کتابخانه
338

لإقامة علم طبيعي، لا مبرّر له إلّاقوانين العلّية بصورة عامّة، وقانون التناسب منها بصورة خاصّة، القائل: إنّ كلّ مجموعة متّفقة في حقيقتها، يجب أن تتّفق- أيضاً- في العلل والآثار، فلو لم تكن في الكون علل وآثار، وكانت الأشياء تجري على حسب الاتّفاق البحت، لما أمكن للعالم الطبيعي القول: إنّ ما صحّ في مختبره الخاصّ، يصحّ على كلّ جزء من الطبيعة على الإطلاق.
ولنأخذ لذلك مثالًا بسيطاً، مثال العالم الطبيعي الذي أثبت بالتجربة أنّ الأجسام تتمدّد حال حرارتها، فإنّه لم يحط بتجاربه جميع الأجسام التي يحتويها الكون طبعاً، وإنّما أجرى تجاربه على عدّة أجسام متنوّعة، كعجلات العربة الخشبية التي توضع عليها إطارات حديدية أصغر منها، حال سخونتها، فتنكمش الإطارات إذا بردت وتشتدّ على الخشب، ولنفرض أ نّه كرّر التجربة عدّة مرّات على أجسام اخرى، فلن ينجو في نهاية المطاف التجريبي عن مواجهة هذا السؤال: ما دمتَ لم تستقصِ جميع الجزئيات، فكيف يمكنك أن تؤمن بأنّ إطارات جديدة اخرى غير التي جرّبتها، تتمدّد هي الاخرى- أيضاً- بالحرارة.
والجواب الوحيد على هذا السؤال هو: مبدأ العلّية وقوانينها. فالعقل حيث إنّه لا يقبل الصدفة والاتّفاق، وإنّما يفسّر الكون بالعلّية وقوانينها من الحتمية والتناسب، يجد في التجارب المحدودة الكفاية للإيمان بالنظرية العامة القائلة بتمدّد الأجسام بالحرارة؛ لأنّ هذا التمدّد الذي كشفت عنه التجربة لم يكن صدفة، وإنّما كان حصيلة الحرارة ومعلولًا لها، وحيث أنّ قانون التناسب في العلّية ينصّ على أنّ المجموعة الواحدة من الطبيعة تتّفق في أسبابها ونتائجها وعللها وآثارها، فلا غرو أن تحصل كلّ المبرّرات- حينئذٍ- للتأكيد على شمول ظاهرة التمدّد لسائر الأجسام.
وهكذا نعرف أنّ وضع النظرية العامّة لم يكن ميسوراً دون الانطلاق من‏

337

الراديوم، فنقول: ما دامت جميع ذرّات هذا العنصر متّفقة في الحقيقة، فيجب أن تتّفق في أسبابها ونتائجها، فإذا كشفت التجربة العلمية عن إشعاع في بعض ذرّات الراديوم، أمكن القول باعتباره ظاهرة عامة لسائر الذرّات المماثلة في الظروف المشخّصة الواحدة.
ومن الواضح: أنّ القانونين الأخيرين: الحتمية والتناسب، منبثقان عن مبدأ العلّية، فلو لم تكن في الكون علّية بين بعض الأشياء وبعض، وكانت الأشياء تحدث صدفة واتّفاقاً، لم يكن من الحتمي أن يوجد الإشعاع بدرجة معيّنة حين تكون هناك ذرّة راديوم، ولم يكن من الضروري- أيضاً- أن تشترك جميع ذرّات العنصر في ظواهر إشعاعية معيّنة، بل يصبح من الجائز أن يكون الإشعاع في ذرّة دون اخرى، لا لشي‏ء إلّاللصدفة والاتّفاق، ما دام مبدأ العلّية خارجاً عن حساب الكون. فمردّ الحتمية والتناسب معاً إلى مبدأ العلّية.
ولنعد الآن- بعد أن عرفنا الفقرات الرئيسية الثلاث: العلّية، والحتمية، والتناسب- إلى العلوم والنظريات العلمية، فإنّنا سوف نجد بكلّ وضوح: أنّ جميع النظريات والقوانين التي تزخر بها العلوم، مرتكزة في الحقيقة على اساس تلك الفقرات الرئيسية، وقائمة على مبدأ العلّية وقوانينها. فلو لم يؤخذ هذا المبدأ كحقيقة فلسفية ثابتة، لما أمكن أن تقام نظرية، ويشاد قانون علمي له صفة العموم والشمول؛ ذلك أنّ التجربة التي يقوم بها العالم الطبيعي في مختبره، لا يمكن أن تستوعب جميع جزئيات الطبيعة، وإنّما تتناول عدّة جزئيات محدودة متّفقة في حقيقتها، فتكشف عن اشتراكها في ظاهرة معيّنة، وحيث يتأكّد العالم من صحّة التجربة ودقّتها وموضوعيتها، يضع فوراً نظريته أو قانونه العام الشامل لجميع ما يماثل موضوع تجربته من أجزاء الطبيعة. وهذا التعميم الذي هو شرط أساسي‏

336

أوّلي لا يحتاج إلى دليل، أي: إلى علم سابق. وهو النقطة الفاصلة بين المثالية والواقعية.
الثالثة- أنّ العلم بوجود واقع موضوعي لهذاالحسّ أو ذاك، إنّما يكتسب على ضوء مبدأ العلّية.

[2-] العلّية والنظريات العلمية:

إنّ النظريات العلمية في مختلف ميادين التجربة والمشاهدة، تتوقّف بصورة عامّة على مبدأ العلّية وقوانينها توقّفاً أساسياً. وإذا سقطت العلّية ونظامها الخاصّ من حساب الكون، يصبح من المتعذّر تماماً تكوين نظرية علمية في أيّ حقل من الحقول. وليتّضح هذا نجد من الضروري أن نشير إلى عدّة قوانين من المجموعة الفلسفية للعلّية التي يرتكز عليها العلم، وهي كما يلي:
أ- مبدأ العلّية القائل: إنّ لكلّ حادثة سبباً.
ب- قانون الحتمية القائل: إنّ كلّ سبب يولّد النتيجة الطبيعية له بصورة ضرورية، ولا يمكن للنتائج أن تنفصل عن أسبابها.
ج- قانون التناسب بين الأسباب والنتائج، القائل: إنّ كلّ مجموعة متّفقة في حقيقتها من مجاميع الطبيعة، يلزم أن تتّفق- أيضاً- في الأسباب والنتائج.
فعلى ضوء مبدأ العلّية نعرف- مثلًا- أنّ الإشعاع الذي ينبثق عن ذرّة الراديوم له سبب، وهو: الانقسام الداخلي في محتوى الذرّة. وعلى ضوء قانون الحتمية، نستكشف أنّ هذا الانقسام عند استكمال الشروط اللازمة، يولّد الإشعاع الخاصّ بصورة حتمية، وليس من الممكن الفصل بينهما. وعلى أساس قانون التناسب نستطيع أن نعمّم ظاهرة الإشعاع، وتفسيرها الخاصّ لجميع ذرّات‏

335

ولكن المسألة التي تواجهنا حينئذٍ، هي: أنّ الإحساس إذا لم يكن بذاته دليلًا على وجود المحسوس خارج حدود الشعور والإدراك، فكيف نصدّق- إذن- بالواقع الموضوعي؟
والجواب جاهز على ضوء دراستنا لنظرية المعرفة، وهو: أنّ التصديق بوجود واقع موضوعي للعالم تصديق ضروري أوّلي، فهو لأجل ذلك لا يحتاج إلى دليل، ولكن هذا التصديق الضروري إنّما يعني وجود واقع خارجي للعالم على سبيل الإجمال. وأمّا الواقع الموضوعي لكلّ إحساس، فهو ليس معلوماً علماً ضرورياً. وإذن فنحتاج إلى دليل لإثبات موضوعية كلّ إحساس بصورة خاصّة، وهذا الدليل هو: مبدأ العلّية وقوانينها؛ ذلك أنّ حدوث صورة لشي‏ء معيّن في ظروف وشروط معيّنة، يكشف عن وجود علّة خارجية له، تطبيقاً لذلك المبدأ.
فلولا هذا المبدأ لما كشف الإحساس، أو وجود الشي‏ء في الحسّ عن وجوده في مجال آخر. ولأجل هذا السبب قد يحسّ الإنسان بأشياء، أو يُخيّل له أ نّه يبصرها في حالات مرضية خاصّة، ولا يستكشف من ذلك واقعاً موضوعاً لتلك الأشياء؛ حيث إنّ تطبيق مبدأ العلّية لا يدلّل على وجود هذا الواقع ما دام يمكن تعليل الإحساس بالحالة المرضية الخاصّة، وإنّما يثبت الواقع الموضوعي للحسّ فيما إذا لم يكن له تفسير على ضوء مبدأ العلّية، إلّابواقع موضوعي ينشأ الإحساس منه.
ويستنتج من ذلك القضايا الثلاث الآتية:
الاولى- أنّ الإحساس وحده لا يكشف عن وجود واقع موضوعي؛ لأنّه تصوّر، وليس من وظائف التصوّر- بمختلف ألوانه- الكشف التصديقي.
الثانية- أنّ العلم بوجود واقع للعالم على سبيل الإجمال، حكم ضروري‏

334

[القضايا المبتنية على مبدأ العلّيّة]

وعلى أساس مبدأ العلّية يتوقّف:

أوّلًا- إثبات الواقع الموضوعي للإحساس.

ثانياً- كلّ النظريات، أو القوانين العلمية المستندة إلى التجربة.

ثالثاً- جواز الاستدلال وإنتاجه في أيّ ميدان من الميادين الفلسفية أو العلمية.

فلولا مبدأ العلّية وقوانينها، لما أمكن إثبات موضوعية الإحساس، ولا شي‏ء من نظريات العلم وقوانينه، ولما صحّ الاستدلال بأيّ دليل كان في مختلف مجالات المعرفة البشرية[1]. وفيما يلي توضيح ذلك:

[1-] العلّية وموضوعية الإحساس:

سبق أن أوضحنا في نظرية المعرفة: أنّ الحسّ لا يعدو أن يكون لوناً من ألوان التصوّر. فهو وجود لصورة الشي‏ء المحسوس في مدارك الحسّ، ولا يملك صفة الكشف التصديقي عن واقع خارجي، ولذلك قد يحسّ الإنسان بأشياء في حالات مرضية ولا يصدّق بوجودها. فالإحساس- إذن- ليس سبباً كافياً للتصديق أو الحكم، أو العلم بالواقع الموضوعي.

 

[1] قلنا سابقاً: إنّه رحمه الله انتهى إلى إمكان تفسير الجزء الأكبر من المعارف البشريّة على أساس الدليل الاستقرائي في ضوء المذهب الذاتي للمعرفة، وقد جاء تفصيل ذلك في القسم الرابع من كتابه( الاسس المنطقيّة للاستقراء) فراجع.( لجنة التحقيق)

333

إنّ من أوّليات ما يدركه البشر في حياته الاعتيادية، (مبدأ العلّية) القائل:

إنّ لكلّ شي‏ء سبباً. وهو من المبادئ العقلية الضرورية[1]؛ لأنّ الإنسان يجد في صميم طبيعته الباعث الذي يبعثه إلى محاولة تعليل ما يجد من أشياء، وتبرير وجودها باستكشاف أسبابها. وهذا الباعث موجود بصورة فطرية في الطبيعة الإنسانية، بل قد يوجد عند عدّة أنواع من الحيوان أيضاً. فهو يلتفت إلى مصدر الحركة غريزياً؛ ليعرف سببها، ويفحص عن منشأ الصوت؛ ليدرك علّته. وهكذا يواجه الإنسان- دائماً- سؤال: لماذا …؟ مقابل كلّ وجود وظاهرة يحسّ بهما، حتّى إنّه إذا لم يجد سبباً معيّناً، اعتقد بوجود سبب مجهول انبثق عنه الحادث.

 

[1] أشرنا سابقاً إلى أنّ السيّد المؤلّف قدس سره توصّل في كتابه( الاسس المنطقيّة للاستقراء) إلى إمكان الاستدلال على قوانين العلّيّة بالطريقة الاستقرائيّة في ضوء المذهب الذاتي للمعرفة، حتّى لو استبعدنا العلم العقلي القبلي بها. راجع مناقشته رحمه الله للاتّجاه الأوّل من اتّجاهات المذهب التجريبي في الكتاب المذكور.( لجنة التحقيق)

332

331

المفهوم الفلسفي للعالم‏
3

مبدأ العلّيّة

القضايا المبتنية على مبدأ العلّيّة.
لماذا تحتاج الأشياء إلى علّة؟
التعاصر بين العلّة والمعلول.

330

والحيوان، فسوف لن نصل إلى نتيجة ديالكتيكية أيضاً؛ لأنّ الصراع بين البيئة والجهاز العضوي لا يسفر عن التحامهما وتوحّدهما في مركّب أرقى، وإنّما تظلّ الاطروحة والطباق دون تركيب. فالضدّان المتصارعان هنا- البيئة والحيوان- وإن كانا موجودين معاً في نهاية المعركة، ولا يضمحلّ أحدهما خلال الصراع، ولكنّهما لا يتوحّدان في مركّب جديد كما تتوحّد الطبقة الرأسمالية والطبقة العاملة في مركّب اجتماعي جديد.

وأخيراً، فأين الدفعية؟ وأين التكامل في التطوّر البيولوجي عند داروين؟

فإنّ الديالكتيك يؤمن بأنّ التحوّلات الكيفية تحصل بصورة دفعية خلافاً للتغيّرات الكمّية التي تنمو ببطء، كما أ نّه يؤمن أنّ الحركة في اتّجاه متكامل وصاعد دائماً، ونظرية داروين أو فكرة التطوّر البيولوجي تبرهن على إمكان العكس تماماً، فقد بيّن علماء البيولوجيا: بأنّ في الطبيعة الحيّة حالات انتقال تدريجية، كما أنّ فيها حالات انتقال بشكل قفزات مفاجئة[1] كما أنّ التفاعل الذي يحدّده داروين بين الكائن الحيّ والطبيعة ليس من الضروري فيه أن يضمن تكامل الكائن المتطوّر، بل قد يفقد بسبب ذلك شيئاً ممّا كان قد حصل عليه من الكمال طبقاً للقوانين التي يحدّدها في نظريّته للتفاعل بين الحياة والطبيعة، كالحيوانات التي اضطرّت منذ أبعد الآماد إلى العيش في الكهوف وترك حياة النور، ففقدت بصرها في رأي داروين بسبب تفاعلها بمحيطها الخاصّ، وعدم استعمالها لعضو الإبصار في مجالاتها المعيشية، وبذلك أدّى التطوّر في التركيب العضوي إلى الانحطاط، خلافاً للماركسية التي تعتقد أنّ العمليات التطوّرية المترابطة في الطبيعة المنبثقة عن تناقضات داخلية تستهدف التكامل دائماً؛ لأنّها عمليات تقدّمية صاعدة.

 

[1] الروح الحزبية في الفلسفة والعلوم: 44