بحوث في شرح العروة الوثقى ج ۲
325

وأمّا الطائفة الثانية فتتمثّل في رواية عليّ بن يقطين، وهي وإن عُبِّر عنها في كلام السيّد الاستاذ[1] وفي المستمسك‏[2] بالموثّقة ولكنّها ليست كذلك؛ لأنّ الشيخ يرويها باسناده إلى عليّ بن الحسن بن فضّال، عن أيوب، عن محمد، عن عليّ‏[3]، وإسناد الشيخ إلى عليّ بن الحسن بن فضّال ضعيف؛ لوجود من لم يوثّق فيه، وهو عليّ بن محمد بن الزبير.

وقد ألحقنا بروايةِ عليِّ بن يقطين روايةَ ابن إدريس في السرائر، عن كتاب محمد بن عليَّ بن محبوب، وحيث إنّ طريقه إليه غير معلومٍ فهي أيضاً ساقطة سنداً.

اللهمَّ إلّاأن يقال: إنّ ما استطرفه ابن إدريس من كتاب محمد بن عليّ ابن‏محبوب قد أخذه من نسخةٍ للكتاب بخطّ الشيخ الطوسي، كما صرّح بذلك في‏سرائره‏[4]، وحينئذٍ يكون طريق الشيخ هو طريق ابن إدريس، بعد قبول شهادةابن إدريس بأنّ النسخة بخطّ الشيخ؛ لأنّها قابلة للاستناد إلى ما يشبه الحسّ.

وأمّا الطائفة الثالثة: فتتمثّل في رواية العيص، وقد رواها الشيخ بإسناده إلى عليّ بن الحسن بن فضّال، وهو غير صحيحٍ كما عرفت، ورواها الكلينيّ بسندٍ وقع في أوّله: محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان. ومحمد هذا مردّد، ولم تثبت وثاقته على جميع التقادير.

 

[1] التنقيح 1: 442

[2] مستمسك العروة الوثقى 1: 272

[3] تهذيب الأحكام 1: 221، الحديث 632

[4] السرائر 3: 601

324

الثالثة: مادلّت على النهي عن الوضوء من سؤر الحائض المأمونة أيضاً.

ففي رواية العيص قال: سألت أبا عبد اللَّه عليه السلام عن سؤر الحائض؟ فقال:

«لا توضّأ منه، وتوضّأ من سؤر الجنب إذا كانت مأمونة»[1]. فبقرينة التقييد في الجملة الثانية يعرف أنّ النهي في الجملة الاولى عن سؤر الحائض يشمل المأمونة أيضاً.

ومثلها رواية ابن أبي يعفور، قال: سألت أبا عبد اللَّه عليه السلام أيتوضّأ الرجل من فضل المرأة؟ قال: «إذا كانت تعرف الوضوء، ولا تتوضّأ من سؤر الحائض»[2]. فإنّ تقييد الجملة الاولى بمعرفة الوضوء وإطلاق النهي عن سؤر الحائض في الجملة الثانية ظاهر عرفاً في النظر إلى تعميم النهي في الحائض، حتّى إلى من تعرف الغسل والتطهير.

وكلّ هذه الطوائف لا تدلّ على النهي عن غير الوضوء من سؤر الحائض، بل يدلّ بعضها على عدم النهي عن الشرب، فهي من هذه الناحية غير متنافية، وإنّما التنافي بلحاظ موضوعها، وكونه شاملًا للمأمونة أيضاً بالإطلاق في الاولى، وبالصراحة العرفية في الثالثة، ومقيّداً بعدمها في الثانية.

وعلاج ذلك: تارةً بالالتفات إلى الناحية السنديّة، واخرى مع افتراض صحة السند في الطوائف الثلاث.

أمّا مع الالتفات إلى ناحية السند فيزول الإشكال؛ لأنّ الطائفة الاولى فيها روايات تامّة سنداً، كرواية عنبسة المتقدمة بناءً على توثيقه برواية ابن أبي عمير عنه، ورواية عليّ بن جعفر التي نقلها صاحب الوسائل‏[3] عن كتابه، وغيرهما.

 

[1] وسائل الشيعة 1: 234، الباب 7 من أبواب الأسآر، الحديث 1

[2] وسائل الشيعة 1: 236، الباب 8 من أبواب الأسآر، الحديث 3

[3] وسائل الشيعة 1: 237، الباب 8 من أبواب الأسآر، الحديث 4

323

وكذا سؤر الحائض (1).

————–

حكم بعض الأقسام والسكوت عن الباقي- وسلّم أنّ المفهوم له كلّية، فلا يستفاد منه أنّ الحزازة بعنوان كون الحيوان مكروه اللحم، كما هو واضح.

***

(1) روايات الباب عدّة طوائف:

الاولى: ما دلّت على النهي عن الوضوء من سؤر الحائض دون الشرب منه، كرواية عَنْبَسَة، عن الصادق عليه السلام قال: «اشرب من سؤر الحائض ولا تتوضّأ منه»[1]. الثانية: ما دلّت على إناطة النهي عن الوضوء من سؤر الحائض بعدم كونها مأمونة. ففي رواية عليّ بن يقطين، عن أبي الحسن عليه السلام: في الرجل يتوضّأ بفضل الحائض، قال: «إذا كانت مأمونةً فلا بأس»[2]. وقد تكون من روايات هذه الطائفة أيضاً: ما رواه في السرائر نقلًا من كتاب محمد بن عليّ بن محبوب، بإسناده إلى رفاعة، عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال:

سمعته يقول: «إنّ سؤر الحائض لا بأس أن يتوضأ منه إذا كانت تغسل يديها»[3]. وذلك بأن يفهم من القيد في قوله: «إذا كانت تغسل يديها» ما يساوق قوله في رواية عليّ بن يقطين: «إذا كانت مأمونة»، بمعنى أ نّها إذا كانت من عادتها التحفّظ والتطهير.

 

[1] وسائل الشيعة 1: 236، الباب 8 من أبواب الأسآر، الحديث 1

[2] وسائل الشيعة 1: 237، الباب 8 من أبواب الأسآر، الحديث 5

[3] السرائر 3: 609، وعنه في وسائل الشيعة 1: 238، الباب 8 من أبواب الأسآر، الحديث 9

322

ما عدا المؤمن (1)، والهرّة على قول (2).

وكذا يكره سؤر مكروه اللحم، كالخيل والبغال والحمير (3).

————–

(1) إمّا للقصور في نفس إطلاق دليل الكراهة، كما عرفت. وإمّا لِمَا دلّ على الفضيلة في سؤره.

(2) إمّا للقصور في نفس إطلاق دليل الكراهة، على ما تقدّم من الاستشكال في استفادة الكلّية منه. وإمّا لقوله في رواية زرارة: «وإنّي لأستحيي من اللَّه أن أدعَ طعاماً لأنّ الهرّ أكل منه»[1]، إذ لاحياء في ترك المكروه.

(3) إمّا بدعوى أنّ المفهوم عرفاً ممّا دلّ على كراهة سؤر ما يحرم أكل لحمه وجود ملازمةٍ بين حزازة اللحم وحزازة السؤر، غاية الأمر أنّ الاولى كلّما كانت أشدّ كانت حزازة السؤر أشدّ.

وإمّا بدعوى وجود المفهوم في رواية سماعة، قال: سألته هل يشرب سؤر شي‏ءٍ من الدوابّ ويتوضّأ منه؟ قال: «أمّا الإبل والبقر والغنم فلا بأس»[2]. وكلتا الدعوَيين محلّ نظر.

أمّا الاولى فلوضوح أنّ مورد الدليل المذكور الحزازة اللزومية للَّحم، فاستفادة أنّ المراتب النازلة من هذه الحزازة أيضاً توجب حزازة في السؤر بلا موجب.

وأمّا الثانية فلأ نّه لو سلّم المفهوم في رواية سماعة، وأنّ قوله: «أمّا الإبل والبقر والغنم فلا بأس» مسوق مساق الحصر- لا مساق التفصيل والاقتصار على‏

 

[1] وسائل الشيعة 1: 227، الباب 2 من أبواب الأسآر، الحديث 2

[2] وسائل الشيعة 1: 232، الباب 5 من أبواب الأسآر، الحديث 3

321

أو كان من المسوخ (1)، أو كان جلَّالًا (2).

نعم، يكره سؤر حرام اللحم (3)،

————–

(1) لدخوله تحت الكبرى بعد البناء على طهارة المسوخ. وسيأتي‏[1] الكلام عن طهارتها ونجاستها في البحوث المقبلة إن شاء اللَّه تعالى.

(2) لِمَا اشير إليه في المسوخ.

نعم، قد يتوهّم: أنّ النهي عن سؤر ما لا يؤكل لحمه شامل للمحرّم بالذات والمحرّم بالعرض، وفي الأوّل وردت قرينة على نفي الحرمة، ولم يرد مثل ذلك في الثاني، فيحكم بلزوم الاجتناب في الثاني دون الأوّل.

لكن يرد عليه: أنّ اللزوم واللا لزوم مدلولان للخطاب، وليسا بحكم العقل، وبعد قيام القرينة على عدم اللزوم في المحرّم بالذات يتعيَّن حمل الدليل على التنزّه، ولا يبقى مجال لاستفادة اللزوم منه.

(3) لروايتي: عبد اللَّه بن سنان وعمّار المتقدّمتين، وإن كان إثبات الكلّيّة بمفهوم الوصف فيهما مشكلًا، فإنّ مفهوم الوصف يدلّ على الانتفاء عند الانتفاء بنحو القضية المهملة، كما بيّنّاه في الاصول‏[2]. ورواية الوشّاء، عمّن ذكره، عن أبي عبد اللَّه عليه السلام: «أ نّه كان يكره سؤر كلّ شي‏ءٍ لا يؤكل لحمه»[3]. ودلالتها على الكلّية لا بأس بها، ولكنّ سندها ساقط.

 

[1] في الجزء الرابع: 46، المسألة 1

[2] بحوث في علم الاصول 3: 199 وما بعدها

[3] وسائل الشيعة 1: 232، الباب 5 من أبواب الأسآر، الحديث 2

320

وإن كان حرام اللحم (1).

————–

علِّل النهي عن سؤر الكلب بنجاسته، ولكن من المعلوم أنّ هذا بمجرّده لا يكفي لاستفادة الكبرى؛ لأنّ مقتضى التعليل إسراء الحكم المعلّل إلى سائر موارد العلّة، وليس له مفهوم يقتضي كون العلّة المذكورة علّةً منحصرة.

***

(1) لدخوله تحت الكبرى السابقة، والتصريح ببعض أفراده في تلك الروايات. غير أنّ البعض‏[1] ذهب إلى وجوب الاجتناب عن سؤر الحيوانات التي لا يؤكل لحمها استناداً إلى رواية عمّار، عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: سئل عمّا تشرب منه الحمامة؟ فقال: «كلُّ ما اكِلَ لحمه فتوضّأ من سؤره واشرب»[2]. ورواية عبد اللَّه بن سنان، عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: «لا بأس أن تتوضّأ ممّا شرب منه ما يؤكل لحمه»[3]. فإنّهما تدلّان- بمفهوم الوصف أو مفهوم التحديد- على البأس في ما لا يؤكل لحمه، وهذا البأس إذا ادّعي إلى جانبه ارتكاز طهارة العين التي لا يؤكل لحمها فنفس هذا الارتكاز وارتكاز أنّ الطاهر لا ينجس يكون قرينةً على صرفه عن الدلالة على نجاسة العين نفسها إلى الحزازة في السؤر. وعلى أيّ حالٍ لا بدّ من حمل هذه الحزازة على التنزّه والكراهة، جمعاً بينها وبين الروايات السابقة.

 

[1] انظر المبسوط في فقه الإماميّة 1: 10 والمهذّب 1: 25

[2] وسائل الشيعة 1: 230، الباب 4 من أبواب الاسآر، الحديث 2

[3] وسائل الشيعة 1: 231، الباب 5 من أبواب الأسآر، الحديث 1

319

كما هو الواقع في أخبار السؤر في المقام- فالأمر واضح، كما في رواية معاوية، قال: سأل عذافر أبا عبد اللَّه عليه السلام- وأنا عنده- عن سؤر السُنُّور، والشاة، والبقرة، والبعير، والحمار، والفرس، والبغال، والسباع يشرب منه، أو يتوضّأ منه؟ فقال:

«نعم، اشرب منه وتوضّأ». قال: قلت له: الكلب؟ قال: «لا». قلت: أليس هو سبع؟! قال: «لا واللَّه إنّه نجس»[1]. ورواية أبي العباس، قال: سألت أبا عبد اللَّه عليه السلام عن فضل الهرّة، والشاة، والبقرة، والإبل، والحمار، والخيل، والبغال، والوحش، والسباع، فلم أترك شيئاً إلّا وسألته عنه؟ فقال: «لا بأس به»، حتّى انتهيت إلى الكلب، فقال: «رجس نجس لا تتوضّأ بفضله»[2]. ورواية محمد بن مسلم، عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: سألته عن الكلب يشرب من الإناء؟ قال: «اغسل الإناء». وعن السنور؟ قال: «لا بأس أن يتوضّأ بها، إنّما هي من السباع»[3]. ويمكن أن يستفاد من هذه الروايات كبرى أنّ سؤر كلّ طاهرٍ طاهر: إمّا بلحاظ انتزاع هذا العنوان وانسياقه إلى الذهن من الأمثلة الكثيرة، التي حكم بنفي البأس عن سؤرها وفضلها في الخبرين الأوَّلين. وإمّا بلحاظ تعليل نفي البأس عن فضل السنّور بالسَبُعِيَّة بعد إرجاع التعليل بالسَّبعيّة إلى التعليل بما هو مفروض في السبع من الطهارة، لا لخصوصيّة السَّبعيّة.

وقد تستفاد الكبرى المذكورة من مفهوم التعليل في الخبرين الأوّلين، حيث‏

 

[1] وسائل الشيعة 1: 266، الباب 1 من أبواب الأسآر، الحديث 6

[2] المصدر السابق: الحديث 4

[3] وسائل الشيعة 1: 228، الباب 2 من أبواب الأسآر، الحديث 3، وفيه:« أن تتوضّأ من فضلها»

318

وسؤر طاهر العين طاهر (1).

————–

أكل منه»[1] ورواية مناهي النبيّ صلى الله عليه و آله: «نهى عن أكل سؤر الفار»[2]– لا يدلّ على‏استقرار اصطلاحٍ في ذلك بحيث يحمل اللفظ الوارد عنهم مطلقاً عليه، ولولم‏تقتضيه مناسبات الحكم والموضوع.

وكذلك أيضاً ما دلّ على إطلاق كلمة «السؤر» على ما باشره الإنسان بغير فمه، كما في رواية عيص بن القاسم في سؤر الحائض، قال: «توضّأ منه، وتوضّأ من سؤر الجنب إذا كانت مأمونةً، ثمّ تغسل يدها قبل أن تدخلها الإناء»[3]، فإنّ قوله: «قبل أن تدخلها الإناء» قرينة على أنّ السؤر طبّق بلحاظ المباشرة باليد.

وعلى أيّ حالٍ فلا إشكال في أنّ سؤر النجس بالمعنى الأعمّ للسؤر نجس على أساس الانفعال بالملاقاة التي لا يفرَّق فيها بين أنحاء الملاقاة وأنحاء الملاقى.

***

(1) وذلك لأنّ طاهر العين: إن كانت طهارته ثابتةً بالأصل فالسؤر أيضاً يحكم بطهارته بالأصل.

وإن كانت ثابتةً بدليلٍ اجتهاديٍّ دالٍّ على طهارة العين ابتداءً فهو يدلّ بالالتزام العرفيّ على طهارة السؤر؛ لعدم تعقّل العرف لتنجيس الطاهر.

وإن كانت ثابتةً بدليلٍ اجتهاديٍّ بلسان طهارة سؤره ونفي البأس عنه به‏

 

[1] وسائل الشيعة 1: 227، الباب 2 من أبواب الأسآر، الحديث 2، وفيه:« لأستحيي من اللَّه»

[2] وسائل الشيعة 1: 240، الباب 9 من أبواب الأسآر، الحديث 7

[3] تهذيب الأحكام 1: 222، الحديث 633

317

فصل‏

سؤر نجس العين- كالكلب والخنزير والكافر- نجس (1)،
————–
(1) السُؤْر: كلمة لا تخلو من غموض؛ لعدم تداولها في العرف الحاضر بنحوٍ يكشف عن تحديد مدلولها الأصلي.
وانعقاد اصطلاح الفقهاء على تسمية كلّ ما باشره جسم حيوانٍ بالسؤر لا يعيّن حمل اللفظ عليه ما لم يحرز وجود الاصطلاح في لغة الأئمّة عليهم السلام، وتعريفات اللغويّين متفاوتة سعةً وضيقاً بنحوٍ لا يحصل الوثوق من ناحيتها.
والمتيقّن من السؤر: ما باشره الحيوان بفمه من الشراب، فكلّ دليلٍ على حكم لهذا العنوان يثبت به جريان الحكم على هذا المتيقّن، وأمّا جريانه على مازاد فيتوقّف على مناسبات الحكم والموضوع. فقد يستظهر منها في دليلٍ شمول السؤر لتمام المعنى الاصطلاحي، ولا يستظهر ذلك في آخر، ففي دليل الحكم بنجاسة السؤر لا بأس باستظهار شمول السؤر لمطلق المباشرة بالمناسبات المركوزة للسراية عرفاً، بخلاف دليل التبرّك بالسؤر مثلًا.
ومجرّد إطلاق كلمة «السؤر» في بعض الروايات على بقية الطعام- كما قد يظهر من رواية زرارة: «فلا بأس بسؤره، وإنّي لأستحيي أن أدع طعاماً لأنّ الهر