الكتاب الأوّل
2
الرأسماليّة المذهبيّة في خطوطها الرئيسيّة.
الرأسماليّة المذهبيّة ليست نتاجاً للقوانين العلميّة.
القوانين العلميّة في الاقتصاد الرأسمالي ذات إطار مذهبي.
دراسة الرأسماليّة المذهبيّة في أفكارها وقيمها الأساسيّة.
الكمّية والكيفيّة في الديالكتيك يؤكّد: أنّ التغيّرات الكيفيّة ليست تدريجيّة، بل تحصل بصورة فجائيّة، وتحدث بقفزة من حالة إلى اخرى، وعلى أساس هذا القانون آمنت الماركسيّة بضرورة الثورة في مطلع كلّ مرحلة تاريخيّة بوصفها تحوّلًا آنيّاً، فكيف بطل هذا القانون عند تحوّل المجتمع من الاشتراكيّة إلى الشيوعيّة؟!
والتحوّل التدريجي السلمي من المرحلة الاشتراكيّة إلى الشيوعيّة كما يناقض قوانين الديالكتيك كذلك يناقض طبيعة الأشياء؛ إذ كيف يمكن أن نتصوّر أنّ الحكومة في المجتمع الاشتراكي تتنازل بالتدريج عن السلطة وتقلّص ظلّها حتّى تقضي بنفسها على نفسها، بينما كانت كلّ حكومة اخرى على وجه الأرض تتمسّك بمركزها، وتدافع عن وجودها السياسي إلى آخر لحظة من حياتها؟! فهل هناك أغرب من هذا التقليص التدريجي الذي تتبرّع بتحقيقه الحكومة نفسها فتسخو بحياتها في سبيل تطوير المجتمع؟! بل هل هناك ما هو أبعد من هذا عن طبيعة المرحلة الاشتراكيّة والتجربة الواقعيّة التي تجسّدها اليوم في العالم؟! فقد عرفنا أنّ من ضرورات المرحلة الاشتراكيّة قيام حكومة دكتاتوريّة مطلقة السلطان، فكيف تصبح هذه الدكتاتوريّة المطلقة مقدّمة لتلاشي الحكومة واضمحلالها نهائيّاً؟! وكيف يمهّد استفحال السلطة واستبدادها إلى زوالها واختفائها؟!
وأخيراً: فلنجنح مع الماركسيّة في أخيلتها، ولنفترض أنّ المعجزة قد تحقّقت، وأنّ المجتمع الشيوعي قد وجد، وأصبح كلّ شخص يعمل حسب طاقته ويأخذ حسب حاجته، أفلا يحتاج المجتمع إلى سلطة تحدّد هذه الحاجة وتوفّق بين الحاجات المتناقضة فيما إذا تزاحمت على سلعة واحدة، وتنظّم العمل وتوزّعه على فروع الإنتاج؟!
وأمّا الركن الثاني للشيوعيّة (زوال الحكومة) فهو أطرف ما في الشيوعيّة من طرائف. وتقوم الفكرة فيه على أساس رأي المادّية التاريخيّة في تفسير الحكومة القائل: بأنّ الحكومة وليدة التناقض الطبقي؛ لأنّها الهيئة التي تخلقها الطبقة المالكة لإخضاع الطبقة العاملة لها. ففي ضوء هذا التفسير لا يبقى للحكومة أيّ مبرّر في مجتمع لا طبقي بعد أن يتخلّص من كلّ آثار الطبقيّة وبقاياها، ويصبح من الطبيعي أن تتلاشى الحكومة تبعاً لزوال الأساس التاريخي لها.
ومن حقّنا أن نتساءل عن هذا التحوّل الذي ينقل التاريخ من مجتمع الدولة إلى مجتمع متحرّر منها، من المرحلة الاشتراكيّة إلى المرحلة الشيوعيّة:
كيف يتمّ هذا التحوّل الاجتماعي؟ وهل يحصل بطريقة ثوريّة وانقلابيّة فينتقل المجتمع من الاشتراكيّة إلى الشيوعيّة في لحظة حاسمة كما انتقل من الرأسماليّة إلى الاشتراكيّة، أو أنّ التحوّل يحصل بطريقة تدريجيّة فتذبل الدولة وتتقلّص حتّى تضمحلّ وتتلاشى؟
فإذا كان التحوّل ثوريّاً آنيّاً، وكان القضاء على حكومة البروليتاريا سيتمّ عن طريق الثورة فمن هي الطبقة الثائرة التي سيتمّ على يدها هذا التحوّل؟ وقد علّمتنا الماركسيّة أنّ الثورة الاجتماعيّة على حكومة إنّما تنبثق دائماً من الطبقة التي لا تمثّلها تلك الحكومة، فلا بدّ إذن في هذا الضوء أن يتمّ التحوّل الثوري إلى الشيوعيّة على أيدي غير الطبقة التي تمثّلها الحكومة الاشتراكيّة، وهي طبقة البروليتاريا، فهل تريد الماركسيّة أن تقول لنا: إنّ الثورة الشيوعيّة تحصل على أيدي رأسماليّين مثلًا؟!
وإذا كان التحوّل من الاشتراكيّة وزوال الحكومة تدريجيّاً فهذا يناقض- قبل كلّ شيء- قوانين الديالكتيك التي ترتكز عليها الماركسيّة، فإنّ قانون
من موارد ومعادن وأنهار.
ومن سوء الحظّ أنّ قادة التجربة الماركسيّة حاولوا أن يخلقوا الجنّة الموعودة على الأرض ففشلوا، وظلّت التجربة تتأرجح بين الاشتراكيّة والشيوعيّة، حتّى أعلنت بصراحة عجزها عن تحقيق الشيوعيّة بالفعل، كما تعجز كلّ تجربة تحاول اتّجاهاً خياليّاً يتناقض مع طبيعة الإنسان. فقد اتّجهت الثورة الاشتراكيّة في بادئ الأمر اتّجاهاً شيوعيّاً خالصاً، إذ حاول لينين أن يكون كلّ شيء شائعاً بين المجموع، فانتزع الأرض من أصحابها، وجرّد الفلّاحين من وسائل إنتاجهم الفرديّة، فتمرّد الفلّاحون وأعلنوا إضرابهم عن العمل والإنتاج، فنشأت المجاعة الهائلة التي زعزعت كيان البلاد، وأرغمت السلطة على العدول عن تصميمها، فردّت للفلّاح حقّ التملّك، واستعادت البلاد حالتها الطبيعيّة، إلى أن جاءت سنة (28- 30) فحدث انقلاب آخر اريد به تحريم الملكيّة من جديد، فاستأنف الفلّاحون ثورتهم وإضرابهم، وأمعنت الحكومة في الناس قتلًا وتشريداً، وغصّت السجون بالمعتقلين، وبلغت الضحايا- على ما قيل- مئة ألف قتيل باعتراف التقارير الشيوعيّة، وأضعاف هذا العدد في تقدير أعدائها. وراح ضحيّة المجاعة الناجمة عن الإضراب والقلق سنة (1932 م) ستّة ملايين نسمة باعتراف الحكومة نفسها، فاضطرّت السلطة إلى التراجع، وقرّرت منح الفلّاح شيئاً من الأرض وكوخاً وبعض الحيوانات للاستفادة منها على أن تبقى الملكيّة الأساسيّة للدولة، وينضمّ الفلّاح إلى جمعيّة (الكلخوز الزراعيّة الاشتراكيّة)[1] التي تتعهّدها الدولة، وتستطيع أن تطرد أيّ عضو منها متى شاءت.
[1] راجع تاريخ الملكيّة: 123- 126، والملكيّة في النظام الاشتراكي: 391- 395
أمّا محو الملكيّة الخاصّة في كلّ المجالات فهو لا يستمدّ وجوده في المذهب من قانون علمي للقيمة كما كان تأميم وسائل الإنتاج الرأسمالي يقوم على أساس نظريّة القيمة الفائضة والقانون الماركسي للقيمة، وإنّما تقوم الفكرة في تعميم التأميم على افتراض أنّ المجتمع يبلغ بفضل النظام الاشتراكي درجة عالية من الثروة، كما تنمو القوى المنتجة نموّاً هائلًا، فلا يبقى موقع للملكيّة الخاصّة لبضائع الاستهلاك، فضلًا عن ملكيّة وسائل الإنتاج؛ لأنّ كلّ فرد سوف يحصل في المجتمع الشيوعي على ما يحتاج إليه، ويتوق إلى استهلاكه في أيّ وقت شاء، فأيّ حاجة له في الملكيّة الخاصّة؟!
وعلى هذا الأساس يقوم مبدأ التوزيع في المجتمع الشيوعي على قاعدة:
أنّ لكلٍّ حسب حاجته لا حسب عمله، أي أنّ كلّ فرد يُعطى قدر ما يُشبع رغبته ويحقّق سائر طلباته؛ لأنّ الثروة التي يملكها المجتمع قادرة على إشباع كلّ الرغبات.
ونحن لا نعرف فرضيّة أكثر إمعاناً في الخيال وتجنيحاً في آفاقه البعيدة من هذه الفرضيّة التي تعتبر: أنّ كلّ إنسان في المجتمع الشيوعي قادر على إشباع جميع رغباته وحاجاته إشباعاً كلّياً، كما يشبع حاجته من الهواء والماء، فلا تبقى ندرة ولا تزاحم على السلع، ولا حاجة إلى الاختصاص بشيء.
ويبدو من هذا أنّ الشيوعيّة كما تصنع المعجزات في الشخصيّة الإنسانيّة، فتحوّل الناس إلى عمالقة في الإنتاج بالرغم من انطفاء الدوافع الذاتيّة والأنانيّة في ظلّ التأميم كذلك تصنع المعجزة مع الطبيعة نفسها، فتجرّدها عن الشحّ والتقتير، وتمنحها روحاً كريمة تسخو دائماً بكلّ ما يتطلّبه الإنتاج الهائل
يخلقها غيره في ساعتين بسبب من كفاءته الطبيعيّة، لا من تدريس سابق. فهل يأخذ هذا العامل ضِعف ما يأخذه غيره، فيمنى المجتمع الاشتراكي بالفوارق والتناقضات، أو يساوى بينه وبين غيره ولا يُعطى إلّانصف ما يخلقه من القيمة، فيرتكب المجتمع الاشتراكي بذلك سرقة القيمة الفائضة؟!
وهكذا يتلخّص: أنّ الحكومة في المرحلة الاشتراكيّة الماركسيّة لا محيد لها عن أحد أمرين: فإمّا أن تطبّق النظريّة كما يفرضه القانون الماركسي للقيمة، فتوزّع على كلّ فرد حسب عمله، فتخلق بذرة التناقض الطبقي من جديد. وإمّا أن تنحرف عن النظريّة في مجال التطبيق، وتساوي بين العمل البسيط والمركّب، والعامل الاعتيادي والموهوب، فتكون قد اقتطعت من العامل الموهوب القيمة الفائضة التي يتفوّق بها على العامل البسيط، كما كان يصنع الرأسمالي تماماً في حساب المادّية التاريخيّة.
وننتهي من دراسة المرحلة الاشتراكيّة إلى المرحلة النهائيّة التي يولد فيها المجتمع الشيوعي، ويحشر البشر إلى الفردوس الأرضي الموعود في نبوءات المادّية التاريخيّة.
وللشيوعيّة ركنان رئيسيان:
الأوّل: محو الملكيّة الخاصّة، لا في مجال الإنتاج الرأسمالي فحسب، بل في مجال الإنتاج بصورة عامّة، وفي مجال الاستهلاك أيضاً، فتؤمّم كلّ وسائل الإنتاج وكلّ البضائع الاستهلاكيّة.
والثاني: محو السلطة السياسيّة وتحرير المجتمع من الحكومة بصورة نهائيّة.
الاسس العلميّة المزعومة في الاقتصاد الماركسي، فقد غاب عن ذهن أنجلز أنّ السلعة التي ينتجها العامل الفنّي المدرّب لا يدخل في قيمتها- التي يخلقها العامل- ثمن تدريبه واجور دراسته، وإنّما الذي يحدّد قيمتها كمّية العمل المنفقة على إنتاجها فعلًا مع كمّية العمل التي أنفقها العامل خلال الدراسة والتدريب.
فمن الممكن أن ينفق العامل عشر سنوات من العمل في التدريب، ويكلّفه ذلك ألف دينار، ويكون ثمن التدريب هذا- وهو ألف دينار- معبّراً عن كمّية من العمل المختزن فيه تقلّ عن عمل عشر سنوات. فاجرة التدريب- في هذا الفرض- تصبح أقلّ من القيمة التي ساهم عمل العامل خلال تدريبه في إيجادها، نظير تكاليف تجديد قوّة العمل التي تقلّ عن القيمة التي يخلقها العمل نفسه، كما تزعم نظريّة القيمة الفائضة.
فما يصنع أنجلز إذا أصبحت كمّية العمل الماثلة في تكاليف تدريب العامل أقلّ من كمّية العمل التي ينفقها العامل خلال التدريب؟! إنّ الدولة ليس من حقّها في هذه الحال- على أساس الاقتصاد الماركسي- أن تقتطف ثمرات التدريب، وتسلب من العامل القيمة التي خلقها بعمله في السلعة خلال التدريب بوصفها قد دفعت اجرة التدريب؛ لأنّ القيمة الزائدة التي يتمتّع بها منتوج العامل الفنّي لا تعبّر عن تكاليف تدريبه واجرة دراسته، بل عن العمل الذي قضاه العامل خلال الدراسة. فإذا زاد هذا العمل على كمّية العمل المتمثّلة في نفقات التدريب كان للعامل الحقّ في زيادة الأجر على إنتاجه الفنّي.
وشيء آخر فات أنجلز أيضاً، وهو: أنّ تعقيد العمل لا ينشأ دائماً من التدريب، بل قد يحصل بسبب مواهب طبيعيّة في العامل تجعله ينتج في ساعة من العمل ما لا ينتج اجتماعيّاً إلّاخلال ساعتين، فهو يخلق في الساعة القيمة التي
في مجتمع المنتجين الخاصّين تكاليف تدريب العامل الكفوء، لذا فإنّ الثمن العالي الذي يدفع عن القوّة العاملة الكفوءة ناجم عن الأفراد أنفسهم. فالرقيق الماهر يباع بثمن عالٍ، وكاسب الأجر الماهر تدفع له اجور عالية. إنّ المجتمع إذ يكون منظّماً تنظيماً اشتراكيّاً فإنّه هو الذي يتحمّل هذه التكاليف. فإليه إذن تعود ثمراتها، وهي القيَم العالية التي ينتجها العمل المركّب، ولا تكون زيادة الاجور مطلباً من مطالب العامل»[1].
وهذا الحلّ النظري للمشكلة الذي يقدّمه أنجلز يفترض أنّ القِيَم العالية التي يمتاز بها العمل المركّب عن العمل البسيط تعادل تكاليف تدريب العامل الكفوء على العمل المركّب. ونظراً إلى أنّ الفرد في المجتمع الرأسمالي يتحمّل بنفسه تكاليف تدريبه فيستحقّ تلك القيم التي نجمت عن تدريبه. وأمّا في المجتمع الاشتراكي فالدولة هي التي تنفق على تدريبه، فتكون وحدها صاحبة الحقّ في القِيَم العالية للعمل المركّب. وليس للعامل الفنّي حينئذٍ أن يطالب بأجر يزيد على أجر العامل البسيط.
ولكنّ هذا الافتراض يناقض الواقع، فإنّ القيم العالية التي يحصل عليها العامل السياسي أو العسكري في مجتمع المنتجين الخاصّين- في المجتمع الرأسمالي- تزيد كثيراً عن تكاليف دراسته للعلوم السياسيّة والعسكريّة، كما مرّ سابقاً.
أضف إلى ذلك: أنّ أنجلز لم يضع معالجته للمشكلة في صيغة دقيقة تتّفق مع
[1] ضد دوهرنك 2: 96
نشانی : قم، خیابان هنرستان، خیابان شهید تراب نجفزاده، خیابان شهید حسن صادقخانی، پلاک ١٩
کدپستی: ٣٧١۵٩٨۴١۴۶
تلفن: ۰۲۵۳۷۸۴۶۰۸۰
ایمیل: [email protected]