کتابخانه
129

والمعلومات العقلية الأوّلية أو الثانوية التي تكتسب بمراعاة الاصول المنطقية، هي حقائق ذات قيمة قاطعة. ولذا أجاز في البرهان- الدليل القاطع في مصطلحه المنطقي- استعمال المحسوسات والمعقولات معاً.

وقامت بعد ذلك محاولة للتوفيق بين الاتّجاهين المتعارضين: بين الاتّجاه الذي يجنح إلى الإنكار القاطع وهو السفسطة، والاتّجاه الذي يؤكّد على الإثبات وهو اتّجاه المنطق الأرسطي. وكانت هذه المحاولة تتمثّل في مذهب الشكّ الذي يعتبر (بيرون) من المبشّرين الأساسيين به.

وتُعرَف عن (بيرون) حججه العشر على ضرورة الشكّ المطلق، فكلّ قضية في نظره تحتمل قولين، ويمكن إيجابها وسلبها بقوّة متعادلة[1].

ولكن مذهب اليقين سيطر أخيراً على الموقف الفلسفي، وتربّع العقل على عرشه الذي أقعده عليه (أرسطو) يحكم ويقرّر مقيّداً بمقاييس المنطق، وخمدت جذوة الشكّ طيلة قرون حتّى حوالي القرن السادس عشر؛ إذ نشطت العلوم الطبيعية، واكتشفت حقائق لم تكن بالحسبان وخاصّة في الهيئة ونظام الكون العامّ. وكانت هذه التطوّرات العلمية بمثابة قوّة الجدل في العصر اليوناني، فبعثت مذاهب الشكّ والإنكار من جديد، واستأنفت نشاطها بأساليب متعدّدة، وقام الصراع بين اليقينيين أنفسهم في حدود اليقين الذي يجب أن يعتمد عليه الإنسان.

وفي هذا الجوّ المشبع بروح الشكّ والتمرّد على سلطان العقل نبغ (ديكارت)، وطلع على العالم بفلسفة يقينية كان لها تأثير كبير في إرجاع التيّار الفلسفي حدّاً ما إلى اليقين.

 

[1] راجع تاريخ الفلسفة اليونانيّة: 235، يوسف كرم

128

[أهمّ المذاهب الفلسفيّة في قيمة المعرفة]

1- آراء اليونان:

اجتاحت التفكير اليوناني موجة من السفسطة في القرن الخامس قبل الميلاد، في عصر راجت فيه طريقة الجدل في ميادين الخطابة والمحاماة، وتضاربت فيه الآراء الفلسفية والفرضيات غير التجريبية تضارباً شديداً، ولم يكن الفكر الفلسفي قد تبلور، ولم يبلغ درجة عالية من الرشد العقلي، فكان هذا الصراع والتضارب بين المتناقضات الفلسفية سبباً لبلبلة فكرية وارتياب جَذري.

وكانت مَلَكَة الجدل تغذّي ذلك بما تُلهم أبطالها الجدليين من شبهات وأقيسة خاطئة، أنكروا على أساسها العالم برفض جميع الركائز الفكرية للإنسان وإنكار المحسوسات والبديهيات.

وقد وضع (غورغياس)- أحد أبطال هذه المدرسة- كتاباً في (اللاوجود) وحاول أن يبرهن فيه على عدّة قضايا: الاولى، لا يوجد شي‏ء. الثانية، إذا كان يوجد شي‏ء فالإنسان قاصر عن إدراكه. الثالثة، إذا فرضنا أنّ إنساناً أدركه فلن يستطيع أن يبلغه لغيره‏[1].

وقد عاشت السفسطة ردحاً من الزمن تتفنّن في عبثها بالفلسفة والعلم حتّى بزغ سقراط، وأفلاطون، وأرسطو، فكانت لهم مواقف جبّارة ضدّها.

ووضع أرسطو للكشف عن مغالطات السفسطة وتنظيم الفكر الإنساني منطقه المعروف، وخلاصة مذهبه في نظرية المعرفة: أنّ المعلومات الحسّية

 

[1] راجع المرجع في الفكر الفلسفي: 57، د. نوال الصرّاف الصائغ

127

تفكّر على طريقة ديالكتيكية هل تستطيع أن تؤمن بمعرفة حقيقية للعالم وقوانينه، وتتخلّص من قبضة الشكّ أو السفسطة؟
وفي تعبير آخر: هل المعرفة التي يصحّ للفيلسوف الماركسي أن يتبجّح بها هي أعلى قيمة وأرفع شأناً من المعرفة في فلسفة (كانت)؟ أو لدى المثاليين أو المادّيين النسبيين من فلاسفة مدارس الشكّ الذين نقدتهم الماركسية وهاجمتهم؟
ولأجل أن نعرف المشكلة ونتبيّن مدى إمكان حلّها على أساس الفلسفة الماركسية ووجهة نظر الفلسفة الإسلامية فيها، يجب أن نشير بصورة سريعة إلى أهمّ المذاهب الفلسفية التي عالجت هذه المشكلة؛ حتّى يتحدّد بجلاء موقف الماركسية منها، وماذا يجب أن تتّخذ من رأي في مسألة المعرفة على ضوء اصولها الرئيسية؟ وما هو حقّ المشكلة من التحليل والتحقيق؟

126

التي يحقّقها العمل والتجربة- هي معرفة ذات قيمة ولها معنى حقيقة موضوعية، وأن ليس في العالم أشياء لا يمكن معرفتها، وإنّما فيه أشياء لا تزال مجهولة بعد، وهي ستكشف وتصبح معروفة بوسائل العلم والعمل»[1].

«إنّ أقوى تفنيد لهذا الوهم الفلسفي- أي: وهم (كانت) و (هيوم) وغيره من المثاليين- ولكلّ وهم فلسفي آخر، هو العمل والتجربة والصناعة بوجه خاصّ، فإذا استطعنا أن نبرهن على صحّة فهمنا لظاهرة طبيعية مّا، بخلقنا هذه الظاهرة بأنفسنا وبإحداثنا لها بواسطة توفّر شروطها نفسها، وفوق ذلك إذا استطعنا استخدامها في تحقيق أغراضنا، كان في ذلك القضاء المبرم على مفهوم الشي‏ء في ذاته العصيّ على الإدراك الذي أتى به (كانت)»[2].

هذه التصريحات تقرّر بوضوح: أنّ الفلسفة الماركسية لم ترضَ بالوقوف إلى صفّ السفسطة ومدارس الإنكار أو الشكّ التي أعلنت إفلاسها في المضمار الفلسفي؛ لأنّ الصرح الذي تحاول بناءه يجب أن يرتفع على ركائز فلسفية قاطعة وقواعد فكرية جازمة، وما لم تكن الركائز يقينية لا يمكن أن يتماسك ويتركّز البناء الفكري القائم عليها.

ونحاول- الآن- أن نعرف ما إذا كان من حقّ هذه الفلسفة أن تزعم لنفسها اليقين الفلسفي وتدّعي إمكان المعرفة الجازمة، بمعنى: أنّ الفلسفة الماركسية التي‏

 

[1] المادية الديالكتيكية والماديّة التاريخيّة: 31

[2] لودفيج فيورباخ: 54

125

كنّا ندرس في المسألة السابقة المصادر الأساسية للمعرفة أو للإدراك البشري بصورة عامّة، والآن نتناول المعرفة من ناحية اخرى؛ لنحدِّد قيمتها الموضوعية ومدى إمكان كشفها عن الحقيقة، فإنّ الطريق الوحيد الذي تملكه الإنسانية لاستكناه الحقائق والكشف عن أسرار العالم هو: مجموعة العلوم والمعارف التي لديها، فيجب أن نتساءل قبل كلّ شي‏ء عمّا إذا كان هذا الطريق موصلًا حقّاً إلى الهدف، وعمّا إذا كانت الإنسانية قادرة على الوصول إلى واقع موضوعي بما تملك من معارف وطاقات فكرية.
والفلسفة الماركسية تؤمن في هذه المسألة بإمكان معرفة العالم، وبطاقة الفكر البشري على الكشف عن الحقائق الموضوعية، وترفض الشكّ والسفسطة:
«خلافاً للمثالية التي تنكر إمكان معرفة العالم وقوانينه، ولا تؤمن بقيمة معارفنا، ولا تعترف بالحقيقة الموضوعية، وتعتبر أنّ العالم مملوء بأشياء قائمة بذاتها، ولن يتوصَّل العلم أبداً إلى معرفتها، تقوم المادّية الفلسفية الماركسية على المبدأ القائل: إنّه من الممكن تماماً معرفة العالم وقوانينه، وإنّ معرفتنا لقوانين الطبيعة- تلك المعرفة

124

123

نظريّة المعرفة
2

قيمة المعرفة

أهمّ المذاهب الفلسفيّة في قيمة المعرفة.
نظريّة المعرفة في فلسفتنا.
النسبيّة التطوّريّة.

122

غير أنّ الفلسفة بالرغم من ذلك قد لا تحتاج في بعض الأحيان إلى تجربة إطلاقاً، بل تستخلص النظرية الفلسفية من المعارف العقلية القبلية[1]؛ ولأجل هذا قلنا: ليس من الحتم أن يتغيّر المحتوى الفلسفي باستمرار تبعاً للتجربة، ولا من الضروري أن يواكب [الركب‏[2]] الفلسفي قطار العلم في سيره المتدرّج.

 

[1] ومثال ذلك: قانون النهاية القائل: إنّ الأسباب لا تتصاعد إلى غير نهاية. فإنّ الفلسفة حين تقرّر هذا القانون لا تجد نفسها بحاجة إلى أيّ تجربة علمية، وإنّما تستخلصه من مبادئ عقلية أوّلية ولو بصورة غير مباشرة.( المؤلّف قدس سره)

[2] في الأصل:« الكلّ» ولعلّ الأنسب ما أثبتناه.( لجنة التحقيق)

121

مبادئها المطلقة، فتخرج بنتائج فلسفية جديدة[1]، كما أنّ الفلسفة تنجد الاسلوب التجريبي في العلوم بمبادئ وقواعد عقلية يستخدمها العالم في سبيل الارتقاء من التجارب المباشرة إلى قانون علمي عامّ‏[2]. فالعلاقة بين الفلسفة والعلم قويّة[3]،

 

[1] ومثال ذلك: أنّ العلوم الطبيعية تبرهن على إمكان تحويل العناصر البسيطة بعضها إلى بعض. فهذه حقيقة علمية تتناولها الفلسفة كمادّة لبحثها، وتطبّق عليها القانون العقلي القائل: بأنّ الوصف الذاتي لا يتخلّف عن الشي‏ء، فنستنتج: أنّ صورة العنصر البسيط كالصورة الذهبية ليست ذاتية لمادّة الذهب، وإلّا لما زالت عنها، وإنّما هي صفة عارضة. ثمّ تمضي الفلسفة أكثر من ذلك، فتطبّق القانون القائل: إنّ لكلّ صفة عارضة علّة خارجية، فتصل إلى هذه النتيجة: إنّ المادّة لكي تكون ذهباً أو نحاساً أو شيئاً آخر بحاجة إلى سبب خارجي. فهذه نتيجة فلسفية مستندة إلى ما أدّت إليه الطريقة العقلية من قواعد عامّة لدى تطبيقها على المادّة الخام التي قدّمتها العلوم للفلسفة.( المؤلّف قدس سره)

[2] كما ضربنا الأمثلة على ذلك آنفاً، فقد رأينا كيف أنّ النظرية العلمية القائلة: إنّ الحركة هي سبب الحرارة أو جوهرها تطلّبت عدّة من المبادئ العقلية القبلية.( المؤلّف قدس سره)

[3] حتّى يمكن القول في ضوء ما قرّرناه- خلافاً للاتّجاه العامّ الذي واكبناه في الكتاب- بعدم وجود حدود فاصلة بين قوانين الفلسفة وقوانين العلم كالحدّ الفاصل القائل: إنّ كلّ قانون قائم على أساس عقلي فهو فلسفي، وكلّ قانون قائم على أساس تجربي فهو علمي؛ لأنّنا عرفنا بوضوح أنّ الأساس العقلي والتجربة مزدوجان في عدّةٍ من القضايا الفلسفية والعلمية، فلا القانون العلمي وليد التجربة بمفردها، وإنّما هو نتيجة تطبيق الاسس العقلية على مضمون التجربة العلمية. ولا القانون الفلسفي في غنىً عن التجربة دائماً، بل قد تكون التجربة العلمية مادّة للبحث الفلسفي أو صغرى في القياس على حدّ تعبير المنطق الأرسطي، وإنّما الفارق بين الفلسفة والعلم: أنّ الفلسفة قد لا تحتاج إلى صغرى تجريبية، ولا تفتقر إلى مادّة خام تستعيرها من التجربة، كما سنيشير إليه بعد لحظة، وأمّا العلم فهو في كلّ قوانينه بحاجة إلى الخبرة الحسّية المنظّمة.( المؤلّف قدس سره)