کتابخانه
265

المجتمع الاشتراكي بالتركيب الطبقي باسلوب جديد.
والآخر: أن يستعير المجتمع الاشتراكي من الرأسمالي طريقته في اقتطاع القيمة الفائضة على رأي ماركس، فيساوي بين جميع الأفراد في الاجور.
وللنظريّة والتطبيق اتّجاهان مختلفان في حلّ هذه المشكلة.
فالتطبيق- أو واقع المجتمع الاشتراكي القائم اليوم- يتّجه إلى حلّ المشكلة بسلوك السبيل الأوّل الذي يدفع المجتمع إلى التناقضات الطبقيّة من جديد؛ ولذلك نجد أنّ النسبة بين الدخل المنخفض والدخل الراقي في روسيا تبلغ- على ما قيل- 5% و 5/ 1% تبعاً لاختلاف التقديرات، فقد وجد القادة الاشتراكيّون أنّ من المستحيل عمليّاً تنفيذ المساواة المطلقة والنزول بأعمال العلماء والسياسيّين والعسكريّين إلى مستوى العمل البسيط؛ لأنّ ذلك يجمّد النموّ الفكري، ويعطّل الحياة الفنّية والعقليّة، ويجعل أكثر الأفراد ينصرفون إلى أتفه الأعمال ما دام الأجر هو الأجر مهما اختلف العمل وتعقّد؛ ولهذا السبب نشأت الفوارق والتناقضات في ظلّ التجربة الاشتراكيّة، وقامت السلطة الحاكمة بعد ذلك بتعميق هذه الفوارق والتناقضات وفقاً لطبيعتها السياسيّة، فأنشأت طبقة البوليس السرّي، وميّزت عملها الجاسوسي بامتيازات ضخمة، وسخّرتها لتدعيم كيانها الدكتاتوري، ولم يستيقظ المجتمع بعد أن أسفر الصبح إلّاعن نفس الواقع الذي كانت تمنّيه الاشتراكيّة بالخلاص منه.
وأمّا اتّجاه النظريّة في حلّ المشكلة فقد جاءت إشارة إلى تجديد هذا الاتّجاه في كتاب (ضدّ دوهرنك)، إذ عرض أنجلز المشكلة، وكتب في الجواب عليها:
«كيف سنحلّ إذن مسألة دفع أعلى الاجور عن العمل المركّب وهي مسألة هامّة برمّتها؟ يدفع الأفراد أو عائلاتهم‏

264

ولا تبقى طبقة عاملة واخرى مالكة يكون من الضروري لكلّ فرد أن يعمل ليعيش. كما أنّ القانون الماركسي للقيمة القائل: (إنّ العمل هو أساس القيمة) يجعل لكلّ عامل نصيباً من الإنتاج بالقدر الذي يتّفق مع كمّية عمله، وهكذا يسير التوزيع على أنّ: من كلٍّ حسب طاقته، ولكلٍّ حسب عمله.
وهذا المبدأ يأخذ بالتناقض مع الطبيعة اللاطبقيّة للمرحلة الاشتراكيّة منذ أن يوضع موضع التنفيذ، فإنّ الأفراد يختلفون في أعمالهم تبعاً لاختلاف كفاءاتهم ولنوعيّة العمل ودرجة تعقيده. فهذا عامل لا يطيق من العمل ستّ ساعات، وذلك عامل أقوى منه بنيةً يستطيع أن يعمل عشر ساعات في كلّ يوم، وهذا عامل موهوب يملك من القريحة والنباهة ما يجعله يُدخل تحسينات على طريقة الإنتاج وينتج ضعف ما ينتجه الآخرون، وذلك عامل لم يؤاتِهِ الحظّ قد خُلق للتقليد لا للابتكار، وهذا عامل فنّي مدرّب يمارس إنتاج الأجهزة الكهربائيّة الدقيقة، وذاك عامل بسيط لا يمكن أن يُستخدم إلّافي حمل الأثقال، وثالث يعمل في الحقل السياسي ويتوقّف على عمله مصير البلاد كلّها.
واختلاف هذه الأعمال يؤدّي إلى تفاوت القِيَم التي تخلقها تلك الأعمال.
وليست هذه الألوان الصارخة من التفاوت بين نفس الأعمال أو القِيَم الناتجة عنها مستمدّة من واقع اجتماعي معيّن، بل إنّ الماركسيّة نفسها تعترف بذلك؛ إذ تقسّم العمل إلى: بسيط ومركّب، وترى أنّ قيمة ساعة عمل مركّب شديد التعقيد قد تفوق بأضعاف قيمة ساعة من العمل البسيط.
والمجتمع الاشتراكي إذ يواجه هذه المشكلة لا يوجد أمامه إلّاسبيلان للحلّ:
أحدهما: أن يحتفظ بمبدأ التوزيع القائل: لكلٍّ حسب عمله، فيوزّع الناتج على الأفراد بدرجات مختلفة، وبذلك ينشئ الفروق الطبقيّة مرّة اخرى، فيمنى‏

263

فمن الطبيعي أن لا تجد السلطة تعارضاً بين هذا الهدف المادّي وبين ما تحيط به نفسها من امتيازات ومتعة. ومن الطبيعي أيضاً أن لا يقرّ الجهاز الحاكم الملكيّة العامّة عمليّاً إلّافي حدود الدافع المادّي الذي يدفعه إلى مضاعفة الإنتاج وتنميته.
ولا يبدو غريباً بعد ذلك أن نجد جهاز الدولة في التجربة القديمة وهو يضجّ بخيانات الموظّفين وإثرائهم على حساب الممتلكات العامّة، ونجد ستالين في التجربة الحديثة وهو يضطرّ إلى الاعتراف بأنّ كبار رجال الدولة والحزب قد استغلّوا فرصة انشغال دولتهم بالحرب الأخيرة، فجمعوا الأموال والثروات، حتّى أ نّه أذاع ذلك في منشور عمّمه على جميع أبناء الشعب.
فالتشابه بين التجربتين الاشتراكيّتين واضح كلّ الوضوح في الظواهر والنتائج بالرغم من اختلاف ظروفهما المدنيّة وأشكال الإنتاج فيهما، وهذا يشير إلى أنّ الجوهر في كلتا التجربتين واحد مهما اختلفت الألوان والإطارات.
وهكذا نعرف أنّ كلّ تجربة للتأميم تمنى بنفس النتائج إذا كانت في نفس الإطار السياسي للتجربة الماركسيّة، إطار السلطة المطلقة، وكان المبرّر الموضوعي لها في رأي قادة التجربة هو نفس المبرّر الذي يباشر قادة الماركسيّة تجربتهم على أساسه، وهو تنمية الإنتاج التي هي القوّة الدافعة للتاريخ على مرّ الزمن في مفاهيم المادّية التاريخيّة.

[4- من كلٍّ حسب طاقته، ولكلٍّ حسب عمله:]

وأمّا الركن الأخير من المرحلة الاشتراكيّة فهو- كما سبق- مبدأ التوزيع القائل: من كلٍّ حسب طاقته، ولكلٍّ حسب عمله.
ويرتكز هذا المبدأ- من الناحية العلميّة- على قوانين المادّية التاريخيّة، فإنّ المجتمع بعد أن يصبح طبقة واحدة- بموجب قانون الاشتراكيّة الحديثة-

262

وسائل الإنتاج، وحصلت بسبب ذلك على مكاسب تشابه تماماً المكاسب التي حصلت عليها الاشتراكيّة الماركسيّة في تجربتها. ففي بعض الممالك الهيلينستيّة وفي مصر خاصّة اتّبعت الدولة مبدأ التأميم، وأخضعت الإنتاج والمبادلة لإشرافها، وتولّت بنفسها إدارة معظم فروع الإنتاج، فجلب هذا النظام للدولة فوائد كبيرة، ولكنّه حيث كان ينفّذ في إطار سلطة فرعونيّة مطلقة لم يستطع بعد ذلك أن يخفي جوهره. فإنّ التأميم في ظلّ سلطة مطلقة تنشئ الملكيّة الجماعيّة لتوسعة الإنتاج لا يمكن أن يؤدّي واقعيّاً إلّاإلى تملّك السلطة نفسها، وتحكّمها في الممتلكات المؤمّمة؛ ولهذا ظهرت في التجربة القديمة خيانة الموظّفين، واستبداد السلطة التي كانت تتجسّد في شخص الملك، حتّى قفز الملك إلى درجة (إله)، وأصبحت القوى الهائلة تنفق كلّها لحساب هذا الإله الحاكم، وتحقيق رغباته من بناء المعابد والقصور والقبور.
ولم يكن من الصدفة أن تقترن تجربة التأميم في أقدم العهود الفرعونيّة بنفس الظواهر التي اقترنت بها تجربة التأميم الماركسيّة في العصر الحديث، من التقدّم السريع في حركة الإنتاج وتمتّع السلطة بقوّة تشتدّ وتنمو بشكل هائل، وانحرافها واستبدادها بعد ذلك بالثروة المؤمّمة. فقد تقدّمت حركة الإنتاج في ظلّ التجربة الحديثة للتأميم، كما تقدّمت في ظلّ التأميم الفرعوني؛ لأنّ التسخير غير الحرّ في الإنتاج يثمر دائماً التقدّم السريع الموقّت في حركة الإنتاج. ونشأ التأميم في كلٍّ من التجربتين في ظلّ سلطة عليا لا تعترف لنفسها بحدود؛ لأنّ التأميم حينما يقصد منه تنمية الإنتاج فحسب يتطلّب مثل هذه السلطة الحديديّة.
ونتج عن ذلك في كلٍّ من التجربتين أيضاً استفحال أمر السلطة وتمتّعها بالجوهر الحقيقي للملكيّة؛ لأنّ التأميم لم يقم على أساس روحي أو قناعة بقيَم خُلُقيّة للإنسان، وإنّما قام على أساس مادّي لتحقيق أكبر نصيب من الإنتاج،

261

تملّكه حظّاً قانونيّاً فحسب، وتسمح للطبقة الحاكمة أن تتمتّع بالمحتوى الحقيقي للملكيّة الذي يتمثّل في سيطرتها المطلقة على مقدّرات البلاد وثرواتها. وهكذا تحصل هذه الطبقة على نفس الفرص التي كان الرأسماليّون الاحتكاريّون يتمتّعون بها في المجتمع الرأسمالي، إذ تقف- فوق الأنظمة- وراء كلّ عمل من أعمال الدولة، وتحتكر لنفسها حقّ تمثيل المجتمع اللاطبقي والتصرّف في ممتلكاته، وتصبح- في هذه اللحظة- أقدر من أيّ رأسمالي آخر على سرقة القيمة الفائضة، فما هي الضمانات العلميّة في هذا المجال؟
وإذا أردنا أن نستعير من الماركسيّة لغتها أمكننا القول: بأنّ التأميم في المجتمع الاشتراكي الماركسي يبرز تناقضاً بين الملكيّة الاشتراكيّة للمجموع والجوهر الحقيقي للملكيّة الذي تتمتّع به الطبقة الحاكمة، فإنّ الملكيّة- بجوهرها الواقعي- ليست إلّاالسلطة على الثروة والقدرة على التمتّع بها بمختلف الأساليب.
وهذا الجوهر هو الذي تتمتّع به القوى السياسيّة المهيمنة على كلّ كيانات المجتمع، وينعكس على الصعيد القانوني بشكل امتيازات وحقوق ليست في الحقيقة إلّا ستاراً مزيّفاً، وترجمة قانونيّة لجوهر الملكيّة الحقيقي، غير أنّ هذا المالك الجديد في المجتمع الاشتراكي الماركسي يختلف عن أيّ مالك سابق في نقطة، وهي: أ نّه لا يستطيع أن يعترف بملكيّته قانونيّاً؛ لأنّ ذلك يناقض طبيعة موقفه السياسي.
فالاشتراكيّة بحكم طبيعتها السياسيّة تحمل بذرة هذا المالك الجديد وتخلقه عبر تجربتها، وإن كانت تفرض عليه في نفس الوقت أن ينكر دوره الحقيقي في الحياة الاقتصاديّة وتجعله أكثر حياءً وخجلًا من الرأسمالي الذي كان يعلن بكلّ وقاحة عن ملكيّته الخاصّة.
وليس التأميم في الاشتراكيّة الماركسيّة حدثاً فريداً في التاريخ، فقد وقعت تجارب سابقة لفكرة التأميم عبر التاريخ، إذ قامت بعض الدول القديمة بتأميم كل‏

260

لا تخضع للمراقبة، وتتمتّع بإمكانات هائلة؛ ليتاح لها أن تقبض بيد حديديّة على كلّ مرافق البلاد، وتقسّمها وفقاً لمخطّط دقيق شامل. فالتخطيط الاقتصادي المركزي يفرض على السلطة السياسيّة طبيعة دكتاتوريّة إلى حدّ بعيد، وليست مهمّة تصفية الجوّ من التراث الرأسمالي هي وحدها التي تفرض هذا اللون السياسي من الحكم.

[3- التأميم:]

ونصل بعد هذا إلى التأميم بوصفه الركن الثالث للمرحلة الاشتراكيّة.
والفكرة العلميّة في التأميم تقوم على أساس تناقضات القيمة الفائضة التي تتكشّف عنها الملكيّة الخاصّة لوسائل الإنتاج في رأي ماركس، فإنّ هذه التناقضات تتراكم حتّى يصبح تأميم كلّ وسائل الإنتاج ضرورة تاريخيّة لا محيد عنها.
وقد مرّ بنا الحديث عن هذه التناقضات المزعومة، وكيف أ نّها تقوم على اسس تحليليّة خاطئة؟ ومن الطبيعي أن تمنى النتائج بالخطأ إذا كانت الاسس التي يقوم عليها التحليل مضلّلة وغير صحيحة.
وأمّا الفكرة المذهبيّة في التأميم فتتلخّص في محو الملكيّة الخاصّة وتتويج المجموع بملكيّة وسائل الإنتاج في البلاد؛ ليصبح كلّ فرد- في نطاق المجموع- مالكاً لثروات البلاد كلّها كما يملكها الآخرون.
غير أنّ هذه الفكرة تصطدم بواقعٍ هو الواقع السياسي للمرحلة الاشتراكيّة الذي يتجسّد في طبقة تتمتّع بحكم دكتاتوري مطلق في أجهزة الحزب والدولة.
فلا يكفي في هذه الحال أن تلغى الملكيّة الخاصّة قانونيّاً، ويتمّ الإعلان عن ملكيّة المجموع للثروة؛ ليتمتّع هذا المجموع بملكيّتها حقّاً، ويجد محتواها الحقيقي في حياته التي يعيشها. بل إنّ طبيعة الموقف السياسي سوف تجعل حظّ المجموع في‏

259

موسوعة الإمام الشهيد السيد محمد باقر الصدر قدس سره، ج‏3، ص: 259

ثلاثة وخمسين أميناً، وكذلك سبعين عضواً من أعضاء مجلس الحزب الثمانين، وثلاثة من مارشالات الجيش السوفياتي الخمسة، و 60% تقريباً من مجموع جنرالات السوفيات، وجميع أعضاء المكتب السياسي الأوّل الذي أنشأه لينين بعد الثورة، باستثناء ستالين. كما أدّت عمليّات التطهير إلى طرد ما يزيد على مليونين من أعضاء الحزب‏[1]، وما حلّ عام (1939 م) حتّى كان عدد أعضاء الحزب الرسمي مليونين ونصف المليون عضو، وعدد المطرودين مليوني عضو، وبذلك كاد الحزب الشيوعي المطرود أن يوازي الحزب الشيوعي نفسه.

ولا نرمي من وراء هذا إلى التشهير بالجهاز الحاكم في المجتمع الاشتراكي- وليس التشهير من شأن هذا الكتاب- وإنّما نرمي إلى تحليل المرحلة الاشتراكيّة تحليلًا علميّاً لنجد: كيف تؤدّي بطبيعتها المادّية الدكتاتوريّة إلى ظروف طبقيّة تتمخّض عن ألوان رهيبة من الصراع؟! وإذا بالتجربة التي جاءت لتمحو الطبقيّة قد أنشأتها من جديد.

[2- السلطة الدكتاتوريّة:]

والسلطة الدكتاتوريّة- التي هي الركن الثاني في المرحلة الاشتراكيّة- ليست ضروريّة لأجل تصفية حساب الرأسماليّة فحسب، كما تزعم الماركسيّة؛ إذ تعتبرها ضرورة مؤقّتة تستمرّ حتّى يقضى على كلّ خصائص الرأسماليّة الروحيّة والفكريّة والاجتماعيّة … وإنّما تعبّر عن ضرورة أعمق في طبيعة الاشتراكيّة الماركسيّة المؤمنة بضرورة التخطيط الاقتصادي الموجّه لكلّ شُعَب النشاط الاقتصادي في الحياة. فإنّ وضع مثل هذا التخطيط وتنفيذه يتطلّب سلطة قويّة

 

[1] قيود الملكيّة الخاصّة: 90، نقله عن القانون الدستوري والنظم السياسيّة، القسم الثالث: 72- 75

258

ظلّ التجربة الاشتراكيّة وإن نشأت في داخل الحزب- كما رأينا- إلّاأ نّها من ناحية لا تشمل الحزب كلّه، ومن ناحية اخرى يمكن أن تمتدّ إلى خارج نطاق الحزب، طبقاً للظروف التي تكتنف القيادة ومتطلّباتها.
ولذلك كان من الطبيعي أن تواجه الطبقة المتفرّدة بالامتياز معارضة شديدة في داخل الحزب من الأشخاص الذين لم تستوعبهم تلك الطبقة بالرغم من حزبيّتهم، أو طردتهم من حضيرتها، فأخذوا يعتبرون هذا التركيب الطبقي الجديد خيانة للمبادئ التي ينادون بها.
وكذلك تواجه الطبقة الممتازة معارضة هائلة في خارج الحزب ممّن أتاح الواقع السياسي للفئة الممتازة أن تستثمرهم على شكل امتيازات خاصّة، وحقوق معيّنة، واحتكارات للأجهزة الإداريّة والمرافق الحيويّة في البلاد.
ويبدو من المنطقي بعد ذلك أن تحدث عمليّات تطهير واسعة النطاق- كما يسمّيها الشيوعيّون- بوصفها انعكاساً لتلك الظروف والتناقضات الطبقيّة.
ومن الطبيعي أيضاً أن تكون تلك العمليّات هائلة في صرامتها وشمولها، تبعاً لقوّة المركز الطبقي الذي تتمتّع به الفئة الحاكمة في الحزب والدولة.
ويكفينا لكي نتبيّن مدى الصرامة وقوّة الشمول التي تتّسم بها تلك العمليّات أن نعلم أ نّها كانت تجري في الذروة العليا في كيان الحزب، كما تجري في القاعدة باستمرار وعنف قد يفوق كثيراً العنف الذي تعرضه الماركسيّة كطابع عامّ لأشكال التناقض الطبقي المختلفة في التاريخ. فقد شملت عمليّات التطهير في مرّة تسعة وزراء من أعضاء الوزارة الأحد عشر، الذين كانوا يديرون دفّة الحكومة السوفيّاتيّة عام (1936 م)، وشملت أيضاً خمسة رؤساء من الرؤساء السبعة للجنة السوفيات التنفيذيّة المركزيّة التي وضعت دستور (1936 م)، واكتسحت ثلاثة وأربعين أميناً من امناء سرّ منظّمة الحزب المركزيّة الذين كان يبلغ مجموعهم‏

257

حدّثتنا الماركسيّة عنها: أنّ تلك الطبقات كانت توجد وتنمو- في رأي الماركسيّين- تبعاً لعلاقات الملكيّة القائمة بين الناس، وطبيعة هذه العلاقات هي التي كانت تحدّد اندراج هذا الشخص ضمن هذه الطبقة أو تلك. وأمّا هؤلاء المالكون الجدد في المرحلة الاشتراكيّة فليست طبيعة الملكيّة هي التي تحدّد اندراجهم في الطبقة الحاكمة، فلا يندرج هذا الشخص أو ذاك في الطبقة الحاكمة؛ لأنّ له ملكيّة خاصّة بدرجة معيّنة في المجتمع، كما كانت تفترض الماركسيّة بالنسبة إلى المجتمعات الطبقيّة السابقة، بل العكس هو الذي يصدق على المجتمع الاشتراكي الماركسي، فإنّ هذا أو ذاك يتمتّع بامتيازات خاصّة أو المحتوى الحقيقي للملكيّة؛ لأنّه مندرج في الطبقة الحاكمة.
وتفسير هذا الفرق بين الطبقة في المجتمع الاشتراكي وغيرها من الطبقات واضح، فإنّ هذه الطبقة لم تولد على الصعيد الاقتصادي الذي ولدت عليه سائر الطبقات في زعم الماركسيّة، وإنّما نشأت ونمت على الصعيد السياسي ضمن تنظيم ذي طراز معيّن قائم على اسس فلسفيّة وعقائديّة وفكريّة خاصّة، أي ضمن الحزب الثوري الذي يتزعّم التجربة. فالحزب بنظامه وحدوده الخاصّة هو مصنع هذه الطبقة الحاكمة.
وتنحصر مظاهر هذه الطبقة الحزبيّة فيما يتمتّع به أفراد هذه الطبقة من امتيازات الإدارة غير المحدودة التي تمتدّ من إدارة الدولة وإدارة المؤسّسات الصناعيّة ومشاريع الإنتاج … إلى كلّ مناحي الحياة، كما تنعكس أيضاً في التناقضات الشديدة بين اجور العمّال ورواتب موظّفي الحزب.
وفي ضوء الظروف الطبقيّة التي تؤدّي إليها المرحلة الاشتراكيّة الماركسيّة يمكن أن نفسّر ألوان التناقض والصراع على الصعيد السياسي في العالم الاشتراكي، التي تتمثّل أحياناً في عمليات تطهير هائلة. فإنّ الطبقة الممتازة في‏