کتابخانه
70
1- نظرية الاستذكار الأفلاطونية[1]:

وهي النظرية القائلة: بأنّ الإدراك عملية استذكار للمعلومات السابقة. وقد ابتدع هذه النظرية أفلاطون، وأقامها على فلسفته الخاصّة عن المُثل وقِدم النفس الإنسانية، فكان يعتقد أنّ النفس الإنسانية موجودة بصورة مستقلّة عن البدن قبل وجوده، ولمّا كان وجودها هذا متحرّراً من المادّة وقيودها تحرّراً كاملًا، اتيح لها الاتّصال بالمثل أي: بالحقائق المجرّدة عن المادّة وأمكنها العلم بها، وحين اضطرّت إلى الهبوط من عالمها المجرّد للاتّصال بالبدن والارتباط به في دنيا المادّة، فقدت بسبب ذلك كلّ ما كانت تعلمه من تلك المثل والحقائق الثابتة، وذهلت عنها ذهولًا تامّاً، ولكنّها تبدأ باسترجاع إدراكاتها عن طريق الإحساس بالمعاني الخاصّة والأشياء الجزئية؛ لأنّ هذه المعاني والأشياء كلّها ظلال وانعكاسات لتلك المثل والحقائق الأزلية الخالدة في العالم الذي كانت تعيش النفس فيه. فمتى أحسّت بمعنى خاصّ انتقلت فوراً إلى الحقيقة المثالية التي كانت تدركها قبل اتّصالها بالبدن، وعلى هذا الأساس يكون إدراكنا للإنسان العام- أي:

لمفهوم الإنسان بصورة كلّية- عبارة عن استذكار لحقيقة مجرّدة كنّا قد غفلنا عنها، وإنّما استذكرناها بسبب الإحساس بهذا الإنسان الخاصّ أو ذاك من الأفراد التي تعكس في عالم المادّة تلك الحقيقة المجرّدة.

فالتصوّرات العامّة سابقة على الإحساس، ولا يقوم الإحساس إلّابعملية استرجاع واستذكار لها، والإدراكات العقلية لا تتعلّق بالامور الجزئية التي تدخل‏

 

[1] يراجع للتفصيل والتوضيح الأسفار الأربعة 2: 46 الفصل 9، و: أفلاطون، د. مصطفى غالب: 41، و: من الفلسفة اليونانيّة إلى الفلسفة الإسلاميّة، د. محمّد عبد الرحمن مرحبا: 126- 130

69

التصوّر ومصدره الأساسي‏

ونقصد بكلمة (الأساسي) المصدر الحقيقي للتصوّرات والإدراكات البسيطة؛ ذلك أنّ الذهن البشري ينطوي على قسمين من التصوّرات:
أحدهما المعاني التصوّرية البسيطة، كمعاني الوجود والوحدة والحرارة والبياض وما إلى ذلك من مفردات للتصوّر البشري.
والقسم الآخر المعاني المركّبة، أي: التصوّرات الناتجة عن الجمع بين تلك التصوّرات البسيطة. فقد نتصوّر (جبلًا من تراب) ونتصوّر (قطعة من الذهب) ثمّ نركّب بين هذين التصوّرين، فيحصل بالتركيب تصوّر ثالث، وهو: (تصوّر جبل من الذهب). فهذا التصوّر مركّب في الحقيقة من التصوّرين الأوّلين، وهكذا ترجع جميع التصوّرات المركّبة إلى مفردات تصوّرية بسيطة.
والمسألة التي نعالجها هي: محاولة معرفة المصدر الحقيقي لهذه المفردات، وسبب انبثاق هذه التصوّرات البسيطة في الإدراك الإنساني.
وهذه المسألة لها تأريخ مهمّ في جميع أدوار الفلسفة اليونانية والإسلامية والاوروبية، وقد حصلت عبر تأريخها الفلسفي على عدّة حلول تتلخّص في النظريات الآتية:

68

ويجب أن نعرف قبل كلّ شي‏ء أنّ الإدراك ينقسم بصورة رئيسية إلى نوعين: أحدهما التصوّر، وهو: الإدراك الساذَج. والآخر التصديق، وهو:

الإدراك المنطوي على حكم. فالتصوّر، كتصوّرنا لمعنى الحرارة أو النور أو الصوت. والتصديق، كتصديقنا بأنّ الحرارة طاقة مستورَدة من الشمس، وأنّ الشمس أنور من القمر، وأنّ الذرّة قابلة للانفجار[1].

ونبدأ الآن بالتصوّرات البشرية لدرس أسبابها ومصادرها، ونتناول بعد ذلك التصديقات والمعارف.

 

[1] ولبعض الفلاسفة الحسّيين( كجون ستوارت ميل) نظرية خاصّة في التصديق حاولوا بها تفسيره بتصوّرين متداعيين. فمردّ التصديق إلى قوانين تداعي المعاني، وليس المحتوى النفسي إلّاتصوّر الموضوع وتصوّر المحمول.

ولكنّ الحقيقة: أنّ تداعي المعاني يختلف عن طبيعة التصديق كلّ الاختلاف، فهو قد يتحقّق في كثير من المجالات ولا يوجد تصديق، فالرجال التأريخيون الذين تسبغ عليهم الأساطير ألواناً من البطولات يقترن تصوّرهم في ذهننا بتصوّر تلك البطولات، وتتداعى‏ التصوّرات، ومع ذلك فقد لا نصدّق بشي‏ء من تلك الأساطير. فالتصديق- إذن- عنصر جديد يمتاز على التصوّر الخالص، وعدم التمييز بين التصوّر والتصديق في عِدّة من الدراسات الفلسفية الحديثة، أدّى إلى جملة من الأخطاء، وجعل عِدّة من الفلاسفة يدرسون مسألة تعليل المعرفة والإدراك من دون أن يضعوا فارقاً بين التصوّر والتصديق. وستعرف أنّ النظرية الإسلامية تفصِّل بينهما، وتشرح المسألة في كلّ منهما باسلوب خاصّ.( المؤلّف قدس سره)

67

تدور حول المعرفة الإنسانية مناقشات فلسفية حادّة تحتلّ مركزاً رئيسياً في الفلسفة وخاصّة الفلسفة الحديثة، فهي نقطة الانطلاق الفلسفي لإقامة فلسفة متماسكة عن الكون والعالم، فما لم تُحدَّد مصادر الفكر البشري ومقاييسه وقيمه لا يمكن القيام بأيّة دراسة مهما كان لونها.
وإحدى تلك المناقشات الضخمة هي: المناقشة التي تتناول مصادر المعرفة ومنابعها الأساسية بالبحث والدرس، وتحاول أن تستكشف الركائز الأوّلية للكيان الفكري الجبّار الذي تملكه البشرية. فتجيب بذلك على هذا السؤال: كيف نشأت المعرفة عند الإنسان؟ وكيف تكوّنت حياته العقلية بكلّ ما تزخر به من أفكار ومفاهيم؟ وما هو المصدر الذي يمدّ الإنسان بذلك السيل من الفكر والإدراك؟
إنّ الإنسان- كلّ إنسان- يعلم أشياء عديدة في حياته، وتتعدّد في نفسه ألوان من التفكير والإدراك، ولا شكّ في أنّ كثيراً من المعارف الإنسانية ينشأ بعضها عن بعض، فيستعين الإنسان بمعرفة سابقة على تكوين معرفة جديدة.
والمسألة هي: أن نضع يدنا على الخيوط الأوّلية للتفكير، على الينبوع العامّ للإدراك بصورة عامّة.

66

65

1- نظريّة المعرفة

 

المصدر الأساسي للمعرفة

التصوّر ومصدره الأساسي.
التصديق ومصدره الأساسي.

64

63

1- نظريّة المعرفة

1- المصدر الأساسي للمعرفة.
2- قيمة المعرفة.

62

فيها. وهو لهذا ليس مبدأً بالمعنى الدقيق للفظ المبدأ، لأنّ المبدأ عقيدة في الحياة ينبثق عنها نظام للحياة.
وأمّا الاشتراكية والشيوعية الماركسيتان فقد وُضعتا على قاعدة فكرية وهي (الفلسفة المادّية الجدلية). ويختصّ الإسلام بقاعدة فكرية عن الحياة لها طريقتها الخاصّة في فهم الحياة وموازينها المعيّنة لها.
فنحن- إذن- بين فلسفتين لا بدّ من دراستهما؛ لنتبيّن القاعدة الفكرية الصحيحة للحياة التي يجب أن نشيد عليها وعينا الاجتماعي السياسي لقضية العالم كلّه، ومقياسنا الاجتماعي والسياسي الذي نقيس به قيم الأعمال، ونزن به أحداث الإنسانية في مشاكلها الفردية والدولية.
والقاعدة التي يرتكز عليها المبدأ تحتوي على الطريقة والفكرة، أي: على تحديد طريقة التفكير، وتحديد المفهوم للعالم والحياة. ولمّا كنّا لا نستهدف في هذا الكتاب الدراسات الفلسفية لذاتها، وإنّما نريد دراسة القواعد الفكرية للمبادئ، فسوف نقتصر على درس العنصرين الأساسيين لكلّ قاعدة فكرية ينبثق عنها نظام، وهما: طريقة التفكير، والمفهوم الفلسفي للعالم. فهاتان المسألتان هما مدار البحث في هذا الكتاب. ولمّا كان من الضروري تحديد الطريقة قبل تكوين المفاهيم، فنبدأ بنظرية المعرفة التي تحتوي على تحديد معالم التفكير وطريقته وقيمته، ويتلو بعد ذلك درس المفهوم الفلسفي العامّ عن العالم بصورة عامّة.
ويحسن بالقارئ العزيز أن يعرف قبل البدء أنّ المستفاد من الإسلام بالصميم إنّما هو: الطريقة والمفهوم، أي: الطريقة العقلية في التفكير، والمفهوم الإلهي للعالم. وأمّا أساليب الاستدلال وألوان البرهنة على هذا وذاك فلسنا نضيفها جميعاً إلى الإسلام، وإنّما هي حصيلة دراسات فكرية لكبار المفكّرين من علماء المسلمين وفلاسفتهم.