کتابخانه
261

ولم يبرهن الفيلسوف (الشيرازي) على الحركة الجوهرية فحسب، بل أوضح أنّ مبدأ الحركة في الطبيعة من الضرورات الفلسفية للميتافيزيقية. وفسّر على ضوئه صلة الحادث بالقديم‏[1] وعدّة من المشاكل الفلسفية الاخرى: كمشكلة الزمان‏[2] ومسألة تجرّد المادّة، وعلاقة النفس بالجسم‏[3].

فهل يصحّ بعد هذا كلّه اتّهام الإلهية أو الميتافيزيقا بأ نّها تؤمن بجمود الطبيعة وسكونها؟!

والحقيقة: أنّ هذا الاتّهام لا مبرّر له إلّاسوء فهم المادّية الديالكتيكية

 

______________________________

– وبسببها تحصل الحركة السطحية في ظواهر الجسم وأعراضه.
وليس في المستطاع الآن أن نعرض الحركة الجوهرية وبراهينها بأكثر من هذه اللمحة. (المؤلّف قدس سره)، يراجع الأسفار الأربعة 3: 61، الفصل 19، و: 46، الفصل 20. والجزء 4: 273، بحث وتدقيق‏

[1] والمشكلة في صلة الحادث بالقديم هي: أنّ العلّة باعتبارها قديمة وأزلية يجب أن تكون علّة لما يناسبها، ويتّفق معها في القدم والأزلية. وعلى هذا الأساس خُيِّل لعدّة من الميتا فيزيقيين: أنّ الإيمان بالخالق الأزلي يحتّم من ناحية فلسفية الاعتقاد بقدم العالم وأزليّته؛ لئلّا ينفصل المعلول عن علّته. وقد حلّ الشيرازي هذه المشكلة على ضوء الحركة الجوهرية القائلة: إنّ عالم المادّة في تطوّر وتجدّد مستمرّ، فإنّ حدوث العالم على هذا الأساس كان نتيجة حتمية لطبيعته التجدّدية، ولم يكن لأجل حدوث العلّة وتجدّد الخالق الأوّل.( المؤلّف قدس سره)، راجع الأسفار الأربعة 3: 128، الفصل 33، و: 68، الفصل 21

[2] فقد قدّم( الشيرازي) تفسيراً جديداً للزمان، يردّه فيه إلى الحركة الجوهرية للطبيعة، وبهذا أصبح الزمان في مفهومه الفلسفي هذا مقوِّماً للجسم، ولم يعد شيئاً مجرّداً مستقلًا عنه.( المؤلّف قدس سره)، يلاحظ الأسفار الأربعة 3: 115- 118، الفصل 30

[3] سوف نعرض لتجرّد المادّة، وعلاقة النفس بالجسم، في الجزء الأخير من هذه المسألة.( المؤلّف قدس سره)، يراجع الأسفار الأربعة 8: 343، الفصل 3

260

______________________________

المتحرّك عن الدفعة الخارجية والعامل المنفصل، وكان الجهاز الميكانيكي المتحرّك يسير مقداراً ما بعد بطلان العامل الآلي المحرّك، وعلى هذا الأساس وضع الميكانيك الحديث قانون القصور الذاتي القائل: إنّ الجسم إذا حُرِّك استمرّ في حركته ما لم يمنعه شي‏ء خارجي عن مواصلة نشاطه الحركي. غير أنّ هذا القانون اسي‏ء استخدامه؛ إذ اعتبر دليلًا على أنّ الحركة حين تنطلق لا تحتاج بعد ذلك إلى سبب خاصّ وعلّة معيّنة، واتّخذ أداة للردّ على مبدأ العلّية وقوانينها.

ولكنّ الصحيح: أنّ التجارب العلمية في الميكانيك الحديث، إنّما تدلّ على أنّ العامل الخارجي المنفصل ليس هو العلّة الحقيقية للحركة، وإلّا لما استمرّت حركة الجسم بعد انفصال الجسم المتحرّك عن العامل الخارجي المستقلّ ويجب لهذا أن تكون العلّة المباشرة للحركة قوّة قائمة بالجسم، وأن تكون العوامل الخارجية شرائط ومثيرات لتلك القوّة.

الثاني- أنّ المعلول يجب أن يكون مناسباً للعلّة في الثبات والتجدّد، فإذا كانت العلّة ثابتة كان المعلول ثابتاً، وإذا كان المعلول متجدّداً ومتطوّراً كانت العلّة متجدّدة ومتطوّرة. ومن الضروري على هذا الضوء أن تكون علّة الحركة متحرّكة ومتجدّدة، طبقاً لتجدّد الحركة وتطوّرها نفسها؛ إذ لو كانت علّة الحركة ثابتة ومستقرّة، لكان كلّ ما يصدر منها ثابتاً ومستقرّاً، فتعود الحركة سكوناً واستقراراً، وهو يناقض معنى الحركة والتطوّر.

وعلى أساس هذين الأمرين نستنتج:

أوّلًا- أنّ القوّة القائمة بالجسم والمحرّكة له، قوّة متحرّكة ومتطوّرة، فهذه القوّة بسبب تطوّرها تكون علّة للحركات العرضية والسطحية جميعاً، وهي قوّة جوهرية؛ إذ لا بدّ أن تنتهي إلى قوّة جوهرية؛ لأنّ العرض يتقوّم بالجوهر. وهكذا ثبتت الحركة الجوهرية في الطبيعة.

ثانياً- أنّ الجسم يأتلف دائماً من مادّة تعرضها الحركات، وقوّة جوهرية متطوّرة،-

259

والفعل أو اتّحادهما في الحركة.

وهذا هو المفهوم الفلسفي الدقيق الذي تعطيه الفلسفة الميتافيزيقية للحركة، وقد أخذته المادّية الديالكتيكية فلم تفهمه ولم تتبيّنه على وجهه الصحيح، فزعمت أنّ الحركة لا تتمّ إلّابالتناقض، التناقض المستمرّ في صميم الأشياء، كما سوف نعرف عن قريب.

وجاء بعد ذلك دور الفلسفة الإسلامية على يد الفيلسوف الإسلامي الكبير (صدر الدين الشيرازي)، فوضع نظرية الحركة العامّة، وبرهن فلسفياً على أنّ الحركة بمفهومها الدقيق الذي عرضناه، لا تمسّ ظواهر الطبيعة وسطحها العرضي فحسب، بل الحركة في تلك الظواهر ليست إلّاجانباً من التطوّر يكشف عن جانب أعمق، وهو التطوّر في صميم الطبيعة وحركتها الجوهرية؛ ذلك أنّ الحركة السطحية في الظواهر لمّا كان معناها التجدّد والانقضاء، فيجب لهذا أن تكون علّتها المباشرة أمراً متجدّداً غير ثابت الذات أيضاً؛ لأنّ علّة الثابت ثابتة، وعلّة المتغيّر المتجدّد متغيّرة متجدّدة، فلا يمكن أن يكون السبب المباشر للحركة أمراً ثابتاً، وإلّا لم تنعدم أجزاء الحركة، بل تصبح قراراً وسكوناً[1].

 

[1] ويتلخّص الاستدلال الرئيسي على الحركة الجوهرية بالأمرين التاليين:

الأوّل- أنّ العلّة المباشرة للحركات العرضية والسطحية في الأجسام- من الميكانيكية والطبيعية- قوّة خاصّة قائمة بالجسم، وهذا المعنى صادق حتّى على الحركات الآلية التي يبدو لأوّل وهلة أ نّها منبثقة عن قوّة منفصلة، كما إذا دفعت بجسم في خطّ افقي أو عمودي، فإنّ المفهوم البدائي من هذه الحركة أ نّها معلولة للدفعة الخارجية والعامل المنفصل، ولكنّ الواقع غير هذا؛ فإنّ العامل الخارجي لم يكن إلّاشرطاً من شروط الحركة. وأمّا المحرّك الحقيقي فهو: القوّة القائمة بالجسم، ولأجل ذلك كانت الحركة تستمرّ بعد انفصال الجسم-

258

الماء بالانفعال والتأثّر بحرارة النار تبدأ حرارته بالحركة والتطوّر، بمعنى: أنّ القوى والإمكانات التي كانت تملكها تتبدّل إلى حقيقة، والماء في كلّ مرحلة من مراحل الحركة يخرج من إمكان إلى فعلية، ولذلك تكون القوّة والفعلية متشابكتين في جميع أدوار الحركة، وفي اللحظة التي تستنفذ جميع الإمكانات تقف الحركة.
فالحركة- إذن- في كلّ مرحلة ذات لونين: فهي من ناحية فعلية وواقعية؛ لأنّ الدرجة التي تسجّلها المرحلة موجودة بصورة واقعية وفعلية. ومن ناحية اخرى هي إمكان وقوّة للدرجات الاخرى الصاعدة التي ينتظر من الحركة أن تسجّلها في مراحلها الجديدة. فالماء في مثالنا إذا لاحظناه في لحظة معيّنة من الحركة، نجد أ نّه ساخن بالفعل بدرجة ثمانين مثلًا، ولكنّه في نفس الوقت ينطوي على إمكان تخطّي هذه الدرجة، وقوّة تطوّر للحرارة إلى أعلى. ففعلية كلّ درجة في مرحلتها الخاصّة مقارنة لقوّة فنائها.
ولنأخذ مثالًا أعمق للحركة، وهو الكائن الحيّ الذي يتطوّر بحركة تدريجية، فهو بويضة، فنطفة، فجنين، فطفل، فمراهق، فراشد. إنّ هذا الكائن في‏مرحلة محدودة من حركته هو نطفة بالفعل، ولكنّه في نفس الوقت شي‏ء آخر مقابل للنطفة وأرقى منها، فهو جنين بالقوّة، ومعنى هذا: أنّ الحركة في هذا الكائن قد ازدوجت فيها الفعلية والقوّة معاً. فلو لم يكن في الكائن الحيّ قوّة درجة جديدة وإمكاناتها لما وجدت حركة، ولو لم يكن شيئاً من الأشياء بالفعل لكان عدماً محضاً، فلا توجد حركة أيضاً. فالتطوّر يأتلف دائماً من شي‏ء بالفعل وشي‏ء بالقوّة. وهكذا تستمرّ الحركة ما دام الشي‏ء يحتوي على الفعلية والقوّة معاً، على الوجود والإمكان معاً، فإذا نفذ الإمكان، ولم تبقَ في الشي‏ء طاقة على درجة جديدة، انتهى عمر الحركة.
هذا هو معنى خروج الشي‏ء من القوّة إلى الفعل تدريجاً، أو تشابك القوّة

257

ومن الواضح: أنّ التكامل- أو الحركة التطوّرية- لا يمكن أن يُفهم إلّاعلى هذا الأساس، وأمّا تتابع ظواهر متعدّدة يوجد كلّ واحدة منها بعد الظاهرة السابقة، وتفسح المجال بفنائها لظاهرة جديدة، فليس هذا نموّاً وتكاملًا، وبالتالي ليس حركة، وإنّما هو لون من التغيّر العامّ.

فالحركة سير تدريجي للوجود، وتطوّر للشي‏ء في الدرجات التي تتّسع لها إمكاناته؛ ولذلك حدّد المفهوم الفلسفي للحركة بأ نّها خروج الشي‏ء من القوّة إلى الفعل تدريجياً[1].

ويرتكز هذا التحديد على الفكرة التي قدّمناها عن الحركة، فإنّ الحركة- كما عرفنا- ليست عبارة عن فناء الشي‏ء فناءً مطلقاً ووجود شي‏ء آخر جديد، وإنّما هي تطوّر الشي‏ء في درجات الوجود. فيجب- إذن- أن تحتوي كلّ حركة على وجود واحد مستمرّ منذ تنطلق إلى أن تتوقّف، وهذا الوجود هو الذي يتحرّك، بمعنى: أ نّه يتدرّج ويثرى بصورة مستمرّة، وكلّ درجة تعبّر عن مرحلة من مراحل ذلك الوجود الواحد، وهذه المراحل إنّما توجد بالحركة، فالشي‏ء المتحرّك أو الوجود المتطوّر لا يملكها قبل الحركة وإلّا لما وجدت حركة، بل هو في لحظة الانطلاق يتمثّل لنا في قوىً وإمكانات، وبالحركة تستنفذ تلك الإمكانات، ويُستبدَل في كلّ درجة من درجات الحركة الإمكانُ بالواقع والقوّة بالفعليّة.

فالماء قبل وضعه على النار لا يملك من الحرارة المحسوسة إلّاإمكانها، وهذا الإمكان الذي يملكه ليس إمكاناً لدرجة معيّنة من الحرارة، بل هي بجميع درجاتها- التي تؤدّي إلى الحالة الغازية في النهاية- ممكنة للماء، وحين يبدأ

 

[1] القوّة: عبارة عن إمكان الشي‏ء، والفعل: عبارة عن وجوده حقيقة.( المؤلّف قدس سره)

256

في مسافة ما عبارة عن وقوفه في المنطقة الاولى من تلك المسافة، فوقوفه في النقطة الثانية، ففي الثالثة، وهكذا … فإذا رأينا شخصين أحدهما واقف في نقطة معيّنة، والآخر يمشي نحو اتّجاه خاصّ، فكلاهما في رأي (زينون) واقف ساكن، غير أنّ الأوّل ساكن في نقطة معيّنة على طول الخطّ، وأمّا الآخر فله سكنات متعدّدة؛ لتعدّد النقاط التي يطويها، وله في كلّ لحظة مكانيّة خاصّة، وهو في كلّ تلك اللحظات لا يختلف مطلقاً عن الشخص الأوّل الواقف في نقطة معيّنة، فهما معاً ساكنان، وإن كان سكون الأوّل مستمرّاً، وسكون الثاني يتبدّل بسرعة إلى سكون آخر في نقطة اخرى من المسافة. فالاختلاف بينهما هو الاختلاف بين سكون قصير الأمد وسكون طويل الأمد.
هذا ما كان يحاوله (زينون) وبعض فلاسفة الإغريق. وقد برهن على وجهة نظره بالأدلّة الأربعة المشهورة عنه التي لم يقدّر لها النجاح والتوفيق في الميدان الفلسفي؛ لأنّ مدرسة أرسطو- وهي المدرسة الفلسفية الكبرى في العهد الإغريقي- آمنت بالحركة، وردّت على تلك الأدلّة وزيّفتها، وبرهنت على وجود الحركة والتطوّر في ظواهر الطبيعة وصفاتها، بمعنى: أنّ الظاهرة الطبيعية قد لا توجد على التمام في لحظة، بل توجد على التدريج وتستنفذ إمكاناتها شيئاً فشيئاً، وبذلك يحصل التطوّر ويوجد التكامل. فالماء حين تتضاعف حرارته لا يعني ذلك: أ نّه في كلّ لحظة يستقبل حرارة بدرجة معيّنة، توجد على التمام ثمّ تُفنى وتُخلق من جديد حرارة اخرى بدرجة جديدة، بل محتوى تلك المضاعفة:
أنّ حرارة واحدة وجدت في الماء، ولكنّها لم توجد على التمام، بمعنى: أ نّها لم تستنفذ في لحظتها الاولى كلّ طاقاتها وإمكاناتها، ولذلك أخذت تستنفذ إمكاناتها بالتدريج، وتترقّى بعد ذلك وتتطوّر. وبالتعبير الفلسفي: أ نّها حركة مستمرّة متصاعدة.

255

ولا يشعر بما يشعر به جميع الناس وحتّى الأطفال من ضروب التغيّر والتبدّل في دنيا الطبيعة.
ومن الواضح لدى كلّ أحد: أنّ الإيمان بوجود التغيّر في عالم الطبيعة مسألة لا تحتاج إلى دراسات علمية سابقة، وليست موضعاً لخلاف أو نقاش، وإنّما الجدير بالدرس هو ماهية هذا التغيّر، ومدى عمقه وعمومه؛ فإنّ التغيّر نحوان: أحدهما التعاقب البحت، والآخر الحركة. والتأريخ الفلسفي يروي صراعاً حادّاً لا في مسألة التغيّر بصورة عامة، بل في كنهه وتفسيره الفلسفي الدقيق. ويدور الصراع حول الجواب عن الأسئلة التالية:
هل التغيّر الذي يطرأ على الجسم حين يطوي مسافةً ما، عبارة عن وقفات متعدّدة في أماكن متعدّدة تعاقبت بسرعة، فتكوّنت في الذهن فكرة الحركة؟ أو إنّ مردّ هذا التغيّر إلى سير واحد متدرّج لا وقوف فيه ولا سكون؟ وهل التغيّر الذي يطرأ على الماء حين تتضاعف حرارته وتشتدّ، يعني مجموعة من الحرارات المتعاقبة، يتلو بعضها بعضاً؟ أو إنّه يعبّر عن حرارة واحدة تتكامل وتتحرّك وتترقّى درجتها؟
وهكذا نواجه هذا السؤال في كلّ لون من ألوان التغيّر التي تحتاج إلى شرح فلسفي بأحد الوجهين الذين يقدّمهما السؤال.
والتأريخ الإغريقي يحدّث عن بعض المدارس الفلسفية: أ نّها أنكرت الحركة، وأخذت بالتفسير الآخر للتغيّر الذي يردّ التغيّر إلى تعاقب امور ساكنة.
ومن رجالات تلك المدرسة (زينون) الذي أكّد على أنّ حركة المسافر من أقصى الأرض إلى أقصاها ليست إلّاسلسلة من سكنات متعاقبة. فهو لا يتصوّر التدرّج في الوجود والتكامل فيه، بل يرى كلّ ظاهرة ثابتة، وأنّ التغيّر يحصل بتعاقب الامور الثابتة، لا بتطوّر الأمر الواحد وتدرّجه. وعلى هذا تكون حركة الإنسان‏

254

فكلّ شي‏ء خاضع لقوانين التطوّر والصيرورة، وليس لهذا التطوّر أو الصيرورة حدّ يتوقّف عنده؛ لأنّ الحركة هي المسألة اللامتناهية للوجود كلّه.
ويزعم الديالكتيكيون أ نّهم وحدهم الذين يعتبرون الطبيعة حالة حركة وتغيّر دائمين. وينعون على المنطق الميتافيزيقي والاسلوب التقليدي للتفكير طريقة دراسته للأشياء وفهمها؛ إذ يفترض الطبيعة في حالة سكون وجمود مطلقين، فهو لا يعكس الطبيعة على واقعها المتطوّر المتحرّك. فالفرق بين المنطق الجدلي الذي يعتقد في الطبيعة حركة دائمة وصاعدة أبداً، والمنطق الشكلي- في زعمهم- كالفرق بين شخصين أرادا أن يسبرا أغوار كائن حيّ في شتّى أدواره، فأجرى كلّ منهما تجاربه عليه، ثمّ وقف أحدهما يراقب تطوّره وحركته المستمرّة، ويدرسه على ضوء تطوّراته كلّها، واكتفى الآخر بالتجربة الاولى معتقداً أنّ ذلك الكائن جامد في كيانه، ثابت في هويّته وواقعه. فالطبيعة برمّتها شأنها شأن هذا الكائن الحيّ، من النبات أو الحيوان في تطوّره ونموّه، فلا يواكبها الفكر إلّاإذا جاراها في حركتها وتطوّرها.
والواقع: أنّ قانون التطوّر الديالكتيكي الذي يعتبره الجدل الحديث من مميّزاته الأساسية ليس شيئاً جديداً في الفكر الإنساني، وإنّما الجديد طابعه الديالكتيكي الذي يجب نزعه عنه، كما سنعرف. فهو في حدوده الصحيحة ينسجم مع المنطق العامّ، ولا صلة له بالديالكتيك، ولا فضل للديالكتيك في اكتشافه، فليس علينا لأجل أن نقبل هذا القانون، ونعرف سبق الميتافيزيقا إليه، إلّاأن نجرّده عن قالب التناقض، وأساس الجدل القائم عليه في عرف الديالكتيك.
إنّ الميتافيزيقي في زعم الديالكتيكي يعتقد أنّ الطبيعة جامدة يخيّم عليها السكون، وأنّ كلّ شي‏ء فيها ثابت لا يتغيّر ولا يتبدّل، كأنّ الميتافيزيقي المسكين قد حُرِم من كلّ ألوان الإدراك، وسُلِب منه الشعور والحسّ معاً، فأصبح لا يحس‏

253

1- حركة التطوّر

قال ستالين:

«إنّ الديالكتيك- خلافاً للميتافيزية- لا يعتبر الطبيعة حالة سكون وجمود، حالة ركود واستقرار، بل يعتبرها حالة حركة وتغيّر دائمين، حالة تجدّد وتطوّر لا ينقطعان، ففيها دائماً شي‏ء يولد ويتطوّر وشي‏ء ينحلّ ويضمحلّ. ولهذا تريد الطريقة الديالكتيكية أن لا يكتفى بالنظر إلى الحوادث من حيث علاقات بعضها ببعض، ومن حيث تكييف بعضها لبعض بصورة متقابلة، بل أن ينظر إليها- أيضاً- من حيث حركتها، من حيث تغيّرها وتطوّرها، من حيث ظهورها واختفائها»[1].

وقال أنجلز:

«ينبغي لنا ألّا ننظر إلى العالم وكأ نّه مركّب من أشياء ناجزة، بل ينبغي أن ننظر إليه وكأ نّه مركّب في أدمغتنا. إنّ هذا المرور ينمّ عن تغيّر لا ينقطع من الصيرورة والانحلال، حيث يشرق نهار النمو المتقدّم في النهاية رغم جميع الصدف الظاهرة والعودات الموقتة إلى الوراء»[2].

 

[1] المادّية الديالكتيكية والمادّية التأريخية: 16

[2] هذه هي الديالكتيكية: 97- 98