بحوث في شرح العروة الوثقى ج ۲
316

315

الأسآر

314

المكلّف بأنّ المالين معاً كانا لزيدٍ وعلم بأنّ أحدهما انتقل إليه، والآخر لعمروٍ واشتبها، ثمّ استعمل أحدهما وأتلفه فإنّ كلّ واحدٍ من المالين لو لوحظ في نفسه لكان طيب نفس زيدٍ بانتقاله إلى المكلّف العالم إجمالًا غير محرز، فيجري استصحاب عدم طيب نفسه المنقّح لموضوع «لا يحلّ مال امرئ مسلمٍ إلّابطيب نفسه»[1]، ولكن لا يتنقّح بذلك موضوع الضمان وشغل الذمّة؛ لأنّ موضوعه إتلاف مال الغير، وبالاستصحاب المذكور لا يثبت أنّ هذا مال الغير.

ولكن قد تقدّم‏[2] في أوائل هذا الفصل أنّ الاستصحاب المذكور لا تثبت به حرمة التصرّف أيضاً، فلاحظ.

وهكذا يتّضح: أنّ فرض كون الباقي مورداً لاستصحابٍ موضوعيٍّ منقّحٍ لموضوع حرمة التصرّف، ولا يكون التالف مورداً لاستصحابٍ موضوعيٍّ منقّحٍ لموضوع الضمان وحاكمٍ على أصالة البراءة عنه لا يتمّ إلّابافتراض صدفة، وهي:

أن يكون الباقي مملوكاً للغير سابقاً، والتالف غير محرزِ المملوكية للغير سابقاً.

 

[1] عوالي اللآلي 1: 222، الحديث 98

[2] تقدّم في الصفحة 246

313

اشترائها، أو هبتها، أو إجازة مالكها. والأصل عدم تحقّق السبب المحلّل، وهو أصل مثبت على وفق العلم الإجماليّ، فلا مانع من جريانه، وبهذا تبقى أصالة عدم حدوث الضمان في الطرف المتلف سليمةً عن المعارض.
وهذه الدعوى غير صحيحة؛ وذلك لأنّ الأصل الجاري في الباقي كثيراً مايكون بنحوٍ ينقِّح موضوع الضمان أيضاً. فمثلًا: إذا فرضنا أنّ المالين يعلم بأ نّهما للغير ويعلم إجمالًا بعدم الإذن من الغير في أحدهما فاستصحاب عدم الإذن يكون جارياً في كلا الطرفين، ويثبت به في الباقي حرمة التصرّف، وفي التالف الضمان؛ لأنّ موضوع شغل الذمّة هو إتلاف مال الغير بدون إذنه، وإتلاف مال الغير وجداني، وكونه بلا إذنه بالاستصحاب. ففرض استصحاب عدم الإِذن في الباقي يساوق فرض استصحابٍ مماثلٍ في التالف بنحوٍ يتنقّح به موضوع شغل الذمّة، فلا تصل النوبة إلى أصالة البراءة عن ذلك.
وإذا فرضنا أنّ المكلّف يعلم بأنّ المالين معاً كانا له، وأنّ أحدهما انتقلت ملكيّته إلى آخر ولكنّه غصبه منه فلا مجال لجريان استصحابٍ مثبتٍ للتكليف في الباقي، بل الجاري استصحاب بقاء ملكية الشخص للمال، وهو استصحاب نافٍ، وبعد تساقط الاستصحابين تتعارض البراءة عن ضمان التالف مع البراءة عن حرمة التصرّف في الباقي، ويكون العلم الإجماليّ منجِّزاً.
وإذا فرضنا أنّ المكلّف يعلم بأنّ المالين معاً لزيدٍ ويعلم بأ نّه اشترى أحدهما منه، ولا يدري أيّهما فأتلف أحد المالين يجري استصحاب عدم انتقال كلٍّ من المالين إلى ملكه، وبقائه على ملك زيدٍ في كلا الطرفين، وبهذا الاستصحاب نثبت حرمة التصرّف في الباقي بدون إذن زيد، وضمان التالف لزيد.
نعم، هناك صورة واحدة قد يتوهّم فيها جريان الاستصحاب بنحوٍ يثبت حرمة التصرّف في الباقي، ولا يصلح لإثبات الضمان في التالف، وهي: ما إذا علم‏

312

جريانه في مرتبته بدون معارضٍ فهذا الملاك لا يجري في المقام؛ لأنّ أصالة البراءة عن الضمان ووجوب دفع البدل ليست في طول أصالة البراءة عن حرمة التصرّف التكليفية في المال لكي تسقط البراءة عن حرمة التصرّف في المال في المرتبة السابقة بالمعارضة، وتصل النوبة إلى أصالة البراءة عن الضمان بلا معارض.
وإن كان الملاك في عدم تنجيز العلم الإجماليّ بنجاسة الملاقي- بالكسر- أو الطرف كونه معلولًا للعلم الإجماليّ بنجاسة الملاقي- بالكسر- أو الطرف فيسقط عن المنجّزية في مرتبته؛ لأنّ الطرف منجّز في المرتبة السابقة بالعلم الأوّل، فهذا الملاك يأتي في المقام؛ لأنّ العلم الإجماليّ بالضمان أو غصبية المال الآخر متأخّر رتبةً عن العلم بغصبية أحد المالين، فينحلّ بتنجّز الطرف المشترك بين العِلمين بالعلم السابق.
ومن لا يرى تمامية كلّ هذه الملاكات هناك يرى أيضاً تنجيز العلم الإجماليّ بالضمان، أو حرمة التصرّف في المال الآخر.
وإن فرض الإتلاف قبل العلم الإجماليّ بالغصبية فهو من قبيل فرض الملاقي قبل العلم الإجماليّ بالنجاسة. فإذا قيل هناك بتنجيز العلم الإجماليّ بنجاسة الملاقي- بالكسر- أو الطرف يقال هنا بتنجيز العلم الإجماليّ بالضمان، أو حرمة التصرّف في الآخر.
وقد يُدَّعى‏: أنّ هذا العلم الإجماليّ غير منجّز في المقام؛ لوجود أصلٍ نافٍ في أحد الطرفين ومثبتٍ في الطرف الآخر، فالضمان مورد للأصل النافي، وحرمة التصرّف في المال الآخر مورد للاستصحاب المثبت، وهو أصالة عدم كون الباقي ملكاً له، أو لمن أذن له في التصرّف فيه لو كان هناك مجيز، حيث إنّ جواز التصرّف في الأموال المتعارفة التي بأيدينا يحتاج إلى سببٍ محلّلٍ له: من‏

311

يده قد غصبه، وأنّ الآخر له، ففي مثل ذلك يكون عالماً بوقوع أحد المالين في عهدته قبل الاستعمال والإتلاف؛ لأنّ الاستيلاء على مال الغير بدون إذنه معلوم إجمالًا، وهو تمام الموضوع للعهدة، والعهدة تقتضي إعادة المال بتمام ما يمكن من خصوصيّاته.
وما يمكن إعادته من غير التالف فعلًا هو تمام الخصوصيّات، حتّى الشخصية. وما يمكن إعادته من التالف غير الشخصية من الخصوصيّات، فوجوب ردّ ما يمكن ردّه من خصوصيّات المال التالف منجّز بنفس العلم الإجماليّ الأوّل.
وأمّا العلم الإجماليّ الثاني فهو نظير العلم الإجماليّ بنجاسة الملاقي- بالكسر- أو الطرف؛ لأنّه: تارةً يفرض الإتلاف بعد العلم الإجماليّ بالغصبية.
واخرى يفرض قبله.
فإن فرض الإتلاف بعد العلم الإجماليّ بالغصبية فلابدّ من ملاحظة الملاكات التي يستند إليها من يقول بعدم وجوب الاجتناب عن الملاقي- بالكسر- إذا كانت الملاقاة بعد العلم الإجماليّ بالنجاسة؛ لنرى هل أنّ تلك الملاكات تجري في المقام، أوْ لا؟
فإن كان الملاك في عدم وجوب الاجتناب عن الملاقي- بالكسر- وعدم تنجيز العلم الإجماليّ بنجاسته أو نجاسة الطرف هو تأخّره زماناً عن العلم الإجماليّ بنجاسة الملاقَى- بالفتح- أو الطرف، وسقوط الاصول في الطرف سابقاً الأمر الذي يجعل الأصل في الملاقي- بالكسر- بدون معارضٍ فهذا الملاك نفسه جارٍ في المقام؛ لأنّ التأخّر الزمانيّ بنفسه مفروض.
وإن كان الملاك في جريان أصالة الطهارة في الملاقي- بالكسر- طوليّته وتأخّره الرتبيّ عن أصالة الطهارة في الملاقى- بالفتح- الأمر الذي يوجب‏

310

مسألة (12): إذا استعمل أحد المشتبَهَين بالغصبية لا يحكم عليه بالضمان إلّابعد تبيّن أنّ المستعمل هو المغصوب (1).
————–
(1) في هذا الفرع يتشكّل علمان إجماليان:
أحدهما: العلم بعدم إذن المالك في التصرّف في أحد المالين.
والآخر: العلم- بعد استعمال أحد المالين- بضمانه، أو حرمة التصرّف في المال الآخر.
فإن لوحظ العلم الإجماليّ الأوّل وحده وقع الكلام في كفايته لتنجيز الضمان، وإخراجه عن تحت البراءة العقلية المعروفة بينهم. والمعروف عدم صلاحيته لذلك؛ لأنّ عدم إذن المالك في التصرّف في المال المعلوم بالعلم الإجماليّ الأوّل تمام الموضوع لحرمة التصرّف وجزء الموضوع للضمان، والجزء الآخر الاستعمال والإتلاف الذي يوجب اشتغال الذمّة بالمال، فالعلم الإجماليّ بعدم الإذن في أحد المالين ينجّز حرمة التصرّف، ولا ينجّز الضمان وشغل الذمّة؛ لعدم كونه علماً بتمام موضوعه.
وهذا يتمّ بالنسبة إلى غير من كان المال داخلًا في عهدته قبل الاستعمال والإتلاف، من قبيل شخصٍ مأذونٍ من قبل صاحب اليد في مالين، غير أ نّه يعلم بأنّ صاحب اليد قد غصب أحدهما من مالكه، وأنّ مالكه لا يرضى بالتصرّف فيه، ففي مثل ذلك لا عهدة قبل الاستعمال على المأذون، وعلمه بعدم إذن المالك الواقعيّ علم بجزء الموضوع للضمان وشغل الذمّة، فلو أتلف أحدهما لا يتجزّأ الضمان بذلك العلم.
وأمّا من كان المال داخلًا في عهدته قبل الاستعمال فلا يجري فيه هذا الكلام؛ وذلك من قبيل الغاصب الذي يعلم إجمالًا بأنّ أحد المالين الواقعين تحت‏

309

نعم، لو علم أ نّه كان حين التوضّؤ غافلًا عن نجاسة أحدهما يشكل (1).
————–
(1) لاختصاصها بموارد احتمال الالتفات، كما بيّنّاه في محلّه.
ثمّ مع عدم جريان القاعدة في هذا الفرض قد يقال بتصحيح الوضوء بإجراء أصل الطهارة في الماء المتوضَّى‏ به على إجماله؛ لأنّه يشكّ في طهارته ونجاسته فعلًا، ولا معارض لهذا الأصل؛ لعدم وجود علمٍ إجماليٍّ بالنجاسة حتّى تسقط الاصول بالمعارضة.
والتحقيق: أنّ هذا الأصل من قبيل استصحاب الفرد المردّد، فقد يستشكل فيه: بأنّ أصل الطهارة: إن اريد إجراؤه في واقع الماء المتوضّى به فهو: إمّا معلوم الطهارة، وإمّا معلوم النجاسة. وإن اريد اجراؤه في الماء المتوضّى به بهذا العنوان فلا أثر له؛ لأنّ الأثر مترتّب على طهارة ذات الماء، لا على طهارته بما هو مستعمل في الوضوء، بمعنى أنّ الوضوء بالماء وكونه طاهراً مأخوذان بنحو التركيب والعرضية، فلابدّ من الوضوء بماءٍ وكونه طاهراً، وهذا يعيّن إجراء الأصل في ذات الماء، ولو فرض أخذ الموضوع بنحو التقييد وأخذ الطهارة شرطاً بما هي طهارة للماء المتوضّى به بهذا العنوان لمَا أمكن إثبات الشرط باستصحاب الطهارة؛ لكونه مثبتاً.
اللهمّ إلّاأن يقال: إنّ أصل الطهارة يمكن إجراؤه في واقع الماء المتوضّى به، وهو وإن كان مردّداً بين معلوم النجاسة ومعلوم الطهارة ولكن لا محذور مع ذلك في جعل أصالة الطهارة عليه، لا ثبوتاً؛ لأنّ جعل الحكم الظاهري معقول مادام الواقع غير منجّزٍ بالعلم التفصيليّ، ولا إثباتاً؛ لأنّ المفهوم عرفاً من الغاية في قوله: «حتّى تعلم أ نّه قذر» جعل العلم غايةً بما هو منجّز وقاطع للعذر، لا أخذ الشكّ بعنوانه في موضوع الأصل تعبّداً، فلا تكون الغاية حاصلةً، فتجري أصالة الطهارة ويصحّح بها الوضوء.

308

وأمّا إذا علم بنجاسة أحدهما المعيَّن وطهارة الآخر فتوضّأ، وبعد الفراغ شكّ في أ نّه توضّأ من الطاهر أو من النجس فالظاهر صحة وضوئه؛ لقاعدة الفراغ (1).

————–

من تنجّز بطلان الوضوء بدعوى الانحلال، بناءً على أنّ ترتّب العِلمين القائمين بالموضوع كافٍ في انحلال اللاحق بالسابق. ومن أنّ المتّجه بناءً على ذلك التفصيل بين صورة جمع الماء المتوضَّى‏ به، وصورة تلفه، ففي الاولى يبنى‏ على الانحلال، وفي الثانية على عدمه‏[1]. ووجه النظر: ما عرفت من أنّ دعوى الانحلال في المقام لا أثر لها؛ لأنّ المراد بها إخراج بطلان الوضوء عن المنجّزيّة، مع أنّ بطلان الوضوء يتنجّز بنفس العلم الإجماليّ بنجاسة أحد الماءين؛ لأنّها تمام الموضوع له، ففرق بينه وبين نجاسة الملاقي- بالكسر-، فإنّ هذه إنّما كان يترقّب تنجّزها بالعلم الإجماليّ الثاني، فمع انحلاله يزول عنها التنجيز. وأمّا بطلان الوضوء فهو منجّز بالعلم بنجاسة أحد الماءين، فدعوى انحلال العلم الثاني به لا أثر لها. ولا فرق في ذلك بين أن يكون الماء المتوضّى‏ به مجموعاً أو تالفاً، إذ على الأوّل يكون لنجاسته أثران يتنجّزان بالعلم الإجماليّ بالنجاسة: أحدهما بطلان الوضوء به، والآخر حرمة شربه. وعلى الثاني ينحصر أثره القابل للتنجّز ببطلان الوضوء.

***

(1) فإنّ احتمال البطلان هنا لا ينشأ من جهاتٍ يعلم بعدم الالتفات إليها حين العمل، فاحتمال الأذكرية محفوظ، وهذا كافٍ لجريان القاعدة.

 

[1] مستمسك العروة الوثقى 1: 267