کتابخانه
92

91

القسم الثاني: الاستقراء والمذهب التجريبي للمعرفة

تمهيد.
الاتّجاه الأوّل ونزعته اليقينيّة.
الاتّجاه الثاني ونزعته الترجيحيّة.
الاتّجاه الثالث ونزعته السيكولوجيّة.

90

لا تصلح أن تكون إحدى تلك المصادرات الثلاث التي يفتّش عنها المنطق الأرسطي لدعم الدليل الاستقرائي.
وفي رأيي أنّ المنطق الأرسطي لم يخطئ فقط في الاعتقاد بطابع عقلي قبلي لقضيّة ليست من القضايا العقليّة القبليّة، بل أخطأ أيضاً في الاعتقاد بحاجة الدليل الاستقرائي إلى مصادرات قبليّة أيضاً.
ويكفي هنا أن نسجّل رأينا هذا دون أن ندخل في تفاصيله، تاركين ذلك إلى القسم الثالث من هذا الكتاب، حيث نستعرض- بشمول وعمق- النظريّة التي يتبنّاها هذا الكتاب في تفسير الدليل الاستقرائي، والتي تؤكّد أنّ الاستقراء يؤدّي إلى التعميم بدون حاجة إلى أيّ مصادرات قبليّة. وسوف يبدو بوضوح في ضوء تلك النظريّة، أنّ المصادرات الثلاث التي آمن بها المنطق الأرسطي وربط مصير الدليل الاستقرائي بها، يمكن إثباتها جميعاً بالاستقراء نفسه، كما نثبت أيّ تعميم من التعميمات الاخرى عن طريق الدليل الاستقرائي.

89

تقييم عامّ للموقف الأرسطي:

عرفنا سابقاً أنّ المنطق الأرسطي عالج كلّ واحدة من المشاكل الثلاث التي يواجهها الدليل الاستقرائي بافتراض قضيّة عقليّة قبليّة: فمشكلة احتمال الصدفة المطلقة تغلّب عليها بافتراض مبدأ السببيّة، ومشكلة احتمال الصدفة النسبيّة تغلّب عليها بافتراض المبدأ الذي ينفي تكرّر الصدفة النسبيّة على خطّ طويل، ومشكلة احتمال التغيّر وعدم الاطّراد تغلّب عليها بافتراض قضيّة مستنبطة من مبدأ السببيّة تقول: إنّ الحالات المتماثلة تؤدّي إلى نتائج متماثلة.
وهذا الموقف يمكن تجزئته إلى نقطتين رئيسيّتين:
الاولى: إنّ المنطق الأرسطي يؤمن بأنّ الدليل الاستقرائي بحاجة إلى ثلاث مصادرات لا بدّ من افتراضها مسبقاً لكي يتاح للدليل الاستقرائي أن يتغلّب على مشاكله الثلاث، ويؤدّي إلى العلم بالتعميم المطلوب. وما لم نسلّم بتلك المصادرات تسليماً مسبقاً لا يمكن الاعتراف بالعلم الاستقرائي والمناهج الاستقرائيّة في الاستدلال.
الثانية: إنّ المنطق الأرسطي يؤمن بأنّ مبدأ السببيّة، والمبدأ الذي ينفي تكرّر الصدفة النسبيّة، والقضيّة القائلة: إنّ الحالات المتماثلة تؤدّي إلى نتائج متماثلة، هي قضايا عقليّة قبليّة مستقلّة عن التجربة والاستقراء، ومن أجل ذلك وجد فيها المنطق الأرسطي تلك المصادرات الثلاث التي يحتاجها الدليل الاستقرائي.
وكلّ ما تقدّم من مناقشة للمنطق الأرسطي حتّى الآن كان يرتبط بواحدة من تلك القضايا الثلاث، أي بالقضيّة التي تقول: إنّ الصدفة النسبيّة لا تتكرّر على خطّ طويل، وقد استطعنا أن نعرف أنّ هذه القضيّة ليست عقليّة قبليّة، وبذلك‏

88

ممّا يلي:
أوّلًا: إنّ كلّ علم عقلي بشي‏ء (ونريد بالعلم العقلي العلم الذي نحصل عليه بصورة مسبقة على الاستقراء والتجربة) يؤدّي حتماً إلى العلم بما يلازم ذلك الشي‏ء إذا كان العالم معتقداً بالملازمة بين الشيئين.
ثانياً: إنّ القضيّة القائلة ب (أنّ الصدفة النسبيّة لا تتكرّر في عشر تجارب متتابعة) إذا كانت صادقةً صدقت القضيّة الشرطيّة القائلة: لو وجدت الصدفة النسبيّة في تسع تجارب فسوف لن توجد في التجربة العاشرة حتماً. وهذا يعني التلازم بين هاتين القضيّتين.
ثالثاً: إنّا رغم ميلنا إلى الاعتقاد بأنّ تناول اللبن سوف لن يقترن صدفةً بارتفاع الصداع في عشر تجارب متتابعة، لا نميل إلى الاعتقاد بالقضيّة الشرطيّة التي تقول: لو اتّفق في تسع تجارب أن يقترن ارتفاع الصداع بتناول اللبن صدفةً فسوف لن يتكرّر هذا الاقتران في التجربة العاشرة.
وعلى ضوء هذه الامور الثلاثة نستطيع أن نعرف أنّ الاعتقاد بأنّ الصدفة النسبيّة لا تتكرّر عشر مرّات متتابعة ليس علماً عقليّاً، إذ لو كان علماً عقليّاً لأدّى إلى الاعتقاد- بنفس الدرجة- بالقضيّة الشرطيّة الملازمة. وهذا يعني أ نّا نواجه علماً من نوع جديد وغريب على الذهنيّة المنطقيّة التقليديّة، إذ نتعامل مع قضيّتين متلازمتين بطريقتين مختلفتين، فنعتقد بإحداهما ونشكّ في الاخرى.
وهذا العلم الغريب في أطواره بحاجة إلى تفسير لا يربطه بالعلوم العقليّة القبليّة، وإلى ذهنيّة منطقيّة تتناسب مع أطواره الخاصّة به التي يتميّز بها عن العلوم التي يعالجها المنطق الأرسطي. وهذا ما سوف نعرفه في ضوء نظريّة الاحتمال.

87

لم نكن على علم مسبق بأنّ ل (ب) أسباباً اخرى لوجوده في الطبيعة، سوف يكون ميلنا إلى الاعتقاد بسببيّة (أ) ل (ب) أكبر منه فيما إذا كنّا نعلم بأنّ ل (ب) أسباباً اخرى غير أ نّنا لم نعلم بوجودها خلال التجارب التي أجريناها، وذلك لأنّ احتمال وجود (ت) في الافتراض الأوّل، أصغر قيمة من احتمال وجوده في الافتراض الثاني؛ لأنّه في الأوّل يعبّر عن ناتج ضرب احتمالين هما: احتمال أن يكون ل (ب) في الطبيعة سبب آخر، واحتمال أن يكون ذاك الشي‏ء موجوداً فعلًا، بينما لا يعبّر في الافتراض الثاني إلّاعن قيمة احتمالية واحدة.
وهذا الارتباط الوثيق بين العلم الاستقرائي أو الميل الاستقرائي نحو الاعتقاد بالسببيّة، وبين مقدار احتمالات وجود (ت) في التجارب المتعاقبة، لا يمكن للمنطق الأرسطي أن يفسّره على أساس طريقته في تبرير الاستدلال الاستقرائي؛ لأنّ الاستدلال الاستقرائي إذا كان نتيجة علم أوّلي قبلي بأنّ الصدفة النسبيّة لا تتكرّر في خطّ طويل فكلّما حصلنا على خطّ طويل من الاقتران بين ظاهرتين، استنتجنا السببيّة بينهما، دون أن يكون لمقدار احتمالات وجود (ت) أيّ تأثير على ذلك.

الاعتراض السابع [على كلا الأساسين‏]:

إذا افترضنا أنّ الخطّ الطويل الذي نعلم بأنّ الصدفة النسبيّة لا تتكرّر عليه باستمرار يتمثّل في عشر تجارب، فهذا يعني أنّ اقتران تناول اللبن مع ارتفاع الصداع في تسع تجارب متتابعة أمر محتمل، ولكنّه غير محتمل في عشر تجارب متتابعة، من أجل العلم بأنّ الصدفة النسبيّة لا تتكرّر في عشر تجارب متتابعة. ونريد أن نبرهن في هذا الاعتراض على أنّ هذا العلم ليس علماً عقليّاً معطى لنا بصورة مباشرة، بل هو وليد عدد كبير من الاحتمالات، والبرهان يتركّب‏

86

زال العلم الناتج عن جمع تلك الاحتمالات. وهذا يعني أ نّه ليس علماً أوّليّاً قبليّاً، وإلّا لما تزعزع بزوال بعض تلك الاحتمالات.

الاعتراض السادس [على كلا الأساسين‏]:

حينما نقوم بإيجاد (أ) لنلاحظ نوع العلاقة بينه وبين (ب) فيوجد (ب) في التجربة الاولى، نواجه إحدى حالتين:
الاولى: أن نكون متأكّدين من عدم وجود (ت) «نرمز ب (ت) إلى أيّ شي‏ء يمكن أن يكون هو السبب لوجود (ب) عدا (أ)».
والثانية: أن يكون وجود (ت) وعدمه كلاهما محتملًا.
ففي الحالة الاولى يتحتّم على المنطق الأرسطي أن يكتفي بتجربة واحدة للتوصّل إلى العلم بسببيّة (أ) ل (ب) إيماناً منه بمبدأ السببيّة، فما دام ل (ب) سبب على أيّ حال بحكم مبدأ السببيّة، وما دمنا نفترض أنّ (ت) غير موجود، فمن الضروري أن يكون (أ) هو السبب ل (ب). ولا نحتاج في هذه الحالة إلى تكرار التجربة.
وفي الحالة الثانية نجد أنّ العلم بالسببيّة يتوقّف على تكرار التجربة ونجاحها في عدد كبير من المرّات. وفي هذه الحالة نلاحظ أنّ الميل نحو الاعتقاد بسببيّة (أ) ل (ب) يتأثّر- بدرجة كبيرة- بمقدار احتمالات وجود (ت) في تلك التجارب الناجحة، فكلّما كانت احتمالات (ت) أكبر، كان ميلنا إلى الاعتقاد بسببيّة (أ) ل (ب) أبطأ، وكلّما كانت احتمالات (ت) أصغر، كان ميلنا إلى هذا الاعتقاد أكبر.
وهذا يعني أنّ الميل إلى الاعتقاد الاستقرائي بسببيّة (أ) ل (ب) يتناسب عكساً مع مقدار احتمالات وجود (ت) في التجارب الناجحة، ولهذا نجد أ نّا إذا

85

المفيد للعلم فسوف يزول علمنا بالسببيّة نتيجةً لاكتشافنا أنّ واحداً من العشرة كان قد تناول قرص الأسبرين قبيل التجربة.
وهكذا نجد أنّ أيّ حالة من حالات نجاح التجربة في عمليّة الاستقراء تفقد أثرها إذا عرفنا بعد ذلك أ نّه كان إلى جانب (أ) و (ب) شي‏ء ثالث لم نلاحظه حين إجراء التجربة نرمز إليه ب (ت) وهو كافٍ لإيجاد (ب) على أيّ حال.
والمنطق الأرسطي لا يمكنه أن يفسّر هذا الواقع على ضوء طريقته في تبرير الدليل الاستقرائي التي تفترض علماً إجماليّاً قبليّاً (أي قبل الاستقراء والتجربة) وأوّليّاً بأنّ الصدفة لا تتكرّر خلال الاستقراء على خطّ طويل؛ لأنّ هذا العلم القبلي الأوّلي الذي يفترضه المنطق الأرسطي لو كان هو الأساس للاستدلال الاستقرائي واكتشاف سببيّة (أ) ل (ب) لَما تزعزع علمنا بالسببيّة لمجرّد اكتشافنا بعد ذلك وجود (ت) في إحدى التجارب العشر؛ لأنّ هذا الاكتشاف لا يعني إلّا التأكّد من وقوع صدفة واحدة، وهي اقتران الألف بالتاء في تلك التجربة، وهذا لا ينفي بأيّ شكل من الأشكال علمنا المسبق الذي يفترضه المنطق الأرسطي، وهو العلم بأنّ الصدفة لا تتكرّر على خطّ طويل؛ لأنّ هذا العلم المسبق يعني العلم بأنّ الصدفة النسبيّة لا توجد مرّة واحدة على الأقلّ خلال عشر تجارب متتابعة (إذا افترضنا أنّ الخطّ الطويل يتمثّل في عشر تجارب متتابعة). فإذا اكتشفنا بعد ذلك أنّ الصدفة النسبيّة قد وجدت في مرّة لا يكون هذا متعارضاً مع ذلك العلم المسبق، فلماذا يزول ذلك العلم بسبب هذا الاكتشاف؟
إنّ التفسير الوحيد الصحيح لذلك هو أنّ العلم بأنّ الصدفة لا توجد مرّة واحدة على الأقلّ هو وليد ناتج جمع عدد من الاحتمالات، هي: احتمال عدم وجود الصدفة في المرّة الاولى، واحتمال عدم وجودها في المرّة الثانية، وهكذا …، فإذا سقط واحد من هذه الاحتمالات واكتشفنا وجود الصدفة في مرّة

84

الاعتراض الخامس [على كلا الأساسين‏]:

نريد الآن أن نستدلّ على أنّ العلم الإجمالي بأنّ الصدفة لا تتكرّر على خطّ طويل إذا كان موجوداً لدينا حقّاً فهو ليس علماً قبليّاً (أي قبل التجربة والاستقراء) أوّليّاً، كما يفترضه المنطق الأرسطي لكي يجعل منه الأساس العقلي المنطقي للدليل الاستقرائي. وفيما يلي توضيح ذلك:
إنّ العلم الإجمالي الأرسطي يقول: إنّ (أ) و (ب) إذا لم تكن بينهما رابطة سببيّة فلا يتكرّر اقتران أحدهما مع الآخر باستمرار خلال خطّ طويل، وحين نفترض أنّ هذا الخطّ الطويل يعبّر عن عشر تجارب متتابعة يمكننا على هذا الأساس أن نستنتج سببيّة (أ) ل (ب) إذا لاحظنا اقترانهما خلال التجارب المتتابعة عشر مرّات. فإذا كان (أ) مادّة معيّنة نريد امتحان تأثيرها في رفع الصداع، وكان (ب) هو ارتفاع الصداع، وأعطينا تلك المادّة إلى عشرة من المصابين بالصداع فارتفع صداعهم، استنتجنا من ذلك أنّ هذا التكرّر في الاقتران بين استعمال تلك المادّة وارتفاع الصداع ليس صدفة؛ لأنّ الصدفة النسبيّة لا تتكرّر عشر مرّات، بل هو ناتج عن سببيّة تلك المادّة لرفع الصداع.
ولنفترض أ نّنا اكتشفنا بعد ذلك أنّ واحداً على الأقلّ من اولئك العشرة- الذين أجرينا تجاربنا عليهم- كان قد استعمل في تلك اللحظة ودون علم منّا قرصاً من (الأسبرين) الكفيل بإزالة الصداع، ففي هذه الحالة سوف يفقد هذا الاكتشاف تلك التجربة التي اجريت على ذلك الشخص قيمتها ودورها في تكوين الدليل الاستقرائي وإيجاد العلم بالسببيّة بين (أ) و (ب) (أي بين المادّة التي نجري عليها تجاربنا وارتفاع الصداع) وسوف يكون موقفنا تماماً كالموقف الذي نقفه تجاه تسع حالات ناجحة فقط، فإذا كان عشرة هو الحدّ الأدنى للاستقراء