کتابخانه
418

الإدراك في مفهومه الفلسفي‏

لنبدأ الآن بدراستنا الفلسفية للإدراك- بعد أن أوضحنا مغزاها وصلاتها بمختلف الدراسات العلمية- طبقاً للمنهج الفلسفي في الدراسات النفسية، والذي يتلخّص- كما ألمعنا إليه سابقاً- في أخذ الحقائق العلمية والمسلّمات التجريبية، وبحثها على ضوء القوانين والاصول المقرّرة في الفلسفة؛ لاستنتاج حقيقة جديدة وراء ما كشفت عنه التجارب من حقائق.
ولنأخذ الإدراك العقلي للصورة المبصرة، نموذجاً حياً للحياة العقلية العامة التي تتصارع حول تفسيرها الفلسفتان: الميتافيزية، والمادّية، فمفهومنا الفلسفي للإدراك يرتكز:
أوّلًا- على الخصائص الهندسية للصورة المدرَكة.
ثانياً- على ظاهرة الثبات في عمليات الإدراك البصري.
أمّا الأوّل، فنبدأ فيه من حقيقة بدهية نأخذها من حياتنا اليومية ومختلف تجاربنا الاعتيادية، وهي: أنّ الصورة التي تتحفنا بها العملية العقلية للإدراك البصري تحتوي على الخصائص الهندسية: من الطول، والعرض، والعمق، وتبدو بمختلف الأشكال والحجوم. فلنفرض أ نّنا زرنا حديقة تمتدّ آلاف الأمتار، وألقينا عليها نظرة واحدة، استطعنا فيها أن ندرك الحديقة كلًا متماسكاً، تبدو فيه النخيل، والأشجار، وبركة الماء الكبيرة، وألوان الحياة المتدفّقة في الأزهار والأوراد، والكراسي الموضوعة بانتظام حول بركة الماء، والبلابل، والطيور التي تشدو على الأغصان. والسؤال الذي يعترضنا حول هذه الصورة الرائعة التي أدركناها بنظرة مستوعبة هو: ما هي هذه الصورة التي ندركها؟ وهل هي نفس الحديقة وواقعها

417

وإنّما نطلق على تفسير الإدراك البصري بهذا: اسم التفسير العلمي؛ لأنّه يدخل في المجال التجريبي، أو الملاحظة المنظّمة؛ فإنّ إدراك الصيغة، وتغيّر الجزء تبعاً لتغيّرها تجريبي، ولذلك برهنت مدرسة (الجشطالت) على نظريتها بالتجربة التي توضّح أنّ الإنسان لا يدرك الأجزاء فحسب، بل يدرك شيئاً آخر كالشكل أو النغم، ولذلك قد تجتمع الأجزاء جميعاً، ومع ذلك لا يدرك ذلك الشكل أو النغم. فهناك- إذن- الصيغة التي تكشف الأجزاء جميعاً.
ولا نريد الآن أن نتوسّع في شرح التفسيرات العلمية لعملية الإدراك البصري ودراستها، وإنّما نرمي- من وراء ما قدّمناه- إلى تحديد موضع التفسير الفلسفي الذي نحاوله منها. فنقول بهذا الصدد:
إنّ الإدراك العقلي للصورة المبصرة يثير- بعد تلك الدراسات العلمية كلّها- سؤالًا، يواجهه الشكليون والارتباطيون على السواء، وهو: السؤال عن هذه الصورة التي أدركها العقل، وتكوّنت طبقاً لقوانين التداعي الآلي، أو طبقاً لقوانين الصيغة والشكل، فما هو كنهها؟ وهل هي صورة مادّية أو صورة مجرّدة عن المادّة؟ وهذا السؤال الأساسي هو الذي يصوغ المشكلة الفلسفية التي يجب على علم النفس الفلسفي دراستها ومعالجتها، وهو الذي تردّ عليه المادّية و الميتا فيزيقية بجوابين متناقضين.
ويبدو الآن من الواضح جدّاً: أنّ السيكولوجيا العلمية- أي: علم النفس التجريبي- لا تستطيع في هذا المجال أن تؤكّد على التفسير المادّي للإدراك، وتنفي وجود شي‏ء في الحياة العقلية خارج المادّة، كما تزعم الفلسفة المادّية؛ لأنّ التجارب السيكولوجية- سواءٌ منها الذاتية والموضوعية- لا تمتدّ إلى ذلك المجال.

416

المصدر الأساسي للتصوّر البشري، والنظرية الحسّية لجون لوك الذي يعتبر المؤسس الأوّل للمدرسة الارتباطية، وانتهينا من دراستنا إلى أنّ بعض مفردات التصوّر والمعاني العقلية لا ترجع إلى الحسّ، بل هي من النشاط الفعّال الإيجابي للنفس.
وأمّا الناحية الثانية، فهي التي قامت بمعالجتها مدرسة (الجشطالت) فرفضت الدراسة التحليلية للحالات الشعورية، وردّت على التفسير الارتباطي الآلي لعمليات الإدراك، مؤكّدة على ضرورة دراسة كلّ واحدة من الخبرات ككلّ، وأنّ الكلّية ليست مجرّد صهر الخبرات الحسّية والتركيب بينها، بل لها طبيعة التنظيم العقلي الدينامي السائر طبق قوانين معيّنة.
ولنرَ الآن بعد إيضاح الاتّجاهين السابقين تفسيرهما العلمي لعمليات الإدراك البصري:
ففي ضوء الاتّجاه الارتباطي يقال: إنّ الصورة التي تنشأ على شبكية العين تنتقل جزءاً جزءاً إلى الدماغ؛ حيث توجد في جزء محدّد منه صورة مماثلة للصورة الحادثة على شبكية العين. وينشط العقل، فيضفي على هذه الصورة في الدماغ من خبرته السابقة المعاني التي ترتبط في أذهاننا بالبيت، طبقاً لقوانين التداعي الآلية، وينتج عن ذلك الإدراك العقلي لصورة البيت.
وأمّا في ضوء الاتّجاه الشكلي أو الكلّي، فالإدراك يتعلّق بالأشياء بجملتها وهيئاتها العامّة منذ الوهلة الاولى؛ لأنّ هناك صيغاً وأشكالًا أوّلية في العالم الخارجي، تناسب صيغ العقل وأشكاله، فيمكننا أن نفسّر تنظيم الحياة العقلية بتنظيم قوانين العالم الخارجي نفسها، لا بالتركيب والتداعي. فالجزء في الصيغة أو الكلّ إنّما يدرك تبعاً للكلّ، ويتغيّر تبعاً لتغيّر الصيغة.

415

التفكير السيكولوجي إلى القرن التاسع عشر، افتراضاً منهم أنّ الملكة إذا كانت قوية أو ضعيفة عند شخص، كانت قويّة أو ضعيفة في كلّ شي‏ء.
ومن الواضح: أنّ هذه النظرية داخلة في النطاق التجريبي لعلم النفس، فهي نظرية علمية؛ لأنّها تخضع للمقاييس العلمية، فيمكن أن يجرّب مدى تأثّر الذاكرة بصورة عامة بالتدريب على استذكار مادّة معيّنة، ويتاح للعلم- حينئذٍ- أن يعطي كلمته في ضوء تجارب من هذا القبيل، وتقدّم- حينذاك- النتيجة العلمية للتجربة إلى فلسفة العلم السيكولوجي؛ ليدرس مدلولها الفلسفي، وما تعنيه من تعدّد الملكات أو وحدتها في ضوء القوانين الفلسفية.
المثال الثاني- نأخذه من صلب الموضوع الذي نعالجه، وهو عملية الإدراك البصري؛ فإنّها من مواضيع البحث الرئيسية في الحقل العلمي والفلسفي على السواء.
ففي البحث العلمي يثور نقاش حادّ حول تفسير عملية الإدراك بين الارتباطيين من ناحية، وأنصار مدرسة الشكل والصيغة (الجشطالت) من ناحية اخرى. والارتباطيون هم الذين يعتبرون التجربة الحسّية هي الأصل الوحيد للمعرفة. فكما يحلّل علماء الكيمياء المركّبات الكيميائية إلى عناصرها البدائية، يحلّل هؤلاء مختلف الخبرات العقلية إلى إحساسات أوّلية، ترتبط وتتركّب بعمليات آلية ميكانيكية، طبقاً لقوانين التداعي. وفي هذه النظرية الارتباطية ناحيتان:
الاولى- أنّ مردّ التركيب في الخبرات العقلية إلى إحساسات أوّلية (معانٍ بسيطة ادرِكت بالحسّ).
والثانية- أنّ هذا التركيب يوجد بطريقة آلية، وطبقاً لقوانين التداعي.
أمّا الناحية الاولى، فقد درسناها في نظرية المعرفة عند الحديث عن‏

414

فالصلة بين علم النفس وفلسفته كالصلة بين العلوم الطبيعية التجريبية وفلسفتها؛ إذ تدرس علوم الطبيعة ظواهر الكهرباء المتنوّعة، من تيارات ومجالات، وجهد وحثّ كهربائيين، وما إلى ذلك من قوانين الكهرباء الفيزيائية.
وتدرس على هذا النحو- أيضاً- مختلف ظواهر المادّة والطاقة. وأمّا حقيقة الكهرباء، وحقيقة المادّة أو الطاقة، فهي من حقّ البحث الفلسفي. وكذلك الأمر في الحياة العقلية؛ فإنّ البحث العلمي يتناول الظواهر النفسية التي تدخل في نطاق التجربة الذاتية أو الموضوعية، ويوكل الحديث عن طبيعة الإدراك، وحقيقة المحتوى الداخلي للعمليات العقلية، إلى فلسفة النفس، أو علم النفس الفلسفي.
وفي ضوء هذا نستطيع أن نميّز- دائماً- بين الجانب العلمي من المسألة، والجانب الفلسفي. وفيما يلي مثالان لذلك من مواضيع البحث السيكولوجي:
الأوّل- الملكات العقلية التي يلتقي فيها الجانبان معاً. فالجانب الفلسفي يتمثّل في نظرية الملكات القائلة بتقسيم العقل الإنساني إلى قوى وملكات عديدة لألوان من النشاط، كالانتباه، والخيال، والذاكرة، والتفكير، والإرادة، وما إليها من سمات. فهذه الفكرة تدخل في النطاق الفلسفي لعلم النفس، وليست فكرة علمية بالمعنى التجريبي للعلم؛ لأنّ التجربة- سواء كانت ذاتية كالاستبطان، أم موضوعية كالملاحظة العلمية لسلوك الغير الخارجي- ليس في إمكاناتها علمياً أن تكشف عن تعدّد الملكات أو وحدتها؛ فإنّ كثرة القوى العقلية أو وحدتها لا تقعان في ضوء التجربة مهما كان لونها.
وأمّا الجانب العلمي من مسألة الملكات، فيعني نظرية التدريب الشكلي في التربية التي تنصّ على أنّ الملكات العقلية يمكن تنميتها- ككلّ وبلا استثناء- بالتدريب في مادّة واحدة، وفي نوع واحد من الحقائق. وقد أقرّ هذه النظرية عدّة من علماء النفس التربوي، المؤمنين بنظرية الملكات التي كانت تسيطر على‏

413

الدرس والبحث.
أمّا علم النفس، فهو يبدأ من النقطة التي تنتهي عندها الفيزيولوجيا، فيتناول الحياة العقلية وما تزخر به من عمليات نفسية بالدرس والتمحيص. وله في دراساته العملية منهجان رئيسيان:
أحدهما الاستبطان الذي يستعمله كثير من السيكولوجيين، ويميّز بصورة خاصّة المدرسة الاستبطانية في علم النفس؛ إذ اتّخذت التجربة الذاتية أداة لبحثها العلمي، ونادت بالشعور موضوعاً لعلم النفس.
والمنهج الآخر التجربة الموضوعية، وهو المنهج الذي احتلّ أخيراً المركز الرئيسي في علم النفس التجريبي، وأكّدت على أهمّيته- بصورة خاصّة- السلوكية التي اعتبرت التجربة الموضوعية مقوّماً أساسياً للعلم، وزعمت لأجل ذلك: أنّ موضوع علم النفس هو السلوك الخارجي؛ لأنّه وحده الذي يمكن أن تقع عليه التجربة الخارجية، والملاحظة الموضوعية … والحقائق التي يتناولها علم النفس هي الحقائق التي يتاح الكشف عنها بالاستبطان، أو التجربة الخارجية.
وأمّا ما يقع خارج الحدود التجريبية من الحقائق، فليس في إمكانات السيكولوجيا التجريبية أن تصدر حكمها في شي‏ء من ذلك، أي: إنّها تمتدّ ما امتدّ الحقل التجريبي، وتنتهي بنهايته. وتبدأ- حينئذٍ- فلسفة علم النفس من النقطة التي انتهى إليها العلم التجريبي، كما بدأت السيكولوجيا شوطها العلمي من حيث انتهت الفيزيولوجيا. والوظيفة الأساسية للفلسفة النفسية هي محاولة الكشف عن تلك الحقائق التي تقع خارج الحقل العلمي والتجريبي؛ وذلك بأن تأخذ الفلسفة المسلّمات السيكولوجية التي يموّنها بها العلم التجريبي، وتدرسها في ضوء القوانين الفلسفية العامة، وعلى هدي تلك القوانين تُعطى للنتائج العلمية مفهومها الفلسفي، ويُوضع للحياة العقلية تفسيرها الأعمق.

412

ومحتواه من عمليات وتغيّرات. وأمّا تفسير الإدراك في حقيقته وكنهه فلسفياً، فليس من حقّ تلك العلوم؛ إذ لا يمكن لها أن تثبت أنّ تلك الأحداث المعيّنة هي نفسها الإدراكات التي نحسّها من تجاربنا الخاصّة. وإنّما الحقيقة التي لا يرقى إليها شكّ ولا جدال هي: أنّ هذه الأحداث والعمليات الفيزيائية، والكيميائية، والفيزيولوجية، ذات صلة بالإدراك، وبالحياة السيكولوجية للإنسان، فهي تلعب دوراً فعّالًا في هذا المضمار، إلّاأنّ هذا لا يعني صحّة الزعم المادّي القائل بمادّية الإدراك؛ فإنّ فرقاً واضحاً يبدو بين كون الإدراك شيئاً تسبقه أو تقارنه عمليات تمهيدية في مستويات مادّية، وبين كون الإدراك بالذات ظاهرة مادّية، ونتاجاً للمادّة في درجة خاصّة من النموّ والتطوّر، كما تزعم الفلسفة المادّية.
فالعلوم الطبيعية- إذن- لا تمتدّ في دراستها إلى المجال الفلسفي- مجال بحث الإدراك في حقيقته وكنهه- بل هي سلبية من هذه الناحية، بالرغم من قيام المدرسة السلوكية في علم النفس بمحاولة تفسير حقيقة الإدراك والفكر في ضوء الكشوف الفيزيولوجية، وخاصّة الفعل المنعكس الشرطي الذي يؤدّي تطبيقه على الحياة السيكولوجية إلى نظرة آلية خالصة تجاه الإنسان، وسيأتي الحديث عن ذلك.

الإدراك في البحوث النفسية:

تنقسم البحوث السيكولوجية التي تعالج مشاكل النفس وقضاياها إلى قسمين:
أحدهما البحوث العلمية التي يتكوّن منها علم النفس التجريبي.
والآخر البحوث الفلسفية التي يتحمّل مسؤوليتها علم النفس الفلسفي، أو فلسفة علم النفس. ولكلّ من علم النفس وفلسفته طرائفه وأساليبه الخاصّة في‏

411

الإدراك في مستوى الفيزيولوجيا:
في ضوء التجارب الفيزيولوجية استكشفت عدّة أحداث وعمليات تقع في أعضاء الحسّ، وفي الجهاز العصبي بما فيه الدماغ، وهي وإن كانت ذات طبيعة فيزيائية كيميائية، كالعمليات السابقة، ولكنّها في نفس الوقت تمتاز على تلك العمليات بكونها أحداثاً تجري في جسم حيّ، فهي ذات صلة بطبيعة الأجسام الحيّة.
وقد استطاعت الفيزيولوجيا بكشوفها تلك أن تحدّد الوظائف الحيوية للجهاز العصبي، وما لأجزائه المختلفة من خطوط في عمليات الإدراك. فالمخّ- مثلًا- ينقسم بموجبها إلى أربعة فصوص، هي: الفصّ الجبهي، والفصّ الجداري، والفصّ الصدغي، والفصّ المؤخّري، ولكلّ فصّ وظائفه الفيزيولوجية.
فالمراكز الحركية تقع في الفصّ الجبهي، والمراكز الحسّية التي تتلقّى الرسائل من الجسم تقع في الفصّ الجداري. وكذلك حواسّ اللمس والضغط. أمّا مراكز الذوق، والشمّ، والسمع الخاصّة، فتقوم في الفصّ الصدغي، في حين تقوم المراكز البصرية في الفصّ المؤخّري، إلى غير ذلك من التفاصيل.
ويستعمل عادة للتوصّل إلى الحقائق الفيزيولوجية في الجهاز العصبي أحدُ المنهجين الرئيسيين في الفيزيولوجيا: الاستئصال، والتنبيه. ففي المنهج الأوّل تستأصل أجزاء مختلفة من الجهاز العصبي، ثمّ تُدرس تغييرات السلوك الناجمة عن ذلك. وفي المنهج الثاني تُنبّه مراكز محدودة في لحاء المخّ بوسائل كهربائية، ثمّ تسجّل التغيّرات الحسّية أو الحركية التي تنجم عن ذلك.
ومن الواضح جدّاً: أنّ الفيزياء والكيمياء والفيزيولوجيا لا تستطيع بوسائلها العلمية، وأساليبها التجريبية إلّاأن تكشف عن أحداث الجهاز العصبي،

410

على صعيد البحث والدرس؛ لأنّ الإدراك ملتقىً لكثير من البحوث والدراسات.
ولكلّ دراسة من تلك الدراسات العلمية مفهومها الخاصّ الذي يعالج إحدى مشاكل الإدراك المتنوّعة، وجانباً من أسرار الحياة العقلية المثيرة بغموضها وتعقيدها. ووراء تلك المفاهيم العلمية جميعاً المفهوم الفلسفي الذي يقوم فيه الصراع بين المادّية والميتافيزية، كما سبق. فموضوعنا- إذن- مثار لألوان شتّى من البحوث الفلسفية والعلمية.
وقد وقع كثير من الكتّاب والباحثين في الخطأ، وعدم التمييز بين النواحي التي ينبغي للدراسات العلمية أن تتوافر على تمحيصها وتحليلها، وبين الناحية التي من حقّ البحث الفلسفي أن يعطي كلمة فيها. وعلى أساس هذا الخطأ قام الزعم المادّي القائل بأنّ الإدراك في مفهومه الفلسفي لدى الميتافيزية يتعارض مع الإدراك في مفاهيمه العلمية. فقد رأينا كيف يحاول (جورج بوليتزير) أن يبرهن على مادّية الإدراك من ناحية فلسفية بدلائل العلوم الطبيعية، وقد قام غيره بنفس محاولته أيضاً.
ولذلك نجد لزاماً علينا أن نحدّد الموقف الفلسفي في المسألة؛ لنقضي على المحاولات الرامية إلى الخلط بين المجال الفلسفي والمجال العلمي، وإلى اتّهام التفسير الميتافيزي للإدراك بمجافاة العلم ومنافاته لحقائقه ومقرّراته.
وعلى هذا سنقوم بتصفية للموقف العام تجاه الإدراك، ونلقي على ألوان البحث العلمي شيئاً من الضوء، يحدّد لنا نقاط اختلافنا مع المادّية عامة، ومع الماركسية على وجه الخصوص، كما يحدّد لنا النواحي التي يمكن للدراسات العلمية أن تمسّها وتبحثها؛ حتّى يصبح من الواضح أنّ هذه الدراسات لا يمكن اعتبارها مستمسكاً للمادّية في معتركها الفكري الذي تخوضه مع الميتافيزية في سبيل وضع المفهوم الفلسفي الأكمل للإدراك.
وقد ألمعنا فيما سبق إلى تعدّد تلك النواحي التي مسّتها تلك البحوث العلمية