کتابخانه
333

إنّ من أوّليات ما يدركه البشر في حياته الاعتيادية، (مبدأ العلّية) القائل:

إنّ لكلّ شي‏ء سبباً. وهو من المبادئ العقلية الضرورية[1]؛ لأنّ الإنسان يجد في صميم طبيعته الباعث الذي يبعثه إلى محاولة تعليل ما يجد من أشياء، وتبرير وجودها باستكشاف أسبابها. وهذا الباعث موجود بصورة فطرية في الطبيعة الإنسانية، بل قد يوجد عند عدّة أنواع من الحيوان أيضاً. فهو يلتفت إلى مصدر الحركة غريزياً؛ ليعرف سببها، ويفحص عن منشأ الصوت؛ ليدرك علّته. وهكذا يواجه الإنسان- دائماً- سؤال: لماذا …؟ مقابل كلّ وجود وظاهرة يحسّ بهما، حتّى إنّه إذا لم يجد سبباً معيّناً، اعتقد بوجود سبب مجهول انبثق عنه الحادث.

 

[1] أشرنا سابقاً إلى أنّ السيّد المؤلّف قدس سره توصّل في كتابه( الاسس المنطقيّة للاستقراء) إلى إمكان الاستدلال على قوانين العلّيّة بالطريقة الاستقرائيّة في ضوء المذهب الذاتي للمعرفة، حتّى لو استبعدنا العلم العقلي القبلي بها. راجع مناقشته رحمه الله للاتّجاه الأوّل من اتّجاهات المذهب التجريبي في الكتاب المذكور.( لجنة التحقيق)

332

331

المفهوم الفلسفي للعالم‏
3

مبدأ العلّيّة

القضايا المبتنية على مبدأ العلّيّة.
لماذا تحتاج الأشياء إلى علّة؟
التعاصر بين العلّة والمعلول.

330

والحيوان، فسوف لن نصل إلى نتيجة ديالكتيكية أيضاً؛ لأنّ الصراع بين البيئة والجهاز العضوي لا يسفر عن التحامهما وتوحّدهما في مركّب أرقى، وإنّما تظلّ الاطروحة والطباق دون تركيب. فالضدّان المتصارعان هنا- البيئة والحيوان- وإن كانا موجودين معاً في نهاية المعركة، ولا يضمحلّ أحدهما خلال الصراع، ولكنّهما لا يتوحّدان في مركّب جديد كما تتوحّد الطبقة الرأسمالية والطبقة العاملة في مركّب اجتماعي جديد.

وأخيراً، فأين الدفعية؟ وأين التكامل في التطوّر البيولوجي عند داروين؟

فإنّ الديالكتيك يؤمن بأنّ التحوّلات الكيفية تحصل بصورة دفعية خلافاً للتغيّرات الكمّية التي تنمو ببطء، كما أ نّه يؤمن أنّ الحركة في اتّجاه متكامل وصاعد دائماً، ونظرية داروين أو فكرة التطوّر البيولوجي تبرهن على إمكان العكس تماماً، فقد بيّن علماء البيولوجيا: بأنّ في الطبيعة الحيّة حالات انتقال تدريجية، كما أنّ فيها حالات انتقال بشكل قفزات مفاجئة[1] كما أنّ التفاعل الذي يحدّده داروين بين الكائن الحيّ والطبيعة ليس من الضروري فيه أن يضمن تكامل الكائن المتطوّر، بل قد يفقد بسبب ذلك شيئاً ممّا كان قد حصل عليه من الكمال طبقاً للقوانين التي يحدّدها في نظريّته للتفاعل بين الحياة والطبيعة، كالحيوانات التي اضطرّت منذ أبعد الآماد إلى العيش في الكهوف وترك حياة النور، ففقدت بصرها في رأي داروين بسبب تفاعلها بمحيطها الخاصّ، وعدم استعمالها لعضو الإبصار في مجالاتها المعيشية، وبذلك أدّى التطوّر في التركيب العضوي إلى الانحطاط، خلافاً للماركسية التي تعتقد أنّ العمليات التطوّرية المترابطة في الطبيعة المنبثقة عن تناقضات داخلية تستهدف التكامل دائماً؛ لأنّها عمليات تقدّمية صاعدة.

 

[1] الروح الحزبية في الفلسفة والعلوم: 44

329

فيحصل تغيّر بسيط آخر، وهكذا تتولّد الميزات بطريقة ميكانيكية، وتواصل وجودها في الأبناء عن طريق الوراثة وهي ساكنة ثابتة، وحين تتجمّع يتكوّن منها أخيراً الشكل الأرقى للنوع الجديد.

وهناك- أيضاً- فرق كبير بين قانون تنازع البقاء في نظرية داروين، وفكرة الصراع بين الأضداد في الديالكتيك؛ فإنّ فكرة الصراع بين الأضداد عند الديالكتيكيين تعبّر عن صراع بين ضدّين يسفر في النهاية عن توحّدهما في مركّب أعلى وفقاً لثالوث الاطروحة والطباق والتركيب. ففي صراع الطبقات- مثلًا- تشبّ المعركة بين الضدّين في المحتوى الداخلي للمجتمع، وهما الطبقة الرأسمالية والطبقة العاملة، وينتهي الصراع بامتصاص الطبقة العاملة للطبقة الرأسمالية، وتوحّد الطبقتين معاً في مجتمع لاطبقي، كلّ أفراده يملكون ويعملون.

وأمّا تنازع البقاء والصراع بين القوي والضعيف في نظرية داروين، فهو ليس صراعاً ديالكتيكياً؛ لأنّه لا يسفر عن توحّد الأضداد في مركّب أرقى، وإنّما يؤدّي إلى إفناء أحد الضدّين والاحتفاظ بالآخر، فهو يزيل الضعاف من أفراد النوع إزالة نهائية ويبقي الأقوياء، ولا ينتج مركّباً جديداً يتوحّد فيه الضعفاء والأقوياء، الضدّان المتصارعان كما يفترض الديالكتيك في ثالوث الاطروحة والطباق والتركيب.

وإذا طرحنا فكرة تنازع البقاء أو قانون الانتخاب الطبيعي بوصفها تفسيراً لتطوّر الأنواع، واستبدلناها بفكرة الصراع بين الحيوان والبيئة الذي يكيّف الجهاز العضوي وفقاً لشروط البيئة، وقلنا: إنّ الصراع بين الحيوان والبيئة- بدلًا عن الصراع بين القوي والضعيف- هو رصيد التطوّر كما قرّره (روجيه غارودي)[1]، أقول: إذا طوّرنا النظرية وفسَّرنا تطوّر الأنواع في ضوء الصراع بين البيئة

 

[1] الروح الحزبية في الفلسفة والعلوم: 43

328

أفراد النوع القديم من ميزات وخصائص عن طريق صدفة ميكانيكية أو أسباب خارجية محدّدة، كالبيئة والمحيط، وكلّ ميزة يحصل عليها الفرد تظلّ ثابتة فيه، وتنتقل بالوراثة إلى أبنائه، وبذلك ينشأ جيل قوي بفضل هذه الميزات المكتسبة.
وفي خضمّ الصراع في سبيل القوت والبقاء بين الأقوياء من هذا الجيل، وبين الضعاف من أفراد النوع الذين لم يظفروا بمثل تلك الميزات، يعمل قانون تنازع البقاء عمله، فيفنى الضعيف ويبقى الأفراد الأقوياء، وتتجمّع المزايا عن طريق توريث كلّ جيل مزاياه التي حصل عليها بسبب ظروفه وبيئته التي عاشها للجيل الذي يتلوه، وهكذا حتّى ينشأ نوع جديد يتمتّع بمجموع المزايا التي اكتسبها أسلافه على مرّ الزمن.
ونحن نستطيع أن ندرك بوضوح مدى التناقض بين نظرية داروين هذه، وبين الطريقة الديالكتية العامة.
فهناك الطابع الميكانيكي للنظرية يبدو بوضوح من خلال تفسير داروين لتطوّر الحيوان بأسباب خارجية، فالميزات والفروق الفردية التي يحصل عليها الجيل القوي من أفراد النوع ليست نتيجة لعملية تطوّرية ولا ثمرة لتناقض داخلي، وإنّما هي وليدة مصادفة ميكانيكية أو عوامل خارجية من البيئة والمحيط، فالظروف الموضوعية التي عاشها الأفراد الأقوياء هي التي أمدّتهم بعناصر قوّتهم وميّزتهم عن الآخرين لا الصراع الداخلي في الأعماق كما يفترض الديالكتيك.
كما أنّ الميزة التي يحصل عليها الفرد بطريقة ميكانيكية- أي: بأسباب خارجية من الظروف التي يعيشها- لا تتطوّر بحركة ديناميكية وتنمو بتناقض داخلي حتّى تُحوّل الحيوان إلى نوع جديد، وإنّما تظلّ ثابتة، وتنتقل بالوراثة دون أن تتطوّر، وتبقى بشكل تغيّر بسيط ساكن، ثمّ تضاف إلى الميزة السابقة ميزة اخرى تتولّد هي الاخرى- أيضاً- ميكانيكياً بسبب الظروف الموضوعية،

327

ّ نتائج عملية طويلة من التطوّر»[1].

والواقع: أنّ الاكتشاف الأوّل هو من الكشوف العلمية التي انتصرت فيها الميتافيزيقا؛ لأنّه برهن على أنّ مبدأ الحياة هو الخلية الحيّة (البروتوبلاسم)، فأزاح بذلك الوهم القائل بإمكان قيام الحياة في أيّ مادّة عضوية تتوفّر فيها عوامل مادّية خاصة، ووضع حدّاً فاصلًا بين الكائنات الحيّة وغيرها؛ نظراً إلى أنّ جرثومة الحياة الخاصّة، هي وحدها التي تحمل سرّها العظيم. فاكتشاف الخلية الحية في نفس الوقت الذي دلّنا على أصل واحد للأجسام الحيّة، دلّنا- أيضاً- على مدى البون بين الكائن الحيّ وغيره.

وأمّا الاكتشاف الثاني فهو الآخر- أيضاً- يُعدّ ظفراً عظيماً للميتافيزيا؛ لأنّه يثبت بطريقة علمية: أنّ جميع الأشكال التي تتّخذها الطاقة- بما فيها الصفة المادّية- هي صفات وخصائص عرضية، فتكون بحاجة إلى سبب خارجي، كما سنوضّح ذلك في الجزء الرابع من هذه المسألة. أضف إلى ذلك: أنّ الاكتشاف المذكور يتعارض مع قوانين الديالكتيك؛ لأنّه يفترض للطاقة كمّية محدودة ثابتة لا تخضع للحركة الديالكتيكية، التي يزعم الجدل الماركسي صدقها على جميع جوانب الطبيعة وظواهرها، وإذا أثبت العلم استثناء جانب في الطبيعة من قوانين الديالكتيك، فقد زالت ضرورته وصفته القطعية.

وأمّا نظرية (داروين) عن تطوّر الأنواع وخروج بعضها من بعض، فهي لا تتّفق- أيضاً- مع قوانين الديالكتيك، ولا يمكن أن تُتّخذ سنداً علمياً للطريقة الديالكتيكية في تفسير الأحداث؛ فإنّ داروين وبعض المساهمين معه في بناء النظرية وتعديلها، يفسّرون تطوّر نوع إلى نوع آخر على أساس ما يظفر به بعض‏

 

[1] لودفيج فيورباخ: 88

326

وجودها. وأمّا أن يكون كلّ من الجزئين أو الحادثين سبباً لوجود الآخر، ومديناً له بوجوده في نفس الوقت، فذلك يجعل الارتباط السببي دائرياً يرجع من حيث بدأ وهو غير معقول.
وأخيراً، فلنقف لحظة عند (أنجلز) وهو يتحدّث عن الارتباط العامّ، وتضافر البراهين العلمية عليه قائلًا:
«على أنّ ثمّة اكتشافات ثلاثة بوجه خاصّ قد تقدّمت بخطوات العمالقة بمعرفتنا، لترابط العمليات التطوّرية الطبيعية:
أوّلًا- اكتشاف الخلية، بصفتها الوحدة التي تنمو منها العضوية النباتية والحيوانية كلّها بطريق التكاثر والتمايز، بحيث لم نعرف بأنّ تطوّر سائر العضويات العليا ونحوها، يتتابعان وفق قانون عام فحسب، بل إنّ قدرة الخلية كذلك على التحوّل، تبيّن الطريق الذي تستطيع العضويات بمقتضاه أن تغيّر أنواعها، فتجتاز بذلك تطوّراً أكثر من أن يكون فردياً.
ثانياً- اكتشاف تحوّل الطاقة الذي يبيّن أنّ سائر القوى المؤثّرة- أوّلًا- في الطبيعة غير العضوية … يبيّن لنا أنّ هذه القوى بمجموعها هي ظواهر مختلفة للحركة الكلّية، تمرّ كلّ منها إلى الاخرى بنسب كمّية معيّنة ..
وأخيراً البرهان الشامل الذي كان (داروين) أوّل من جاء به، والذي ينصّ على أنّ جملة ما يحيط بنا في الوقت الحاضر من منتجات الطبيعة- بما في ذلك البشر- إن هي إلإ

325

وعرّف المادّة بأ نّها:

«هي الواقع الموضوعي المعطى لنا في الإحساس»[1].

أفيكون من مفهوم هذه التعاريف أنّ لينين فصل الديالكتيك عن سائر أجزاء المعرفة البشرية من العلوم، ولم يعتقد باتّصالها به؟! وأ نّه نظر إلى المادّة بصورة تجريدية، ودرسها متغاضياً عمّا فيها من ارتباطات وتفاعلات؟! كلّا؛ فإنّ التعريف لا يعني في كثير أو قليل، تخطّي الارتباط القائم بين الأشياء وإهماله، وإنّما يحدّد لنا المفهوم الذي نحاول الكشف عن روابطه وعلاقاته المتنوّعة؛ ليسهل علينا التحدّث عن تلك الروابط والعلاقات ودرسها.

النقطة الثانية- أنّ الارتباط بين أجزاء الطبيعة لا يمكن أن يكون دورياً.

ونقصد بذلك: أنّ الحادثتين المرتبطتين- كالسخونة والحرارة- لا يمكن أن تكون كلّ منهما شرطاً لوجود الحادثة الاخرى. فالحرارة لمّا كانت شرطاً لوجود الغليان، فلا يمكن أن يكون الغليان شرطاً لوجود الحرارة أيضاً[2].

فلكلّ جزء من الطبيعة- في سجلّ الارتباط العامّ- درجته الخاصّة التي تحدّد له ما يتّصل به من شرائط تؤثّر في وجوده، ومن ظواهر يؤثّر هو في‏

 

[1] ما هي المادّية؟: 39

[2] ولا يمكن أن يؤخذ التفاعل بين الأضداد الخارجية دليلًا على إمكان ذلك؛ لأنّ التفاعل بين الأضداد الخارجية لا يعني أنّ كلّ واحد منها شرط لوجود الآخر وسبب له، بل مردّه في الحقيقة إلى اكتساب كلّ ضد صفة من الآخر لم تكن موجودة عنده. فالشحنة السالبة والموجبة تتفاعلان، لا بمعنى أنّ كلًاّ من الشحنتين وجدت بسبب الشحنة الاخرى، بل بمعنى: أنّ الشحنة السالبة ولّدت حالة انجذاب خاصّ في الشحنة الموجبة، وكذلك العكس.( المؤلّف قدس سره)