کتابخانه
409

على صعيد البحث والدرس؛ لأنّ الإدراك ملتقىً لكثير من البحوث والدراسات.
ولكلّ دراسة من تلك الدراسات العلمية مفهومها الخاصّ الذي يعالج إحدى مشاكل الإدراك المتنوّعة، وجانباً من أسرار الحياة العقلية المثيرة بغموضها وتعقيدها. ووراء تلك المفاهيم العلمية جميعاً المفهوم الفلسفي الذي يقوم فيه الصراع بين المادّية والميتافيزية، كما سبق. فموضوعنا- إذن- مثار لألوان شتّى من البحوث الفلسفية والعلمية.
وقد وقع كثير من الكتّاب والباحثين في الخطأ، وعدم التمييز بين النواحي التي ينبغي للدراسات العلمية أن تتوافر على تمحيصها وتحليلها، وبين الناحية التي من حقّ البحث الفلسفي أن يعطي كلمة فيها. وعلى أساس هذا الخطأ قام الزعم المادّي القائل بأنّ الإدراك في مفهومه الفلسفي لدى الميتافيزية يتعارض مع الإدراك في مفاهيمه العلمية. فقد رأينا كيف يحاول (جورج بوليتزير) أن يبرهن على مادّية الإدراك من ناحية فلسفية بدلائل العلوم الطبيعية، وقد قام غيره بنفس محاولته أيضاً.
ولذلك نجد لزاماً علينا أن نحدّد الموقف الفلسفي في المسألة؛ لنقضي على المحاولات الرامية إلى الخلط بين المجال الفلسفي والمجال العلمي، وإلى اتّهام التفسير الميتافيزي للإدراك بمجافاة العلم ومنافاته لحقائقه ومقرّراته.
وعلى هذا سنقوم بتصفية للموقف العام تجاه الإدراك، ونلقي على ألوان البحث العلمي شيئاً من الضوء، يحدّد لنا نقاط اختلافنا مع المادّية عامة، ومع الماركسية على وجه الخصوص، كما يحدّد لنا النواحي التي يمكن للدراسات العلمية أن تمسّها وتبحثها؛ حتّى يصبح من الواضح أنّ هذه الدراسات لا يمكن اعتبارها مستمسكاً للمادّية في معتركها الفكري الذي تخوضه مع الميتافيزية في سبيل وضع المفهوم الفلسفي الأكمل للإدراك.
وقد ألمعنا فيما سبق إلى تعدّد تلك النواحي التي مسّتها تلك البحوث العلمية

408

«إنّ كلّ ما يدفع الناس إلى الحركة يمرّ في أدمغتهم بالضرورة، حتّى الطعام والشراب، اللذان يبدأان بإحساس الجوع أو العطش، وهو إحساس يشعر به المخّ أيضاً. إنّ ردود فعل العالم الخارجي على الإنسان تعبّر عن نفسها في مخّه، وتنعكس فيه على صورة إحساسات، وأفكار، ودوافع، وإرادات»[1].

وقال جورج بوليتزير:

«تُبيّن العلوم الطبيعية أنّ نقص تطوّر مخّ أحد الأفراد هو أكبر عائق أمام تطوّر شعوره وفكره، وهذه هي حالة البله.

فالفكر نتاج تأريخي لتطوّر الطبيعة في درجة عالية من الكمال، تتمثّل لدى الأنواع الحية في أعضاء الحسّ والجهاز العصبي، وعلى الخصوص في الجزء الأرقى المركزي الذي يحكم الكائن العضوي كلّه، ألا وهو المخ»[2].

وقال روجيه غارودي:

«إنّ التكوّن المادّي للفكر يعرض علينا- كما سوف نرى- حججاً هي أجدر بالتصديق والاقتناع بها»[3].

وليس المفهوم الفلسفي هو المفهوم الوحيد للإدراك الذي يمكن تقديمه‏

 

[1] لودفيج فيورباخ: 64

[2] المادّية والمثالية في الفلسفة: 74- 75

[3] ما هي المادّية؟: 32

406

405

المفهوم الفلسفي للعالم‏
5

الإدراك‏

الجوانب العلميّة في دراسة الإدراك.
الإدراك في مفهومه الفلسفي.
الجانب الروحي من الإنسان.
المنعكس الشرطي والإدراك.

404

الحيوان ركّب تركيباً يجعله يلتذّ من القيام بتلك الأعمال الغريزية، في نفس الوقت الذي تؤدّي له أعظم الفوائد والمنافع.

والتفسير الآخر: أنّ الغريزة إلهام غيبي إلهي بطريقة غامضة، زُوّد به الحيوان؛ ليعوّض عمّا فقده من ذكاء وعقل. وسواءٌ أصحّ هذا أم ذاك فدلائل القصد والتدبير واضحة وبدهية في الوجدان البشري، وإلّا فكيف حصل هذا التطابق الكامل بين الأعمال الغريزية وأدقّ المصالح وأخفاها على الحيوان؟!

إلى هنا نقف، لا لأنّ دلائل العلم على المسألة الإلهية قد استنفدت- وهي لا تستنفد في مجلّدات ضخام- بل حفاظاً على طريقتنا في الكتاب.

ولنلتفت- بعد كلّ ما سقناه من دلائل الوجدان على وجود القوّة الحكيمة الخلّاقة- إلى الفرضية المادّية؛ لنعرف في ضوء ذلك مدى سخفها وتفاهتها؛ فإنّ هذه الفرضية حين تزعم أنّ الكون بما زخر به من أسرار النظام، وبدائع الخلقة والتكوين، قد أوجدته علّة لا تملك ذرّة من الحكمة والقصد، تفوق في سخفها وغرابتها آلاف المرّات من يجد ديواناً ضخماً من أروع الشعر وأرقاه، أو كتاباً علمياً زاخراً بالأسرار والاكتشافات، فيزعم أنّ طفلًا كان يلعب بالقلم على الورق، فاتّفق أن ترتّبت الحروف، فتكوّن منها ديوان شعر، أو كتاب علم.

«سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ شَهِيدٌ»[1].

 

[1] فصّلت: 53

403

تحلّل السلوك الحيوي بصورة عامة إلى وحدات من الفعل المنعكس. وفسّرت الغرائز بأ نّها تركيبات معقّدة من تلك الوحدات، أي: سلسلة من أفعال منعكسة بسيطة، فلا تعدو الغريزة أن تكون كحركة جذب اليد عند وخزها بالدبوس، وانكماشة العين عند تسليط ضوء شديد عليها، غير أنّ هذين الفعلين منعكسان بسيطان، والغريزة منعكس مركَّب.
وهذا التفسير الآلي للغريزة لا يمكن الأخذ به؛ لدلائل متعدّدة يضيق المجال من الإفاضة فيها. فمنها أنّ الحركة المنعكسة آلياً إنّما تثار بسبب خارجي، كما في انكماشة العين التي تثيرها شدّة الضوء، مع أنّ بعض الأعمال الغريزية ليس لها مثير خارجي. فأيّ مثير يجعل الحيوان منذ يوجد يفتّش عن غذائه، ويجهد في سبيل الحصول عليه؟! أضف إلى ذلك: أنّ الأعمال المنعكسة آلياً ليس فيها موضع لإدراك وشعور، مع أنّ مراقبة الأعمال الغريزية تزوّدنا بالشواهد القاطعة على مدى الإدراك والشعور فيها. فمن تلك الشواهد تجربة اجريت على سلوك زنبار، يبني عشّه من عدد من الخلايا، إذ كان ينتظر القائم بالتجربة أن يتمّ الزنبار عمله في خلية ما، فيخدشها بدبوس، فإذا أتى الزنبار لعمل الخلية الثانية ووجد أنّ الإنسان قد أفسد عليه عمله، عاد إليه فأصلحه، ثمّ سار في عمل الخلية التالية، وكرّر المجرّب تجربته هذه عدداً من المرّات، أيقن بعدها أنّ تتابع إجراء السلوك الغريزي ليس تتابعاً آلياً، ولاحظ المجرّب أنّ الزنبار عندما يعود ويرى أنّ الخلية- التي تمّت- قد أصابها التلف، يقوم بحركات، ويخرج أصواتاً تدلّ على ما يشعر به من غضب وضيق.
وبعد سقوط هذه النظريات المادّية يبقى تفسيران للغريزة:
أحدهما: أنّ العمل الغريزي يصدر عن قصد وشعور، غير أنّ غرض الحيوان ليس ما ينتج عنه من فوائد دقيقة، بل الالتذاذ المباشر به، بمعنى: أن‏

402

لم يحدث.
وأمّا الجزء الثاني من النظرية، فهو يرتكز على الفكرة القائلة بانتقال الصفات المكتسبة بالوراثة. وقد انهارت هذه الفكرة على ضوء النظريات الجديدة في علم الوراثة، كما ألمعنا إليه سابقاً.
وهب أنّ قانون الوراثة يشمل العادات المكتسبة، فكيف تكون الأعمال الغريزية عادات موروثة مع أنّ بعض الأعمال الغريزية قد لا يؤدّيها الحيوان إلّا مرّة أو مرّات معدودة في حياته!
النظرية الثانية- تبدأ من حيث بدأت النظرية الاولى، فتفترض أنّ الحيوان اهتدى إلى العمل الغريزي عن طريق المحاولات المتكرّرة، وانتقل إلى الأجيال المتعاقبة، لا عن طريق الوراثة، بل بلون من ألوان التفهيم والتعليم الميسورة للحيوانات.
وتشترك هذه النظرية مع النظرية السابقة في الاعتراض الذي وجّهناه إلى الجزء الأوّل منها. وتختصّ بالاعتراض على ما زعمته: من تناقل العمل الغريزي عن طريق التعليم والتفهيم؛ فإنّ هذا الزعم لا ينسجم مع الواقع المحسوس، حتّى لو اعترفنا للحيوان بالقدرة على التفاهم؛ لأنّ عدّة من الغرائز تظهر في الحيوان منذ أوّل تكوّنه، قبل أن توجد أيّ فرصة لتعليمه، بل قد تولد صغار الحيوان بعد موت امّهاتها، ومع ذلك توجد فيها نفس غرائز نوعها. فهذه ثعابين الماء تهاجر من مختلف البرك والأنهار إلى الأعماق السحيقة؛ لتضع بيضها، وقد تقطع في هجرتها آلاف الأميال؛ لانتخاب البقعة المناسبة، ثمّ تضع البيض وتموت، وتنشأ الصغار، فتعود بعد ذلك إلى الشاطئ الذي جاءت منه امّاتها، وكأ نّها قد أشبعت خريطة العالم تحقيقاً وتدقيقاً. فعلى يد من تلقّت صغار الثعابين دروس الجغرافيا؟!
النظرية الثالثة- أعلنتها المدرسة السلوكية في علم النفس؛ إذ حاولت أن‏

401

الكبير؟ أو مَنْ ألهمها هذه العملية الحكيمة التي لا يتمّ التوليد إلّابها؟!
وإذا أردنا أن ندرس الغرائز بصورة أعمق، كان علينا أن نعرض أهمّ النظريات في تعليلها وتفسيرها، وهي عديدة:
النظرية الاولى- أنّ الحيوان اهتدى إلى الأفعال الغريزية بعد محاولات وتجارب كثيرة، فأدمن عليها وصارت بسبب ذلك عادة موروثة، يتوارثها الأبناء عن الآباء، دون أن يكون في تعلّمها موضع للعناية الغيبية.
وتحتوي هذه النظرية على جزأين:
أحدهما أنّ الحيوان توصّل أوّل الأمر إلى العمل الغريزي عن طريق المحاولة والتجربة.
والآخر أ نّه انتقل إلى الأجيال المتعاقبة، طبقاً لقانون الوراثة. ولا يمكن الأخذ بكلا الجزأين.
أمّا الجزء الأوّل من النظرية، فهو غير صحيح؛ لأنّ استبعاد الحيوان للمحاولة الخاطئة، والتزامه بالمحاولة الناجحة وحرصه عليها، يعني: أ نّه أدرك نجاحها وخطأ غيرها من المحاولات، وهذا ما لا يمكن الاعتراف به للحيوان، وخاصّة فيما إذا كان نجاح المحاولة لا يظهر إلّابعد موت الحيوان، كما في الفراش حين يصل إلى الطور الثالث من حياته؛ إذ يضع بيضه على هيئة دوائر على الأوراق الخضراء، فلا يفقس إلّافي الفصل التالي، فيخرج على هيئة ديدان صغيرة، في الوقت الذي تكون فيه الامّ قد ماتت، فكيف اتيح للفراش أن يعرف نجاحه فيما قام به من عمل، ويدرك أ نّه هيّأ بذلك للصغار رصيداً ضخماً من الغذاء، مع أ نّه لم يشهد ذلك؟! أضف إلى ذلك: أنّ الغريزة لو صحّ أ نّها وليدة التجربة، لأوجب ذلك تطوّر الغريزة وتكاملها في الحيوانات على مرّ الزمن، وتعزيزها على ضوء محاولات وممارسات اخرى، مع أنّ شيئاً من هذا

400

الجسم، وتنشئ للحيوان شخصيّته وصفاته. فهل يمكن في الوجدان البشري أن يحدث كلّ ذلك صدفة واتّفاقاً؟!

المادّة وعلم النفس:

وأخيراً، فلنقف لحظة عند علم النفس؛ لنطلّ على ميدان جديد من ميادين الإبداع الإلهي، ولنلاحظ من قضايا النفس بصورة خاصّة قضية الغرائز التي تنير للحيوانات طريقها وتسدّدها في خطواتها، فإنّها من آيات الوجدان البيّنات على أنّ تزويد الحيوان بتلك الغرائز صنع مدبّر حكيم، وليس صدفة عابرة، وإلّا فمن علَّم النحل بناء الخلايا المسدّسة الأشكال؟ وعلَّم كلب البحر بناء السدود على الأنهار؟ وعلَّم النمل المدهشات في إقامة مساكنه؟ بل من علَّم ثعبان البحر أن لا يضع بيضه إلّافي بقعة من قاع البحر، تقرب نسبة الملح فيها 35%، وتبعد عن سطح البحر بما لا يقلّ عن (1200) قدماً؟ ففي هذه البقعة يحرص الثعبان على رمي بيضه، حيث لا ينضج إلّامع توافر هذين الشرطين.
ومن الطريف ما يحكى من أنّ عالماً صنع جهازاً خاصّاً، وزوّده بالحرارة المناسبة، وببخار الماء وسائر الشروط التي تتوفّر في عملية طبيعية لتوليد كتاكيت من البيض، ووضع فيه بيضاً ليحصل منه على دجاج، فلم يحصل على النتيجة المطلوبة، فعرف من ذلك أنّ دراسته لشرائط التوليد الطبيعي ليست كاملة، فأجرى تجارب اخرى على الدجاجة حال احتضانها البيض، وبعد دقّة قائمة في الملاحظة والفحص اكتشف أنّ الدجاجة تقوم في ساعات معيّنة بتبديل وضع البيضة وتقليبها من جانب إلى جانب، فأجرى التجربة في جهازه الخاصّ مرّة اخرى، مع إجراء تلك العملية التي تعلّمها من الدجاجة، فنجحت نجاحاً باهراً.
فقل لي بوجدانك: مَن علّم الدجاجة هذا السرّ الذي خفي على ذلك العالم‏