کتابخانه
426

شي‏ء من التفسير. وهو الذي عاق التفكير الاوروبي الحديث- على الأغلب- عن الأخذ بفكرة الازدواج بعد أن رفض التفسير الأفلاطوني القديم للعلاقة بين الروح والجسم بوصفها علاقة بين قائد وعربة يسوقها، فقد كان أفلاطون يتصوّر أنّ الروح جوهر قديم مجرّد عن المادّة يعيش في عالم وراء دنيا المادّة، ثمّ يهبط إلى البدن ليدبّره كما يهبط السائق من منزله ويدخل العربة ليسوقها ويدبّر أمرها[1].

وواضح: أنّ هذه الثنائية الصريحة والهوّة الفاصلة بين الروح والجسم في تفسير أفلاطون لا تصلح لتفسير العلاقة الوثيقة بينهما التي تجعل كلّ إنسان يشعر بأ نّه كيان موحّد، وليس شيئين من عالَمين مستقلّين التقيا على ميعاد.

وقد ظلّ التفسير الأفلاطوني قاصراً عن حلّ المشكلة بالرغم من التعديلات التي اجريت على التفسير الأفلاطوني من قِبل أرسطو بإدخال فكرة الصورة والمادّة، ومن قِبل ديكارت الذي جاء بنظرية الموازنة بين العقل والجسم القائلة: بأنّ العقل والجسم- الروح والجسد- يسيران على خطّين متوازيين، وكلّ حادث يقع في أحدهما يصاحبه حادث يقابله يقع في الآخر، وهذا التلازم بين الأحداث العقلية والجسمية لا يعني أنّ أحدهما سبب للآخر؛ إذ لا معنى للتأثير المتبادل بين شي‏ء مادّي وآخر غير مادّي، بل إنّ هذا التلازم بين النوعين من الأحداث مردّه إلى العناية الإلهية التي شاءت أن يصاحب الإحساس بالجوع- دائماً- حركة اليد لتناول الطعام دون أن يكون الإحساس سبباً للحركة[2].

ومن الواضح: أنّ نظرية الموازنة هذه تعبير جديد عن ثنائية أفلاطون،

 

[1] يراجع أفلاطون، فالتزر، ت: لجنة ترجمة دائرة المعارف الإسلاميّة: 55

[2] راجع: قصّة الفلسفة الحديثة 1: 81- 83، وموسوعة الفلسفة 1: 497، والموسوعة الفلسفيّة المختصرة: 192- 193

425

الجانب الروحي من الإنسان‏

ونصل هنا إلى نتيجة خطيرة، وهي: أنّ للإنسان جانبين: أحدهما مادّي يتمثّل في تركيبه العضوي، والآخر روحي لامادّي، وهو مسرح النشاط الفكري والعقلي، فليس الإنسان مجرّد مادّة معقّدة، وإنّما هو مزدوج الشخصية من عنصر مادّي، وآخر لامادّي.
وهذا الازدواج يجعلنا نجابه موقفاً عسيراً في سبيل استكشاف نوعية العلاقة والصلة بين الجانبين المادّي والروحي من الإنسان، ونحن نعلم قبل كلّ شي‏ء: أنّ العلاقة بينهما وثيقة حتّى إنّ أحدهما يؤثّر في الآخر باستمرار: فإذا خُيّل إلى شخص أ نّه يرى شبحاً في الظلام، اعترته قشعريرة، وإذا كتب على شخص أن يخطب في حفل عام، أخذ العرق يتصبّب منه، وإذا بدأ أحدنا يفكّر، حدث نشاط خاصّ في جهازه العصبي، فهذا أثر العقل أو الروح في الجسم، كما أنّ للجسم أثره في العقل، فإذا دبّت الشيخوخة في الجسد، وهن النشاط العقلي، وإذا أفرط شارب الخمر في السكر قد يرى الشي‏ء شيئين.
فكيف يتاح للجسم والعقل أن يؤثّر أحدهما في الآخر إذا كانا مختلفين لا يشتركان في صفة من الصفات؟ فالجسم قطعة من المادّة له خصائصها من ثقل وكتلة وشكل وحجم، وهو يخضع لقوانين الفيزياء. وأمّا العقل- أو الروح- فهو موجود غير مادّي ينتسب إلى عالم وراء عالم المادّة، ومع هذه الهوّة الفاصلة يصعب تفسير التأثير المتبادل بينهما. فقطعة من الحجارة يمكن أن تسحق نبتة في الأرض؛ لأنّهما معاً مادّيان، وقطعتان من الحجر يمكن أن تصطكّا وتتفاعلا. وأمّا أن يحدث الاصطكاك والتفاعل بين موجودين من عالمين فهذا ما يحتاج إلى‏

424

ولكن المسألة الفلسفية الاخرى التي تنبثق ممّا سبق، هي: أنّ الإدراكات والصور التي تتشكّل منها حياتنا العقلية إذا لم تكن صوراً قائمة بعضوٍ مادّي، فأين هي قائمة إذن؟ وهذا السؤال هو الذي دعا إلى استكشاف حقيقة فلسفية جديدة، وهي: أنّ تلك الصور والإدراكات تجتمع أو تتتابع كلّها على صعيد واحد، هو: صعيد الإنسانية المفكّرة، وليست هذه الإنسانية المفكّرة شيئاً من المادّة، كالدماغ أو المخّ، بل هي درجة من الوجود مجرّدة عن المادّة، يصلها الكائن الحيّ في تطوّره وتكامله. فالمدرِك والمفكّر هو هذه الإنسانية اللامادّية.
ولكي يتّضح الدليل على ذلك بكلّ جلاء يجب أن نعلم أ نّا بين ثلاثة فروض:
إحداها أنّ إدراكنا لهذه الحديقة أو لذلك النجم صورة مادّية قائمة بجهازنا العصبي، وهذا ما نبذناه، ودلّلنا على رفضه.
وثانيها أنّ إدراكاتنا ليست صوراً مادّية، بل هي صور مجرّدة عن المادّة، وموجودة بصورة مستقلّة عن وجودنا. وهذا افتراض غير معقول أيضاً؛ لأنّها إذا كانت موجودة بصورة مستقلّة عنّا، فما هي صلتنا بها؟! وكيف أصبحت إدراكات لنا؟!
وإذا نفضنا يدينا من هذا وذاك، ولم يبقَ لدينا إلّاالتفسير الثالث للموقف، وهو: أنّ تلك الإدراكات والصور العقلية ليست مستقلّة في وجودها عن الإنسان، كما أ نّها ليست حالة أو منعكسة في عضو مادّي، وإنّما هي ظواهر مجرّدة عن المادّة، تقوم بالجانب اللامادّي من الإنسان. فهذه الإنسانية اللامادّية (الروحية) هي التي تدرك وتفكّر، لا العضو المادّي، وإن كان العضو المادّي يهيّئ لها شروط الإدراك؛ للصلة الوثيقة بين الجانب الروحي والجانب المادّي من الإنسان.

423

الصورة المادّية المنعكسة. وهذا يبرهن بوضوح على أنّ العقل والإدراك ليس مادّياً، وأنّ الصورة المدرَكة ميتافيزيقية.
ومن الواضح: أنّ هذا التفسير الفلسفي لظاهرة الثبات لا يتعارض مع أيّ تفسير علمي لها يمكن أن يقدّم في هذا المضمار. فيمكنك أن تفسّر الظاهرة بأنّ ثبات الموضوعات المدرَكة- في مظاهرها المختلفة- يرجع إلى الخبرة والتعلّم، كما يمكنك إن شئت أن تقول- في ضوء التجارب العلمية- إنّ هناك علاقات محدّدة بين الثبات في مختلف مظاهره، والتنظيم المكاني للموضوعات الخارجية التي ندركها؛ فإنّ هذا لا يعني حلّ المشكلة من ناحية فلسفية؛ إذ أنّ الصورة المبصرة- التي لم تتغيّر طبقاً للصورة المادّية، بل ظلّت ثابتة بفضل خبرة سابقة، أو بحكم تنظيمات مكانية خاصّة- لا يمكن أن تكون هي الصورة المنعكسة عن الواقع الموضوعي على مادّة الجهاز العصبي؛ لأنّ هذه الصورة المنعكسة تتغيّر تبعاً لزيادة البعد بين العين والواقع، وتلك الصورة المبصرة ثابتة.
والنتيجة الفلسفية التي نخرج بها من هذا البحث هي: أنّ الإدراك ليس مادّياً، كما تزعم الفلسفة المادّية؛ لأنّ مادّية الشي‏ء تعني أحد أمرين: إمّا إنّه بالذات مادّة، وإمّا إنّه ظاهرة قائمة بالمادّة. والإدراك ليس بذاته مادّة، ولا هو ظاهرة قائمة بعضوٍ مادّي كالدماغ، أو منعكسة عليه؛ لأنّه يختلف في القوانين التي تسيطر عليه عن الصورة المادّية المنعكسة على العضو المادّي، فهو يملك من الخصائص الهندسية أوّلًا، ومن الثبات ثانياً، ما لا تملكه أيّ صورة مادّية منعكسة على الدماغ. وعلى هذا الأساس تؤمن الميتافيزيقية بأنّ الحياة العقلية- بما تزخر به من إدراكات وصور- أثرى ألوان الحياة وأرقاها؛ لأنّها حياة ترتفع عن مستوى المادّة وخصائصها.

422

لأنّ ذلك لا يهمّ البحث الفلسفي، فلنأخذ بها كمسلّمة علمية، ولنفترض أ نّها صحيحة؛ فإنّ هذا الافتراض لا يغيّر من موقفنا الفلسفي شيئاً، كما يظهر ذلك في ضوء ما قدّمناه من تحديدات للدراسة الفلسفية في بحوث النفس؛ إذ أنّ مؤدّى النظرية هو: أنّ الصورة العقلية المدرَكة بخصائصها الهندسية، وطولها وعرضها وعمقها، لم توجد بسبب الإحساس البصري البسيط فحسب، بل بالتعاون مع إحساسات بصرية، وحركات عضلية اخرى، اكتسبت مدلولًا هندسياً بارتباطها باللمس واقترانها معه في التجارب المتكرّرة، وسوف نواجه بعد التسليم بهذا نفس السؤال الفلسفي الأوّل، وهو السؤال عن هذه الصورة العقلية التي كوّنها الإحساس البصري بالاشتراك مع أحاسيس وحركات اخرى، أين توجد؟ وهل هي صورة مادّية قائمة في عضوٍ مادّي، أو صورة ميتافيزيقية مجرّدة عن المادّة؟ ومرّة اخرى نجد أنفسنا مضطرّين إلى الأخذ بوجهة النظر الميتافيزيقي؛ لأنّ هذه الصورة بخصائصها وامتدادها آلاف الأمتار لا يمكن أن توجد في عضوٍ مادّي صغير، كما لا يمكن أن توجد على ورقة صغيرة، فيجب- إذن- أن تكون صورة مجرّدة عن المادّة.
هذا ما يتّصل بظاهرة الخصائص الهندسية للصورة العقلية المدرَكة.
وأمّا الظاهرة الثانية التي يتاح لمفهومنا الفلسفي أن يرتكز عليها، فهي ظاهرة الثبات، ونعني بها: إنّ الصورة العقلية المدرَكة تميل إلى الثبات، ولا تتغيّر طبقاً لتغيّرات الصورة المنعكسة على الجهاز العصبي. فهذا قلم إذا وضعناه على بعد متر واحد منّا، انعكست عنه صورة ضوئية خاصّة، وإذا ضاعفنا المسافة التي تفصلنا عنه، ونظرنا إليه على بعد مترين، فإنّ الصورة التي يعكسها سوف تقلّ إلى نصف ما كانت عليه في حالتها الاولى، مع أنّ إدراكنا لحجم القلم لن يتغيّر تغيّراً يذكر، أي: أنّ الصورة العقلية للقلم التي نبصرها تبقى ثابتة بالرغم من تغيّر

421

الميتافيزيقي للإدراك.
وقد يخطر هنا على بعض الأذهان أنّ مسألة إدراك الصورة في أشكالها، وحجومها، وأبعادها، ومسافاتها، قد أجاب عليها العلم، وعالجتها البحوث السيكولوجية؛ إذ أوضحت أنّ هناك عدّة عوامل بصرية وعضلية تساعدنا على إدراك تلك الخصائص الهندسية.
فحاسّة البصر لا تدرك سوى الضوء واللون، وأمّا إدراك الخصائص الهندسية للأشياء، فهو يتوقّف على ارتباط اللمس بحركات وأحاسيس خاصّة.
فلو جرّدنا الإحساس البصري عن كلّ إحساس آخر، لبدت لنا نقاط من الضوء واللون فحسب، ولما اتيح لنا إدراك الأشكال والحجوم، حتّى إنّا كنّا نعجز عن التمييز بين كرة ومكعّب؛ وذلك لأنّ الكيفيات الأوّلية والأشكال من مدركات اللمس، وبتكرار التجربة اللمسية ينشأ تقارن بين مدركات اللمس من تلك الكيفيات، وبين عدّة من الإحساسات البصرية كاختلافات خاصّة في الأضواء والألوان المبصرة، وعدّة من الحركات العضلية كحركة تكييف العين لرؤية الأشياء القريبة والبعيدة، وحركة التلاقي في حالة الإبصار بالعينين. وبعد أن ينشأ هذا التقارن يمكننا أن نستغني في إدراك الحجوم والأشكال عن الإحساسات اللمسية بما اقترن بها من إحساسات وحركات عضلية. فإذا أبصرنا كرة بعد هذا، استطعنا أن نحدّد شكلها وحجمها دون أن نلمسها، اعتماداً على الإحساسات والحركات العضلية التي اقترنت بمدركات اللمس.
وهكذا ندرك أخيراً الأشياء بخصائصها الهندسية، لا بالإحساس البصري فحسب، بل بالإبصار مع ألوان اخرى من حركات حسّية، أصبحت ذات مدلول هندسي بسبب اقترانها بمدركات اللمس، غير أنّ العادة لا تجعلنا نشعر بذلك.
ونحن لا نريد أن ندرس نظرية العوامل العضلية والبصرية من ناحية علمية؛

420

الشعرى المحلّقة في السماء، أي: الواقع الموضوعي للنجم.
ويبقى في حسابنا بعد ذلك الافتراضان الأخيران: فالافتراض الثاني- القائل: إنّ الصورة المدرَكة نتاج مادّي قائم بعضو الإدراك في الجهاز العصبي- هو الذي يحدّد المذهب الفلسفي للمادّية. والافتراض الثالث- القائل: إنّ الصورة المدرَكة أو المحتوى العقلي لعملية الإدراك لا توجد في المادّة، وإنّما هي لون من الوجود الميتافيزيقي، خارج العالم المادّي- هو الذي يمثّل المذهب الفلسفي للميتافيزيقية.
وفي هذه المرحلة من البحث يمكننا أن نستبعد الافتراض المادّي استبعاداً نهائياً؛ وذلك لأنّ الصورة المدرَكة بحجمها وخصائصها الهندسية، وامتدادها طولًا وعرضاً، لا يمكن أن توجد في عضوٍ مادّي صغير في الجهاز العصبي. فنحن وإن كنّا نعتقد أنّ الأشعّة الضوئية تنعكس على الشبكية، وتتصوّر في صورة خاصّة، ثمّ تنتقل في أعصاب الحسّ إلى الدماغ، فتنشأ في موضع محدّد منه صورة مماثلة للصورة التي حدثت على الشبكية … ولكن هذه الصورة المادّية غير الصورة المدرَكة في عقلنا؛ لأنّها لا تملك ما تملكه الصورة المدرَكة من خصائص هندسية.
فكما أنّ الحديقة التي أدركناها في نظرة واحدة لا يمكن أن نأخذ عنها صورة فوتوغرافية موازية لها في السعة والشكل والامتداد على ورقة مسطّحة صغيرة، كذلك لا يمكن أن نأخذ عنها صورة عقلية أو إدراكية- تحاكيها في سعتها، وشكلها، وخصائصها الهندسية- على جزء ضئيل من المخّ؛ لأنّ انطباع الكبير في الصغير مستحيل.
وإذن فيصبح من الضروري أن نأخذ بالافتراض الثالث، وهو: أنّ الصورة المدرَكة- التي هي المحتوى الحقيقي للعملية العقلية- صورة ميتافيزيقية، موجودة وجوداً مجرّداً عن المادّة، وهذا هو كلّ ما يعنيه المفهوم الفلسفي‏

419

الموضوعي بالذات، أو صورة مادّية تقوم بعضو مادّي خاصّ في جهازنا العصبي، أو لا هذا ولا ذاك، بل صورة مجرّدة عن المادّة، تماثل الواقع الموضوعي وتحكي عنه؟

أمّا أنّ الحديقة بواقعها الخارجي هي الصورة المتمثّلة في إدراكنا العقلي، فقد كانت تنادي بذلك نظرية قديمة في الرؤية، تفترض أنّ الإنسان يدرك الواقع الموضوعي للأشياء نفسه، بسبب خروج شعاع خاص من العين، ووقوعه على المرئي، ولكن هذه النظرية سقطت- أوّلًا- من الحساب الفلسفي؛ لأنّ خداع الحواسّ الذي يجعلنا ندرك صوراً معيّنة على أشكال خاصّة لا واقع لها، يبرهن على أنّ الصورة المدرَكة ليست هي الواقع الموضوعي، وإلّا فما هو الواقع الموضوعي المدرَك في الإدراكات الحسّية الخادعة؟! وسقطت- ثانياً- من الحساب العلمي؛ إذ أثبت العلم أنّ الأشعّة الضوئية تنعكس من المرئيات على العين لا من العين عليها، وأ نّا لا نملك من الأشياء المرئية إلّاالأشعّة المنعكسة منها على الشبكية. حتّى لقد أثبت العلم أنّ رؤيتنا للشي‏ء قد تحدث بعد انعدام ذلك الشي‏ء بسنين. فنحن لا نرى الشعرى في السماء- مثلًا- إلّاحين تصل الموجات الضوئية الصادرة عن الشعرى‏[1] إلى الإرض بعد عدّة سنين من انطلاقها عن مصدرها، فتقع على شبكية العين، فنقول: نحن نرى الشعرى، غير أنّ هذه الموجات الضوئية التي تؤدّي بنا إلى رؤية الشعرى إنّما تنبئنا عنها كما كانت قبل عدّة سنين. ومن الجائز أن تكون الشعرى قد انعدمت من السماء قبل رؤيتنا لها بأمد طويل، وهذا يبرهن علمياً على أنّ الصورة التي نحسّ بها الآن ليست هي‏

 

[1] الشِعرَى: الكوكب الذي يطلع في الجوزاء، وطلوعه في شدّة الحرّ.( المنجد في اللغة)( لجنة التحقيق)

418

الإدراك في مفهومه الفلسفي‏

لنبدأ الآن بدراستنا الفلسفية للإدراك- بعد أن أوضحنا مغزاها وصلاتها بمختلف الدراسات العلمية- طبقاً للمنهج الفلسفي في الدراسات النفسية، والذي يتلخّص- كما ألمعنا إليه سابقاً- في أخذ الحقائق العلمية والمسلّمات التجريبية، وبحثها على ضوء القوانين والاصول المقرّرة في الفلسفة؛ لاستنتاج حقيقة جديدة وراء ما كشفت عنه التجارب من حقائق.
ولنأخذ الإدراك العقلي للصورة المبصرة، نموذجاً حياً للحياة العقلية العامة التي تتصارع حول تفسيرها الفلسفتان: الميتافيزية، والمادّية، فمفهومنا الفلسفي للإدراك يرتكز:
أوّلًا- على الخصائص الهندسية للصورة المدرَكة.
ثانياً- على ظاهرة الثبات في عمليات الإدراك البصري.
أمّا الأوّل، فنبدأ فيه من حقيقة بدهية نأخذها من حياتنا اليومية ومختلف تجاربنا الاعتيادية، وهي: أنّ الصورة التي تتحفنا بها العملية العقلية للإدراك البصري تحتوي على الخصائص الهندسية: من الطول، والعرض، والعمق، وتبدو بمختلف الأشكال والحجوم. فلنفرض أ نّنا زرنا حديقة تمتدّ آلاف الأمتار، وألقينا عليها نظرة واحدة، استطعنا فيها أن ندرك الحديقة كلًا متماسكاً، تبدو فيه النخيل، والأشجار، وبركة الماء الكبيرة، وألوان الحياة المتدفّقة في الأزهار والأوراد، والكراسي الموضوعة بانتظام حول بركة الماء، والبلابل، والطيور التي تشدو على الأغصان. والسؤال الذي يعترضنا حول هذه الصورة الرائعة التي أدركناها بنظرة مستوعبة هو: ما هي هذه الصورة التي ندركها؟ وهل هي نفس الحديقة وواقعها