کتابخانه
320

تمثّل الطابع الديالكتي له، واقيم على أساس فلسفي متين من مبدأ العلّية وقوانينها (التي خصّصنا الجزء الثالث من هذه المسألة لدراستها)؟!

فإنّ الحوادث في النظرة العامة للكون، لا تعدو أحد أشكال ثلاثة:

فإمّا أن تكون مجموعة من الصدف المتراكمة، بمعنى: أنّ كلّ حادثة توجد باتّفاق بحت دون أن تكون هناك أيّ ضرورة تدعو إلى وجودها. وهذه هي النظرة الاولى.

وإمّا أن تكون أجزاء الطبيعة ضرورية، ضرورة ذاتية، فكلّ واحد منها يوجد بسبب من ضرورته الذاتية دون احتياج إلى شي‏ء خارجي، أو تأثّر به.

وهذه هي النظرة الثانية.

وكلتا هاتين النظرتين لا تنسجمان مع مبدأ العلّية القائل: إنّ كلّ حادثة ترتبط في وجودها بأسبابها، وشروطها الخاصّة؛ لأنّ هذا المبدأ يرفض الصدفة والاتّفاق، كما يرفض الضرورة الذاتية للحوادث. وبالتالي يعيّن نظرة اخرى نحو العالم، وهي النظرة التي يعتبر فيها العالم مرتبطاً ارتباطاً كاملًا طبقاً لمبدأ العلّية وقوانينها، ويحتلّ كلّ جزء منه موضعه الخاصّ من الكون الذي تحتّمه شرائط وجوده وقافلة أسبابه. وهذه هي النظرة الثالثة التي تقيم الميتافيزيقية على أساسها فهمها للعالم. ولأجل ذلك كان سؤال: لماذا وجد؟ أحد الأسئلة الأربعة[1] التي‏

 

[1] والأسئلة الأربعة هي كما يلي: ما هو؟ وهل هو موجود؟ وكيف هو؟ ولماذا وجد؟ ولأجل الإيضاح نطبّق هذه الأسئلة على إحدى الظواهر الطبيعية. فلنأخذ الحرارة لمواجهة هذه الأسئلة فيها: ما هي الحرارة؟ ونعني بهذا السؤال: محاولة شرح مفهومها الخاصّ، فنجيب على ذلك- مثلًا-: أنّ الحرارة نوع من أنواع الطاقة.

وهل الحرارة موجودة في الطبيعة؟ ونجيب بالإيجاب طبعاً.

وكيف هي، أي: ما هي ظواهرها وخواصّها؟ وهذا ما تجيب عنه الفيزياء، فيقال- مثلًا- بأنّ من خواصّها التسخين، والتمديد، والتقليص، وتغيير بعض الصفات الطبيعية للمادّة …

وأخيراً فلماذا وجدت الحرارة؟ ومردّ هذا السؤال إلى الاستفهام، عن عوامل الحرارة وعللها، والشروط الخارجية التي ترتبط بها، فيجاب عنه- مثلًا- أنّ الطاقة الحرارية تستوردها الأرض من الشمس، وتنبثق عنها …

وبهذا تعرف: أنّ المنطق الميتافيزي وضع مسألة ارتباط الشي‏ء بأسبابه وظروفه في مصاف المسائل الرئيسية الاخرى التي تتناول حقيقته ووجوده وخواصّه.( المؤلّف قدس سره)، يراجع شرح المنظومة 1: 183، و 2: 331

319

4- الارتباط العامّ‏

قال ستالين:

«إنّ الديالكتيك- خلافاً للميتافيزية- لا يعتبر الطبيعة تراكماً عرضياً للأشياء، أو حوادث بعضها منفصل عن بعض، أو أحدهما منعزل مستقلّ عن الآخر، بل يعتبر الطبيعة كلًا واحداً متماسكاً، تربط فيه الأشياء والحوادث فيما بينها ارتباطاً عضوياً، ويتعلّق أحدها بالآخر، ويكون بعضها شرطاً لبعض بصورة متقابلة»[1].

فالطبيعة بأجزائها المتنوّعة لا يمكن أن تُدرَس على الطريقة الديالكتيكية حال فصل بعضها عن الآخر، وتجريده عن ظروفه وشروطه، وعمّا يرتبط بواقعه من ماضٍ وحاضر، كما هو شأن الميتافيزيقية التي لا تنظر إلى الطبيعة باعتبارها شبكة ارتباط واتّصال، بل نظرة تجريدية خالصة. فكلّ حادثة لا يكون لها معنىً في المفهوم الديالكتي، إذا عُزِلت عن الحوادث الاخرى المحيطة بها، ودُرِست بصورة ميتافيزيقية تجريدية.

والواقع: أ نّه لو كان يكفي لإسقاط فلسفة ما إلصاق التهم بها دون مبرّر، لكانت الاتّهامات التي تكيلها الماركسية- في خطّها الجديد هذا- للميتافيزيقية، كافية لدحضها، وتفنيد نظرتها الانعزالية إلى الطبيعة، المناقضة لروح الارتباط المكين بين أجزاء الكون. ولكن لتقل لنا الماركسية: مَن كان يشكّ في هذا الارتباط؟! وأيّ ميتافيزيقية هذه التي لا تقرّه، إذا افرزت منه نقاط الضعف التي‏

 

[1] المادّية الديالكتيكية والمادّية التأريخية: 15- 16

318

جديدة، أتاحت له أن يشتري من العامل الثامن كلّ جهده اليومي، فماذا سوف يحدث غير ما كان يحدث على إثر الزيادات الكمّية السابقة، من زيادة في القيمة الفائضة، وفي مستوى المعيشة؟! نعم يحدث للنقد شي‏ء واحد لم يكن قد حدث في المرّات السابقة، شي‏ء يتّصل بالناحية اللفظية فقط، وهو: أنّ هذا النقد لم يكن يتفضّل عليه ماركس بإطلاق لفظ: (رأس المال)، وأمّا الآن فيصحّ أن يُسمّى بهذا اللفظ. أفهذا هو التغيّر النوعي والتحوّل الكيفي الذي يطرأ على النقد؟!. وهل كلّ امتياز هذه المرحلة من النقد عن المراحل السابقة ناحية لفظية خالصة بحيث لو كنّا نطلق لفظ: (رأس المال) على مرحلة سابقة لحدث التغيّر الكيفي في زمان أسبق؟!!

317

إنسان مطلق الحرّية في إطلاقاته ومصطلحاته، فلتكن هذه التسمية صحيحة، ولكن ليس من الصحيح ولا من المفهوم فلسفياً أن يعتبر بلوغ النقد هذا الحدّ الخاصّ تحوّلًا كيفياً له، وقفزة من نوع إلى نوع؛ فإنّ بلوغ النقد إلى هذا الحدّ، لا يعني إلّازيادة كمّية، ولا ينتج عنها تحوّل كيفي في النقد غير ما كان ينتج عن الزيادات الكمّية التدريجية على طول الخطّ.
وإذا شئنا فلنرجع إلى المراحل السابقة من تطوّر النقد؛ لنعاصره في تغيّراته الكمّية المتتالية. فلو أنّ المالك الفردي كان يملك النقد الذي يتيح له أن يجهّز سبعة عمّال بأدواتهم واجورهم، فماذا كان يربح على زعم ماركس؟ إنّه كان يربح قيمة فائضة، تعادل اجور ثلاثة عمّال ونصف، أي: ما يعادل (28) ساعة من العمل في الحسابات الماركسية، ولأجل هذا فهو ليس رأسمالياً؛ لأنّ القيمة الفائضة إذا حوّل نصفها إلى رأس مال، لا يبقى منها ما يضمن له معيشة عامل مضاعفة. فلو افترضنا زيادة كمّية بسيطة في النقد الذي يملكه، بحيث أصبح في إمكان المالك أن يشتري- مضافاً إلى ما كان يملك- جهود نصف يوم لعامل، أخذ يعمل له ستّ ساعات، ولغيره ستّ ساعات اخرى، فهو سوف يربح من هذا العامل نصف ما يربحه من عمل كلّ واحد من العمّال السبعة الآخرين، ومعنى هذا:
أنّ ربحه سوف يعادل (30) ساعة من العمل، وأ نّه سيمكّنه من معيشة أفضل ممّا سبق.
وهنا نكرّر الافتراض، فإنّ في إمكاننا أن نتصوّر المالك وهو يستطيع على إثر زيادة كمّية جديدة في نقده، أن يشتري من العامل الثامن ثلاثة أرباع، ولا يبقى للعامل صلة بمحلّ آخر، إلّابمقدار ثلاث ساعات، فهل نواجه عند هذا غير ما واجهناه عند حدوث التغيّر الكمّي السابق، من زيادة كمّية في الربح، وفي مستوى معيشة المالك؟! فهب أنّ المالك استطاع تضخيم نقده بزيادة كمّية

316

الاعتيادي، مع تحويل نصف القيمة الزائدة المنتجة إلى رأسمال، يتحتّم عليه أن يكون متمكّناً من تشغيل ثمانية عمّال.

وأخيراً علّق ماركس على ذلك قائلًا: وفي هذا كما في العلم الطبيعي تتأيّد صحّة القانون الذي اكتشفه هيجل: قانون تحوّل التغيّرات الكمّية- إذ تبلغ حدّاً معيّناً- إلى تغيّرات نوعية[1].

وهذا المثال الماركسي يدلّنا بوضوح على مدى التسامح الذي تبديه الماركسية في (سرد الأمثلة سرداً عاجلًا) على قوانينها المزعومة. ولئن كان التسامح في كلّ مجال خيراً وفضيلة، فهو في المجال العلمي- وخاصّة عندما يراد استكشاف أسرار الكون؛ لإنشاء عالم جديد على ضوء تلك الأسرار والقوانين- تقصير لا يغتفر.

ولا نريد الآن بطبيعة الحال أن نتناول- فعلًا- المسائل الاقتصادية التي يرتكز عليها المثال، ممّا يتّصل بالقيمة الزائدة، ومفهوم الربح الرأسمالي لدى ماركس، وإنّما يهمّنا التطبيق الفلسفي لقانون (القفزة) على رأس المال. فلنقطع النظر عن سائر النواحي، ونتّجه إلى درس هذه الناحية. فإنّ ماركس يذهب إلى أنّ النقد يمرّ بتغيّرات كمّية بسيطة، تحصل بالتدريج، حتّى إذا بلغ ربحه حدّاً معيّناً، حصل الانقلاب النوعي والتحوّل الكيفي بصورة دفعية، وأصبح النقد رأسمالًا.

وهذا الحدّ هو: ضعف معيشة العامل الاعتيادي، بعد تحويل النصف إلى رأسمال من جديد. وما لم يبلغ هذه الدرجة، لا يوجد فيه التغيّر الكيفي الأساسي، ولا يكون رأسمالًا.

فرأس المال- إذن- لفظ يطلقه ماركس على مقدار معيّن من النقود. ولكل‏

 

[1] ضد دوهرنك: 210

315

إلى بعض، وأمّا في المنظار الحسّي أي: في مفهومنا الذي يوحي به إحساسنا بالحرارة حين نغمس يدنا في الماء، أو إحساسنا بالغاز حين نرى الماء يتحوّل بخاراً، فالحرارة كالغاز حالة كيفية، وهي الحالة التي تبعث في نفوسنا شيئاً من الانزعاج حين تكون الحرارة شديدة فالكيفية تتحوّل إلى كيفية.
وهكذا نجد: أنّ الماء في حرارته وتبخّره لا يمكن أن يعطي مثالًا لتحوّل الكمّية إلى كيفية، إلّاإذا تناقضنا فنظرنا إلى الحرارة بالمنظار العلمي وإلى الحالة الغازية بمنظار حسّي.
ويحسن بنا- أخيراً- أن نختم الحديث عن قفزات التطوّر بما أتحفنا به ماركس- مثالًا له- في كتابه: (رأس المال). فقد ذكر أ نّه ليس كلّ مقدار من النقود قابلًا للتحويل إلى رأسمال اعتباطاً، بل لا بدّ لحدوث هذا التحويل من أن يكون المالك الفردي للنقد حائزاً قبل ذلك على حدّ أدنى من النقود، يفسح له معيشة مضاعفة عن مستوى معيشة العامل الاعتيادي. ويتوقّف ذلك على أن يكون في إمكانه تسخير ثمانية عمّال. وأخذ في توضيح ذلك على أساس مفاهيمه الاقتصادية الرئيسية من القيمة الفائضة، والرأسمال المتحوّل، والرأسمال الثابت. فاستشهد بقضية العامل الذي يشتغل ثماني ساعات لنفسه، أي في إنتاج قيمة اجوره، ويشتغل الساعات الأربع التالية للرأسمالي في إنتاج القيمة الزائدة التي يربحها صاحب المال. ومن المحتّم على الرأسمالي في هذه الحالة أن يكون تحت تصرّفه مقدار من القيم، يكفي لتمكينه من تزويد عاملين بالموادّ الخام، وأدوات العمل، والاجور، بغية أن يمتلك يومياً قيمة زائدة تكفي لتمكينه من أن يقتات بها، كما يقتات أحد عامليه. ولكن بما أنّ هدف الرأسمالي ليس هو مجرّد الاقتيات، بل زيادة الثروة، فإنّ منتجنا هذا سيظلّ بعامليه هذين ليس برأسمالي.
ولكيما يتسنّى له أن يعيش عيشة تكون في مستواها ضعف عيشة العامل‏

314

يتحوّل المجموع. وقد لا يستطيع التحوّل الكيفي أن يشمل المجموع، فيبقى مقصوراً على الأجزاء التي توفّرت فيها الشروط الخارجية للانقلاب. وإذا كان هذا هوكلّ ما يعنيه القانون الديالكتي بالنسبة إلى الطبيعة، فلماذا يجب أن تفرض القفزة في الميدان الاجتماعي على النظام ككلّ؟! ولماذا يلزم في الناموس الطبيعي للمجتمعات أن يهدم الكيان الاجتماعي في كلّ مرحلة بانقلاب دفعي شامل؟! ولماذا لا يمكن أن تتّخذ القفزة الديالكتيكية المزعومة في الحقل الاجتماعي نفس اسلوبها في الحقل الطبيعي، فلا تمسّ إلّاالجوانب التي توفّرت فيها شروط الانقلاب، ثمّ تتدرّج حتّى يتحقّق التحوّل العام في نهاية الأمر؟!
وأخيراً، فإنّ تحوّل الكمّية إلى كيفية لا يمكن أن نطبّقه بأمانة على مثال الماء الذي يتحوّل إلى غاز أو جليد وفقاً لصعود درجة الحرارة فيه وهبوطها كما صنعت الماركسية؛ لأنّ الماركسية اعتبرت الحرارة كمّية والغاز أو الجليد كيفية، فقرّرت أنّ الكمّية في المثال تحوّلت إلى كيفية، وهذا المفهوم الماركسي للحرارة أو للغاز والجليد لا يقوم على أساس؛ لأنّ التعبير الكمّي عن الحرارة الذي يستعمله العلم حين يقول: أنّ درجة حرارة الماء مئة أو خمسة، ليس هو جوهر الحرارة، وإنّما هو مظهر للُاسلوب العلمي في ردّ الظواهر الطبيعية إلى كمّيات؛ ليسهل ضبطها وتحديدها.
فعلى أساس الطريقة العلمية في التعبير عن الأشياء، يمكن أن تعتبر الحرارة كمّية، غير أنّ الطريقة العلمية لا تعتبر الحرارة ظاهرة كمّية فحسب، بل إنّ تحوّل الماء إلى بخار- مثلًا- يتّخذ تعبيراً كمّياً أيضاً، فهو ظاهرة كمّية في اللغة العلمية كالحرارة تماماً؛ لأنّ العلم يحدّد الانتقال من الحالة السائلة إلى الغازية بضغط يمكن قياسه كمّياً، أو بعلاقات وفواصل بين الذرّات تقاس كمّياً كما تقاس الحرارة، ففي المنظار العلمي- إذن- لا توجد في المثال إلّاكمّيات تتحوّل بعضها

313

سائر المركّبات الكيماوية- كما تحاول الماركسية- لأدّى ذلك إلى نتيجة مغايرة لما رمت إليه؛ إذ تصبح القفزات التطوّرية في النظام الاجتماعي، انقلابات منبثقة عن عوامل خارجية، لا عن مجرّد التناقضات المحتواة في نفس النظام، وتزول صفة الحتمية عن تلك القفزات، وتكون غير ضرورية إذا لم تكتمل العوامل الخارجية.
ومن الواضح: أ نّنا كما يمكننا أن نتحفّظ على حالة السيلان للماء، ونبعده عن العوامل التي تجعله يقفز إلى حالة الغازية، كذلك يصبح بالإمكان الحفاظ على النظام الاجتماعي، والابتعاد به عن الأسباب الخارجية التي تكتب عليه الفناء.
وهكذا يتّضح: أنّ تطبيق قانون ديالكتي واحد على التطوّرات الدفعية للماء في غليانه وتجمّده، وعلى المجتمع في انقلاباته، يسجّل نتائج معكوسة لما يترقّب الديالكتيك.
ثانياً- أنّ الحركة التطوّرية في الماء ليست حركة صاعدة، بل هي حركة دائرية يتطوّر فيها الماء إلى بخار، ويعود البخار كما كان، دون أن ينتج عن ذلك تكامل كمّي أو كيفي. فإذا اعتبرت هذه الحركة ديالكتيكية، كان معناه: أ نّه ليس من الضروري أن تكون الحركة صاعدة وتقدّمية دائماً، ولا من المحتوم أن يكون التطوّر الديالكتي في ميادين الطبيعة أو الاجتماع تكاملياً وارتقائياً.
ثالثاً- أنّ نفس القفزة التطوّرية للماء إلى غاز التي حقّقها بلوغ الحرارة درجة معيّنة، لا يجب أن تستوعِب الماء كلّه في وقت واحد؛ فإنّ كلّ إنسان يعلم أنّ البحار والمحيطات تتبخّر كمّيات مختلفة من مياهها تبخّراً تدريجياً، ولا تقفز بمجموعها مرّة واحدة إلى الحالة الغازية. وهذا ينتج أنّ التطوّر الكيفي- في المجالات التي يكون فيها دفعياً- لا يتحتّم أن يتناول الكائن المتطوّر ككلّ، بل قد يبدأ بأجزائه فيقفز بها إلى حالة الغازية، وتتعاقب القفزات وتتكرّر الدفعات حتّى‏

312

عملية الانصهار، حتّى إذا بلغت درجة معيّنة خفّت فيه صلابة الشمع، وبدأ يلين ويسترخي بصورة تدريجية، فلا هو بالصُّلب ولا هو بالسائل، ويتدرّج في حالة الليونة حتّى يستحيل مادّة سائلة.
ولنأخذ مثلًا آخر من الظواهر الاجتماعية، وهو اللغة بوصفها ظاهرة تتطوّر وتتحوّل ولا تخضع لقانون الديالكتيك، فإنّ تأريخ اللغة لا يحدّثنا عن تحوّلات كيفية آنيّة في سيرها التأريخي، وإنّما يعبّر عن تحوّلات تدريجية في اللغة من الناحية الكمّية والكيفية، فلو كانت اللغة خاضعة لقانون القفزات وتحوّل التغيّرات الكمّية التدريجية إلى تغيّر دفعي حاسم، لكنّا نستطيع أن نضع أصابعنا على نقاط فاصلة في حياة اللغة، تتحوّل فيها من شكل إلى شكل نتيجةً للتغيّرات الكمّية البطيئة، وهذا ما لا نجده في كلّ اللغات التي عاشها الإنسان واستخدمها في حياته الاجتماعية.
فنستطيع أن نعرف إذن- على ضوء مجموعة ظواهر الطبيعة- أنّ القفزة والدفعية ليستا ضروريتين للتطوّر الكيفي، وأنّ التطوّر كما يكون دفعياً، يكون تدريجياً أيضاً.
ولنأخذ بعد ذلك المثال المدرسي السابق، مثال الماء في انجماده وغليانه، فنلاحظ عليه:
أوّلًا- أنّ الحركة التطوّرية التي يحتويها المثال، ليست حركة ديالكتيكية؛ لأنّ التجربة لا تبرهن على انبثاقها عن تناقضات المحتوى الداخلي للماء، كما تفرضه تناقضات التطوّر في الديالكتيك. فنحن جميعاً نعلم أنّ الماء لولا الحرارة الخارجية، لبقي ماءً، ولما تطوّر إلى غاز، فلم يتمّ التطوّر الانقلابي للماء- إذن- بصورة ديالكتيكية. فإذا أردنا أن نعتبر القانون الذي يتحكّم في الانقلابات الاجتماعية هو نفس القانون الذي تمّ بموجبه الانقلاب الدفعي في الماء، أو في‏