يكن يوجد منه شي‏ء بالأمس القريب أو البعيد، وأنّ الأعمار التأريخية للحضارات والكيانات مهما طالت فهي ليست إلّا أياماً قصيرةً في عمر التأريخ الطويل.