کتابخانه
120

الطبيعة، وتحكم فيها بشي‏ء إيجابي أو سلبي؛ لأنّ رصيدها العلمي لا يمدّها في تلك المسائل بشي‏ء، فالقضية الفلسفية القائلة: (للعالم مبدأ أوّل وراء الطبيعة) ليس من حقّ الفلسفة العلمية أن تتناولها بنفي أو إثبات؛ لأنّ محتواها خارج عن مجال التجربة.
وبالرغم من ذلك نرى أنّ الماركسية تتدخّل في هذا اللون من القضايا وتجيب عليها بالنفي، الأمر الذي يجعلها تتمرّد على حدود الفلسفة العلمية، وتنساق إلى بحث ميتافيزيقي؛ لأنّ النفي فيما يتّصل بما وراء عالم الطبيعة كالإثبات، وكلاهما من الفلسفة الميتافيزيقية. وبذلك يبدو التناقض بين الحدود التي يجب أن تقف عندها الماركسية في بحثها الفلسفي بوصفها صاحبة فلسفة علمية، وبين انطلاقها في البحث إلى أوسع من ذلك.
وبعد أن ربطت الماركسية فلسفتها بالعلم، وآمنت بضرورة تطوّر المحصول الفلسفي وفقاً للعلوم الطبيعية، ومشاركة الفلسفة للعلم في نموّه وتكامله تبعاً لارتفاع مستوى الخبرة التجريبية وتعميقها على مرّ الزمن، كان من الطبيعي لها أن ترفض كلّ مطلق فلسفي فوق العلم.
وقد نشأ هذا من خطأ الماركسية في نظرية المعرفة وإيمانها بالتجربة وحدها. وأمّا في ضوء المذهب العقلي والإيمان بمعارف قبلية، فالفلسفة ترتكز على قواعد أساسية ثابتة، وهي: تلك المعارف العقلية القبلية الثابتة بصورة مطلقة ومستقلّة عن التجربة، ولأجل ذلك لا يكون من الحتم أن يتغيّر المحتوى الفلسفي باستمرار تبعاً للاكتشافات التجريبية.
ونحن لا نعني بذلك انقطاع الصلة بين الفلسفة والعلم، فإنّ الترابط بينهما وثيق؛ لأنّ العلم يقدّم في بعض الأحايين الحقائق الخاصّة إلى الفلسفة لتطبّق عليها

119

أنّ فلسفتها هذه ترتكز على العلوم الطبيعية، وتستمدّ رصيدها من التطوّر العلمي في مختلف الحقول.

قال لينين:

«فالمادية الديالكتيكية لم تعد بحاجة إلى فلسفة توضع فوق العلوم الاخرى، وإنّ ما يبقى من الفلسفة القديمة هو نظرية الفكر وقوانينه: المنطقُ الشكلي والديالكتيك»[1].

وقال روجيه غارودي:

«سوف تكون مهمّة النظرية المادّية للمعرفة على وجه التحديد أن لا تقطع أبداً الفكر الفلسفي عن الفكر العلمي ولا عن النشاط العملي التأريخي»[2].

وبالرغم من إصرار الماركسية على الطابع العلمي لفلسفتها ورفض أيّ لون من التفكير الميتافيزيقي، نجد أنّ الماركسية لا تتقيّد في فلسفتها بالحدود العلمية للبحث؛ ذلك أنّ الفلسفة التي تنبع من الخبرة العلمية يجب أن تمارس مهمّتها في الحقل العلمي ولا تتجاوزه إلى غيره، فالمجال المشروع لفلسفة علمية كفلسفة الماركسية في زعمها وإن كان أوسع من المجال المنفرد لكلّ علم، لأنّها تستهدي بمختلف العلوم، ولكن لا يجوز بحال من الأحوال أن يكون أوسع من المجالات العلمية مجتمعة، أي: المجال العلمي العام، وهو الطبيعة التي يمكن إخضاعها للتجربة أو الملاحظة الحسّية المنظّمة.

فليس من صلاحية الفلسفة العلمية أن تتناول في البحث مسائل ما وراء

 

[1] ماركس، أنجلس والماركسية: 24

[2] ما هي المادّية؟: 46

118

صورة الواقع الخارجي ولا تختلف المعطيات الحسّية تبعاً له، أفلم يصبح مقياس الوضعية للكلام المفهوم ميتافيزيقياً في نهاية الشوط، وبالتالي كلاماً غير مفهوم في رأيها؟!
ولنترك الاستاذ آير، ولنأخذ كلمة (المعنى) بمدلولها المتعارف دون أن ندمج فيه التجربة، فهل نستطيع أن نحكم على القضية الفلسفية بأ نّها غير ذات معنىً؟! كلّا طبعاً؛ فإنّ المعنى هو ما يعكسه اللفظ في الذهن من صور، والقضية الفلسفية تعكس في أذهان أنصارها وخصومها على السواء صوراً من هذا القبيل، وما دامت هناك صورة تقذفها القضية الفلسفية إلى أفكارنا فهناك مجال للصدق والكذب، وبالتالي هناك قضية كاملة جديرة بهذا الاسم في العرف المنطقي؛ فإنّ الصورة التي تقذفها القضية الفلسفية إلى ذهننا إن كانت تطابق شيئاً موضوعياً خارج حدود الذهن واللفظ فالقضية صادقة، وإلّا فهي كاذبة.
فالصدق والكذب- وبالتالي الطابع المنطقي للقضية- ليسا من معطيات التجربة لنقول عن القضية التي لا تخضع للتجربة: إنّها لا توصف بصدق أو كذب، وإنّما هما تعبيران بشكل إيجابي أو سلبي عن التطابق بين صورة القضية في الذهن، وبين أيّ شي‏ء موضوعي ثابت خارج حدود الذهن واللفظ.

الماركسية والفلسفة:

وموقف الماركسية من الفلسفة يشبه بصورة جوهرية الموقف الوضعي، فهي ترفض كلّ الرفض فلسفة عليا تفرض على العلوم ولا تنبثق منها؛ لأنّ الماركسية تجريبية في منطقها وأداة تفكيرها، فمن الطبيعي أن لا تجد للميتافيزيقا مجالًا في بحوثها، ولهذا نادت بفلسفة علمية وهي: المادّية الديالكتيكية، وزعمت‏

117

هذا التطوير للكلمة لا يتناقض مع التسليم بأ نّها ذات معنىً في استعمال آخر للكلمة لا تدمج فيه التجربة في المعنى.
ولا أدري ماذا يقول الاستاذ آير وأمثاله من الوضعيين عن القضايا التي تتّصل بعالم الطبيعة، ولا يملك الإنسان القدرة على التثبّت من صوابها أو خطئها بالتجربة، كما إذا قلنا: (إنّ الوجه الآخر للقمر الذي لا يقابل الأرض زاخر بالجبال والوديان) فإنّنا لا نملك وقد لا يتاح لنا في المستقبل أن نملك الإمكانات التجريبية لاستكشاف صدق هذه القضية أو كذبها بالرغم من أ نّها تتحدّث عن الطبيعة، فهل يمكن أن نعتبر هذه القضية خاوية لا معنى لها؟ مع أ نّنا نعلم جميعاً أنّ العلم كثيراً ما يطرح قضايا من هذا القبيل على صعيد البحث قبل أن يملك التجربة الحاسمة بصددها، ويظلّ يبحث عن ضوء ليسلّطه عليها حتّى يجده في نهاية المطاف أو يعجز عن الظفر به، فلماذا كلّ هذا الجهد العلمي لو كانت كلّ قضية لا تحمل بيدها دليل صدقها أو كذبها من التجربة خواءً ولغواً من القول؟!
وتحاول الوضعية في هذا المجال أن تستدرك، فهي تقول: إنّ المهمّ هو الإمكان المنطقي لا الإمكان الفعلي، فكلّ قضية كان ممكناً من الوجهة النظرية الحصول على تجربة هادية بشأنها، فهي ذات معنىً وجديرة بالبحث وإن لم نملك هذه التجربة فعلًا.
ونحن نرى في هذه المحاولة أنّ الوضعية قد استعارت مفهوماً ميتافيزيقياً لتكميل بنائها المذهبي الذي شادته لنسف الميتافيزيقا، وذلك المفهوم هو:
الإمكان المنطقي الذي ميّزته عن الإمكان الفعلي، وإلّا فما هو المعطى الحسّي للإمكان المنطقي؟! نقول للوضعية: إنّ التجربة ما دامت غير ممكنة في الواقع، فماذا يبقى للإمكان النظري من معنىً غير مفهومه الميتافيزيقي الذي لا أثر له على‏

116

لمعارف عقلية قبلية، فلا جناح على القضية الفلسفية إذا ارتبطت مع معطياتها الحسّية بروابط عقلية وفي ضوء معارف قبلية.

وإلى هنا لم نجد في الوضعية شيئاً جديداً غير معطيات المذهب التجريبي ومفاهيمه عن الميتافيزيقا الفلسفية، غير أنّ الصفة الثالثة تبدو لنا شيئاً جديداً؛ لأنّ الوضعية تقرّر فيها: أنّ القضية الفلسفية لا معنىً لها إطلاقاً، ولا تعتبر قضية، بل هي شبه قضية.

ويمكننا القول: بأنّ هذا الاتّهام هو أشدّ ضربة وُجِّهت إلى الفلسفة من المدارس الفلسفية للمذهب التجريبي، فلنفحص محتواه باهتمام.

ولكي يتاح لنا ذلك يجب أن نعرف بالضبط ماذا تريد الوضعية بكلمة (المعنى) في قولنا: إنّ القضية الفلسفية لا معنى لها وإن أمكن تفسيرها في قواميس اللغة؟

ويجيب على ذلك الاستاذ آير- إمام الوضعية المنطقية الحديثة في انكلترا- بأنّ كلمة (معنىً) في رأي الوضعية تدلّ على المعنى الذي يمكن التثبّت من صوابه أو خطئه في حدود الخبرة الحسّية، ونظراً إلى أنّ القضية الفلسفية لا يمكن فيها ذلك، فهي قضية بدون معنىً‏[1].

وفي هذا الضوء تصبح العبارة القائلة: (القضية الفلسفية لا معنىً لها) معادلة تماماً لقولنا: (محتوى القضية الفلسفية لا يخضع للتجربة؛ لأنّه يتّصل بما وراء الطبيعة)، وبذلك تكون الوضعية قد قرّرت حقيقة لا شكّ فيها ولا جدال، وهي: أنّ مواضيع الميتافيزيقا الفلسفية ليست تجريبية، ولم تأتِ بشي‏ء جديد إلّاتطوير كلمة (المعنى) ودمج التجربة فيها، وتجريد القضية الفلسفية عن المعنى في ضوء

 

[1] اسس الفلسفة، د. توفيق الطويل: 277

115

للقضية معطيات حسّية ولو بصورة غير مباشرة؟
فإن كانت الوضعية تلغي كلّ قضية ما لم يكن مدلولها معطىً حسّياً وظرفاً واقعياً يخضع للتجربة فهي بذلك لا تسقط القضايا الفلسفية فحسب، بل تشجب- أيضاً- أكثر القضايا العلمية التي لا تعبّر عن معطىً حسّيٍّ، وإنّما تعبّر عن قانون مستنتج من المعطيات الحسّية كقانون الجاذبية، فنحن نحسّ بسقوط القلم عن الطاولة إلى الأرض ولا نحسّ بجاذبية الأرض، فسقوط القلم معطىً حسّيٌّ مرتبط بالمضمون العلمي لقانون الجاذبية، وليس للقانون عطاء حسّي مباشر.
وأمّا إذا اكتفت الوضعية بالمعطى الحسّي غير المباشر، فالقضايا الفلسفية لها معطيات حسّية غير مباشرة كعِدّة من القضايا العلمية تماماً، أي: توجد هناك معطيات حسّية وظروف واقعية ترتبط بالقضية الفلسفية، فإن صحّت كانت القضية صادقة وإلّا فهي كاذبة. خذ إليك- مثلًا- القضية الفلسفية القائلة: بوجود علّة اولى للعالم، فإنّ محتوى هذه القضية وإن لم يكن له عطاء حسّي مباشر، غير أنّ الفيلسوف يمكنه أن يصل إليه عن طريق المعطيات الحسّية التي لا يمكن تفسيرها عقلياً إلّاعن طريق العلّة الاولى، كما سنرى في بحوث مقبلة من هذا الكتاب.
وهناك شي‏ء واحد يمكن أن تقوله الوضعية في هذا المجال، وهو: أنّ استنتاج المضمون الفكري للقضية الفلسفية من المعطيات الحسّية لا يقوم على أساس تجريبي، وإنّما يقوم على اسس عقلية، بمعنى: أنّ المعارف العقلية هي التي تحتّم تفسير المعطيات الحسّية بافتراض علّة اولى، لا أنّ التجربة تبرهن على استحالة وجود هذه المعطيات بدون العلّة الاولى، وما لم تبرهن التجربة على ذلك لا يمكن أن تعتبر تلك المعطيات عطاءً للقضية الفلسفية ولو بصورة غير مباشرة.
وهذا القول ليس إلّاتكراراً من جديد للمذهب التجريبي، وما دمنا قد عرفنا سابقاً أنّ استنتاج المفاهيم العلمية العامّة من المعطيات الحسّية مدين‏

114

3- وهي لذلك قضية لا معنىً لها؛ إذ لا تخبر عن العالم شيئاً.

4- وعلى هذا الأساس لا يصحّ أن توصف بصدق أو كذب‏[1].

ولنأخذ الصفة الاولى، وهي: أنّ القضية الفلسفية لا يمكن إثباتها، فإنّها تكرار لما يردّده أنصار المذهب التجريبي عموماً؛ فإنّهم يؤمنون بأنّ التجربة هي المصدر الأساسي والأداة العليا للمعرفة، وهي لا تستطيع أن تمارس عملها على المسرح الفلسفي؛ لأنّ موضوعات الفلسفة ميتافيزيقية لا تخضع لأيّ لون علمي من ألوان التجربة.

ونحن إذا رفضنا المذهب التجريبي وأثبتنا وجود معارف قبلية في صميم العقل البشري يرتكز عليها الكيان العلمي في مختلف حقول التجربة، نستطيع أن نطمئنّ إلى إمكانات الفكر الإنساني، وقدرته على درس القضايا الفلسفية، وبحثها في ضوء تلك المعارف القبلية على طريقة القياس والهبوط من العامّ إلى الخاصّ‏[2].

وأمّا الصفة الثانية، وهي: أ نّا لا نستطيع أن نصف الظروف التي إن صحّت كانت القضية صادقة وإلّا فهي كاذبة، فلا تزال بحاجة إلى شي‏ء من التوضيح.

فما هي هذه الظروف الواقعية أو المعطيات الحسّية التي يرتبط صدق القضية بها؟

وهل تعتبر الوضعية من شرط القضية أن يكون مدلولها بالذات معطىً حسّياً كما في قولنا: (البرد يشتدّ في الشتاء، والمطر يهطل في ذلك الفصل) أو تكتفي بأن يكون‏

 

[1] راجع الموسوعة الفلسفيّة، وضع لجنة من العلماء والأكاديميّين السوفياتيّين: 582- 585، وموجز تاريخ الفلسفة: 644- 654، تأليف جماعة من الأساتذة السوفيات، والموسوعة الفلسفيّة المختصرة: 149، نقلها عن الإنجليزيّة: فؤاد كامل، جلال العشري، عبد الرشيد الصادق

[2] أو على طريقة الاستقراء والصعود من الخاصّ إلى العامّ بالنحو الذي حقّقه المؤلّف قدس سره في كتاب« الاسس المنطقيّة للاستقراء» في ضوء المذهب الذاتي للمعرفة.( لجنة التحقيق)

113

ولأجل هذا كنّا نستطيع أن نصف الظروف الواقعية التي نعرف فيها صدق الكلام أو كذبه ما دام هناك فرق في العالم الواقعي بين أن تصدق القضية وبين أن تكذب.
ولكن خذ إليك العبارة الفلسفية التي تقول: (إنّ لكلّ شي‏ء جوهراً غير معطياته الحسّية، فللتفاحة- مثلًا- جوهر هو التفّاحة في ذاتها فوق ما نحسّه منها بالبصر واللمس والذوق) فإنّك لن تجد فرقاً في الواقع الخارجي بين أن تصدق هذه العبارة أو تكذب، بدليل أ نّك إذا تصوّرت التفّاحة في حال وجود جوهر لها غير ما تدركه منها بحواسّك، ثمّ تصوّرتها في حال عدم وجود هذا الجوهر لم ترَ فرقاً في الصورتين؛ لأنّك سوف لن تجد في كلتا الصورتين إلّا المعطيات الحسّية من اللون والرائحة والنعومة. وما دمنا لم نجد في الصورة التي رسمناها لحال الصدق شيئاً يميّزها من الصورة التي رسمناها لحال الكذب، فالعبارة الفلسفية المذكورة كلام بدون معنىً؛ لأنّه لا يفيد خبراً عن العالم.
وكذلك الأمر في كلّ القضايا الفلسفية التي تعالج موضوعات ميتافيزيقية؛ فإنّها ليست كلاماً مفهوماً؛ لعدم توفّر الشرط الأساسي للكلام المفهوم فيها، وهو:
إمكان وصف الظروف التي يعرف فيها صدق القضية أو كذبها، ولذلك لا يصحّ أن توصف القضية الفلسفية بصدق أو كذب؛ لأنّ الصدق والكذب من صفات الكلام المفهوم، والقضية الفلسفية لا معنىً لها لكي تصدق أو تكذب.
ويمكننا تلخيص النعوت التي تضفيها المدرسة الوضعية على القضايا الفلسفية كما يلي:
1- لا يمكن إثبات القضية الفلسفية؛ لأنّها تعالج موضوعات خارجة عن حدود التجربة والخبرة الإنسانية.
2- ولا يمكن أن نصف الظروف التي إن صحّت كانت القضية صادقة وإلّا فهي كاذبة؛ إذ لا فرق في صورة الواقع بين أن تكذب القضية الفلسفية أو تصدق.

112

للكشف عن العلاقات والروابط بين العلوم، ولوضع نظريات علمية عامّة تعتمد على حصيلة التجربة في مجموع الحقول العلمية، كما أنّ لكلّ علم فلسفته التي تقرّر أساليب البحث العلمي في مجاله الخاصّ.
وفي طليعة تلك المدارس: المادّية الوضعية، والماركسية.

المدرسة الوضعية والفلسفة:

أمّا المدرسة الوضعية في الفلسفة فقد اختمرت بذرتها خلال القرن التاسع عشر الذي ساد فيه الاتّجاه التجريبي فنشأت في ظلّه، ولذلك شنّت هجوماً عنيفاً على الفلسفة ومواضيعها الميتافيزيقية، ولم تكتف برمي الميتافيزيقا الفلسفية بالتّهم التي يوجّهها إليها أنصار المذهب التجريبي عادة، فلم تقتصر على القول:
بأنّ قضايا الفلسفة غير مجدية في الحياة العملية ولا يمكن إثباتها بالاسلوب العلمي، بل أخذ الوضعيون يؤكّدون أ نّها ليست قضايا في العرف المنطقي بالرغم من اكتسابها شكل القضية في تركيبها اللفظي؛ لأنّها لا تحمل معنىً إطلاقاً، وإنّما هي كلام فارغ ولغو من القول، وما دامت كذلك فلا يمكن أن تكون موضوعاً للبحث مهما كان لونه؛ لأنّ الكلام المفهوم هو الجدير بالبحث دون اللغو الفارغ والألفاظ الخاوية.
أمّا لماذا كانت القضايا الفلسفية كلاماً فارغاً لا معنىً له، فهذا يتوقّف على المقياس الذي وضعته المدرسة الوضعية للكلام المفهوم، فهي تقدّر أنّ القضية لا تصبح كلاماً مفهوماً وبالتالي قضية مكتملة في العرف المنطقي إلّاإذا كانت صورة العالم تختلف في حال صدق القضية عنها في حال كذبها، فإذا قلت مثلًا:
(البرد يشتدّ في الشتاء) تجد أنّ العالم الواقعي له صورة معيّنة ومعطيات حسّية خاصّة في حال صدق هذا الكلام، وصورة ومعطيات اخرى في حال كذبه،