بحوث في شرح العروة الوثقى ج ۲
58

ظرف ملاقاتهما كان في الباطن، كما لو أدخل الإنسان إصبعه النجس إلى فمه فلاقى مع إصبعه الآخر داخل فضاء الفم.
والحكم بعدم التنجيس هنا موقوف على أن تتمّ دعوى احتمال الفرق عرفاً بين الملاقاة بين شيئين في الخارج والملاقاة بينهما في الداخل، بعد افتراض عدم الإطلاق اللفظيّ في أوامر الغسل.
وكلا المطلبين محلّ تأمّل، بل منع، إذ لا وجه للمنع عن إطلاق الأمر بالغسل في رواية عمّار لكلّ ما أصابه ذلك الماء من الامور الخارجية، سواء كانت الإصابة في الخارج أو الداخل.
كما أنّ دعوى إلغاء العرف خصوصية الخارج وكون الملاقاة في هذا المكان أو ذاك لا غبار عليها.
لا يقال: هذا الارتكاز مناقض بارتكاز عدم الفرق بين ملاقاة الخارجيّين في الباطن، كملاقاة الإصبع مع دمٍ محمولٍ إلى جوف الفم من الخارج، وبين ملاقاة الخارجيّ مع الدم الداخليّ في جوف الفم التي حكم فيها بعدم الانفعال، كالدم الخارج من الأسنان، فإنّ كليهما بحسب النظر العرفّي من سنخٍ واحد، ولعلّه إليه استند من أفتى‏ بالطهارة في هذه الجهة.
فإنّه يقال أوّلًا: إنّه يوجد احتمال الفرق بينهما؛ لِمَا تقدّم من اختلاف النظر العرفيّ في باب الاستقذارات بين المادة الخارجة عن موطنها وغير الخارجة.
وثانياً: لو سلّم ارتكاز عدم الفرق فهو يقتضي الحكم بالنجاسة في الصورتين، لا الطهارة؛ لوضوح أنّ الحكم بالطهارة في المسألة الثانية لم يكن من جهة قيام الدليل عليه، وإنّما كان من جهة عدم الدليل المثبت للنجاسة، فلو فرضت الملازمة عرفاً بينهما كانت أوامر الغسل دالّةً على النجاسة في المسألتين معاً، كما هو واضح.

126

ولو سلّم أنّ النهي بلحاظ ما قد يترتّب عليه من مشقّةٍ في حقّ المستعير فقد تكون المشقّة بلحاظ حصول الوثوق بإخبار المعير، وليست الرواية مسوقةً لذلك ليتمسّك بإطلاقها، فلا تدلّ على الحجّية التعبّدية.

وأمّا اللحاظ الثاني فقد يورد عليه:

أوّلًا: بأنّ جهة السؤال كما قد تكون هي التشكّك في حجّية خبر صاحب اليد قد تكون هي إجزاء الصلاة الواقعة مع النجس جهلًا مع الفراغ عن ثبوت النجاسة بخبر صاحب اليد، والاستدلال إنّما يتمّ على الأوّل. وأمّا على الثاني فلا يتمّ، إذ لا نظر إلى كيفية ثبوت النجاسة بخبر صاحب اليد ليتمسّك بالإطلاق من هذه الناحية، فلعلّ ثبوتها به كان بلحاظ الوثوق الشخصي.

وثانياً: أنّ الرواية مدلولها المطابقيّ هو وجوب الإعادة وبطلان الصلاة، ومدلولها الالتزاميّ ثبوت النجاسة بخبر صاحب اليد. وما دلّ من الروايات‏[1] على نفي الإعادة عمّن صلّى في النجس جهلًا يوجب سقوط المدلول المطابقيّ للرواية، ومعه يسقط المدلول الالتزاميّ.

وبتعبيرٍ آخر: أ نّه يوجب حمل الأمر بالإعادة على الاستحباب، ومعه لا يتعيّن الالتزام بحجّية الخبر، إذ يكفي في الاستحباب احتمال النجاسة.

وثالثاً: أ نّه نترقّى‏ عمّا ذكرناه في الإيراد الأوّل، ونستظهر أنّ جهة السؤال هي إجزاء الصلاة الواقعة في النجس- لا حجّية خبر صاحب اليد- بقرينة ملاحظة السؤال لزمان ما بعد الفراغ من الصلاة، مع أنّ الجهة الثانية لا يفرَّق فيها بين الأزمنة. ويؤيّده التعبير بالإعلام الظاهر عرفاً في الإخبار الذي يكون مساوقاً لثبوت المطلب، وهو يعني: أنّ النظر ليس إلى الثبوت وعدمه.

 

[1] راجع وسائل الشيعة 3: 474 و 475 و 476، الباب 40 من أبواب النجاسات

332

ولكن يمكن أن يقال: إنّ ظاهر قوله: «إذا كانت مأمونةً» كفاية عدم الوثوق والائتمان في ثبوت الكراهة، من دون فرقٍ بين مراتب المعرضية للنجاسة.

كما أنّ معرضية سؤر الحائض للنجاسة لا تنحصر بملاقاة دم الحيض، بل كثيراً ما يكون بنحوٍ آخر، ومعه لا يبقى فرق بين نجاسةٍ واخرى.

وممّا يؤيّد التعدّي: رواية ابن أبي يعفور، قال: سألت أبا عبد اللَّه عليه السلام أيتوضّأ الرجل من فضل المرأة؟ قال: «إذا كانت تعرف الوضوء … الى آخره»[1]. فإنّها دلّت على الحزازة فيما إذا لم تكن تعرف الوضوء، أي الغسل، الأمر الذي يجعلها متّهمة. غير أنّ سند الرواية ضعيف.

وعلى أيّ حالٍ فلا شكّ في أنّ حسن الاحتياط بعنوان كونه احتياطاً لا يختصّ بموردٍ دون مورد.

 

[1] وسائل الشيعة 1: 236، الباب 8 من أبواب الأسآر، الحديث 3

331

بل مطلق المتّهم (1)
————–
الثابت بالطائفة الثانية، ولكنّه نحو من التأويل الذي قد يساعد عليه العرف في مقام الجمع بين الدليلين، ومعه لا تصل النوبة إلى التعارض.
ثم إنّ المأخوذ قيداً في الطائفة الثانية عنوان «المأمونة»، فتخرج من المطلقات، بناءً على تقييد الطائفة الثانية لها بغير المأمونة، وتبقى تحت الإطلاقات المرأة غير المأمونة ولو من باب الجهل بحالها، إذ لا يصدق عليها عنوان «المأمونة»، وإن لم يصدق عليها عنوان المتّهمة أيضاً.
***
(1) التعدّي من روايات الحائض إلى مطلق المتّهم يتوقّف: إمّا على إلغاء خصوصيّة المورد، أو على استفادة التعليل من الشرط في قوله: «إذا كانت مأمونة»، وكلاهما بلا موجب.
أمّا الأوّل فلا يمكن إلغاء خصوصية المورد لروايات الحائض، سواء كان مفادها الكراهة النفسية باعتبار جانب الحدث في الحائض، أو الكراهة بلحاظ المعرضية للنجاسة.
أمّا على تقدير استفادة الكراهة النفسية فواضح. وأمّا على تقدير استفادة الكراهة بلحاظ المعرضية فلأنّ المعرضية تختلف مرتبتها من حالٍ إلى اخرى، وتختلف النجاسات ودرجة اهتمام الشارع بالتحفّظ من ناحيتها، فقد يكون للنجاسة الناشئة من دم الحيض وللدرجة الشديدة من المعرضية التي للحائض دخل في ثبوت الكراهة.
وأمّا الثاني فلأنّ ظاهر الرواية كونه شرطاً لا تعليلًا، فلا يوجب إسراء الحكم إلى غير مورده.

330

عليٍّ عليه السلام من أ نّه قال: «لا بأس بأن يتوضّأ من سؤر الحائض»[1]. والمتعارضان متساويان في الموضوع، فإذا لوحظت الطائفة الثانية كانت هذه الطائفة مقيّدةً للطائفة الاولى «بغير المأمونة» ولمعارضها «بالمأمونة»، وبهذا يزول التعارض المذكور.

ولكن بعد ملاحظة الطائفة الثالثة تسقط الثانية والثالثة بالمعارضة، وفي طول ذلك تسقط الطائفة الاولى مع معارضها، ولا يبقى حينئذٍ دليل على أصل الحكم.

ويرد عليه مضافاً إلى ضعف سند الرواية النافية للبأس مطلقاً لكونها من الجعفريات‏[2]: أنّ ظاهر البأس في نفسه البأس اللزوميّ، فهي إنّما تدلّ على نفي البأس اللزومي. وإنّما حملنا البأس في الروايات المثبتة على التنزيهيّ للجزم بعدم اللزوم، أو للقرينة عليه، وعليه فلا تعارض بين الرواية النافية والطائفة المثبتة للبأس بعد حمل هذه الطائفة على البأس التنزيهي.

الخامس: أن يقال بأنّ تعدّد مراتب الكراهة محتمل، بمعنى: أن يكون سؤر الحائض مطلقاً مكروهاً، ويكره سؤر غير المأمونة بمرتبةٍ أشدّ، فيحمل البأس المنفيّ في الطائفة الثانية على المرتبة الشديدة من الكراهة، ويحمل البأس المثبت في الطائفة الثالثة- حتّى للمأمونة- على مرتبةٍ ضعيفة.

وليس هذا من باب تقييد البأس المنفيّ في الطائفة الثانية بلحاظ الطائفة الثالثة؛ لأنّ التقييد فرع الأخصّية، والبأس المثبت في الطائفة الثالثة مجمل من حيث المرتبة، وليس متعيّناً في المرتبة الضعيفة ليكون أخصّ مطلقاً من النفي‏

 

[1] مستدرك الوسائل 1: 222، الباب 6 من أبواب الأسآر، الحديث 1

[2] ( الجعفريات) المطبوع ضمن قرب الإسناد: 23

329

بعد نقل الرواية عن الكلينيّ ذكر: أنّ الشيخ روى مثله‏[1]، وهذا يدلّ على أنّ النسخة التي كانت عند الشيخ الحرّ من كتاب الشيخ كانت مطابقةً للكافي، ومع التهافت في نسخ كتاب الشيخ يبقى كتاب الكافي سليماً عن المعارض.

والتقريب الأوّل مبنيّ على كلّيّة القاعدة القائلة بتقديم أصالة عدم الزيادة على أصالة عدم النقيصة، مع أ نّها ممنوعة، فإنّ الزيادة قد تكون جملةً، وقد تكون‏مثل كلمة «لا». ومن الواضح أنّ استبعاد أن ينقل الراوي «لا يتوضّأ» ب «يتوضّأ» ليس بأقلّ غرابةً من العكس!

والتقريب الثاني تامّ صغرىً، ولكنّ مطلق الأضبطيّة لا يوجب حجّيته مع وجود المعارض ما لم تكن الأضبطية موجبة للإطمئنان الشخصي، كما هو الحال في سائر موارد التعارض بين الروايات.

والتقريب الثالث غير تامٍّ؛ لأنّ مجرّد كون الأنسب هو الإتيان بصيغة التثنية لا يعيِّن اللفظ الصادر، بل إنّ المناسبات التعبيرية والسياقية تستعمل لاستظهار المعنى بعد تعيّن اللفظ. وأمّا إذا كان اللفظ الصادر مردّداً بين صيغتين وكانت إحداهما أنسب بقواعد التعبير لم يكفِ ذلك لإثبات صدورها ما لم يحصل الاطمئنان الشخصي.

فلعلّ أوجه التقريبات التقريب الرابع.

ولكن هل يمكن الاعتماد حقّاً على كلمة «مثله» في كلام صاحب الوسائل لإثبات تطابق النقلين، مع أ نّه في جملةٍ من الموارد يعبِّر بذلك مع وجود نحوٍ من الاختلاف؟!

الرابع: أن يقال: إنّ الطائفة الاولى‏ المطلقة لها معارض، وهو ما ورد عن‏

 

[1] وسائل الشيعة 1: 234، الباب 7 من أبواب الأسآر، ذيل الحديث 1

328

وينتج ذلك الالتزام بفردين من البأس:

أحدهما: البأس النفسيّ بلحاظ عنوان الحائض.

والآخر: البأس بلحاظ المعرضية للنجاسة، والثاني لا يشمل المأمونة، والأوّل يشملها.

الثاني: بعد فرض وحدة البأس المنظور إليه في تمام تلك الروايات يلتزم بالتعارض بين الطائفة الثانية- الصريحة في التفصيل بين المأمونة وغير المأمونة- والطائفة الثالثة، والرجوع بعد ذلك إلى الطائفة الاولى؛ باعتبارها مرجعاً فوقياً بعد سقوط المخصّص بالمعارضة.

الثالث: أن يقال: إنّ الطائفة الثالثة- أي رواية العيص- إنّما تكون صريحةً في الإطلاق بصيغتها المتقدّمة، مع أ نّه قد وقع تهافت في متنها، إذ رواها الشيخ الطوسيّ في التهذيب‏[1] والاستبصار[2] عن نفس الراوي، والراوي عنه وبنفس العبارة، لكن مع إسقاط كلمة «لا»، وإذا سقطت رواية العيص بالتهافت تعيَّن تقييد الطائفة الثانية.

ولكن قد يقال بترجيح نقل الكافي المشتمل على كلمة «لا»:

إمّا لأنّ أصالة عدم الزيادة مقدّمة على أصالة عدم النقيصة.

وإمّا لأضبطيّة الكلينيّ من الشيخ في النقل.

وإمّا لأنّ سقوط كلمة «لا» يناسب مع استعمال المثنّى، والقول: «إذا كانتا مأمونتين» بدلًا عن القول: «إذا كانت مأمونة».

وإمّا لوقوع التهافت في نفس نسخ كتاب الشيخ، بقرينة أنّ صاحب الوسائل‏

 

[1] تهذيب الأحكام 1: 222، الحديث 633

[2] الاستبصار 1: 17، الحديث 31

327

الطامث أشربُ من فضل شرابها ولا احبّ أن أتوضّأ منه»[1] فإنّ بيان النهي بلسان عدم المحبوبية إنّما يحسن عرفاً في المكروه، لا في الحرام، فيكون سياق التعبير ظاهراً في عدم اللزوم، إلّاأنّ سند الرواية ضعيف.

وأمّا لو افترضنا صحّة أسانيد الطوائف الثلاث فسوف يقع الإشكال من ناحية الاختلاف الواقع بينها، ويمكن علاجه بأحد وجوه:

الأوّل: أن يقال: إنّ الظاهر من الطائفة الاولى‏ والطائفة الثالثة كون النهي عن سؤر الحائض بما هو سؤر الحائض، أي بلحاظ جنبة الحدث، لا بلحاظ جنبة الخبث؛ تحفّظاً على ظهور أخذ عنوان الحائض في الموضوعية.

وأمّا الطائفة الثانية التي تنفي البأس، فالبأس المنفيّ عن سؤر الحائض المأمونة فيها مطلق شامل للبأس من ناحية مَعْرَضية الحائض للنجاسة، ولا يختصّ بالبأس من ناحية كون السؤر سؤر امرأةٍ حائض لو لم نقل بالاختصاص بالبأس الأوّل.

والقرينة على إطلاق البأس المنفيّ هو نفس قيد الائتمان، فإنّ أخذَ عنوان المأمونة يدلّ بمناسبات الحكم والموضوع على النظر في البأس المنفيّ- ولوبالإطلاق- إلى البأس الذي يكون للائتمان دخل في نفيه، وهو البأس الناشئ من المعرَضية للنجاسة.

وإذا كان البأس المنفيّ في الطائفة الثانية مطلقاً شاملًا لكلا البأسين أمكن تقييد هذا الإطلاق بحمل البأس المنفيّ في الطائفة الثانية على البأس الناشئ من المعرضية للنجاسة، والمقيِّد هو ظهور الطائفة الثالثة في إثبات فردٍ من البأس النفسيّ، باعتبار كون المرأة حائضاً ولو كانت مأمونة.

 

[1] وسائل الشيعة 1: 238، الباب 8 من أبواب الأسآر، الحديث 8

326

نعم، ورد مثل هذا السند في كامل الزيارات‏[1]، ولكنّا لا نبني على توثيق كلّ رجال السند في كامل الزيارات، بل خصوص مشايخ صاحب الكتاب.

كما أنّ رواية ابن أبي يعفور التي ذكرناها في الطائفة الثالثة ضعيفة سنداً أيضاً ب (المعلّى) بن محمد.

وعليه فإذا تمّت المناقشة في كلّ تلك الأسانيد لم يبقَ إلّاالطائفة الاولى، وبذلك تنحلّ المعارضة، ويبقى الكلام حينئذٍ في وجه الحمل على الكراهة مع ظهور النهي في اللزوم، ورفع اليد عن هذا الظهور يتمّ بأحد بيانين:

إمّا دعوى انصراف النهي إلى كونه بلحاظ حيثية النجاسة، وحينما ينضمّ إليه الإذن في الشرب- مع أنّ شرب النجس حرام أيضاً- يفهم منه عرفاً أنّ النهي عن الوضوء إنّما هو لاحتمال النجاسة غير المنجّزة؛ لعدم عرفية التبعيض في التنجيز.

وإمّا دعوى أنّ المورد من موارد احتمال القرينة المتّصلة تطبيقاً لكبرى حقّقناها، وهي: أ نّه في كلّ موردٍ لا يوجد فيه قائل معتدّ به باللزوم بين المسلمين يحتمل على هذا الأساس أن يكون عدم اللزوم أمراً ارتكازياً في أذهان المتشرّعة في عصر الأئمّة عليهم السلام بحيث يشكّل- على فرض وجوده- قرينةً لبّيةً متّصلةً على صرفِ الأمر والنهي عن اللزوم، ومع احتمال ذلك يكون المورد من موارد احتمال القرينة المتّصلة، وهو موجب للإجمال، كما حقّقناه في الاصول‏[2]، كاحتمال قرينية المتّصل.

وأمّا دعوى قرينية رواية أبي هلال، قال: قال أبو عبد اللَّه عليه السلام: «المرأة

 

[1] كامل الزيارات: 65، الحديث 50

[2] بحوث في علم الاصول 4: 269- 270