کتابخانه
292

ويستثمرها لصالح القضيّة الإنسانيّة الكبرى. فقد ورد في تاريخ تلك التجربة الذهبيّة: أنّ جماعة من غير ذوي اليسار والثروة جاؤوا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قائلين: «يا رسول اللَّه، ذهب الأغنياء بالاجور، يصلّون كما نصلّي، ويصومون كما نصوم، ويتصدّقون بفضول أموالهم. فأجاب النبيّ قائلًا: أوَ ليس قد جعل اللَّه لكم ما تصدّقون به؟! إنّ لكم بكلّ تسبيحة صدقة، وبكلّ تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة ونهي عن المنكر صدقة»[1]. فهؤلاء المسلمون الذين احتجّوا بين يدي الرسول صلى الله عليه و آله على واقعهم لم يكونوا يريدون الثروة بوصفها أداةً من أدوات المنعة والقوّة أو ضماناً لإشباع الرغبات الشخصيّة، وإنّما عزّ عليهم أن يسبقهم الأغنياء في المقاييس المعنويّة بألوان البرّ والإحسان وبالمساهمة في المصالح العامّة على الصعيد الاجتماعي، وهذا يعكس مفهوم الثروة وطبيعة الإنسان المسلم في ظلّ تجربة إسلاميّة كاملة للحياة.

وجاء في وصف الإجارات والتجارات في المجتمع الإسلامي ما حدّث به الشاطبي، إذ كتب يقول:

«تجدهم في الإجارات والتجارات لا يأخذون إلّا بأقلّ ما يكون من الربح أو الاجرة، حتّى يكون ما حاول أحدهم من ذلك كسباً لغيره لا له. ولذلك بالغوا في النصيحة فوق ما يلزمهم؛ لأنّهم وكلاء للناس لا لأنفسهم …، بل كانوا يرون المحاباة لأنفسهم- وإن جازت- كالغشّ لغيرهم»[2].

 

[1] مستدرك الوسائل 7: 263، الباب 49 من أبواب الصدقة، الحديث 10، مع اختلاف يسير

[2] الموافقات في اصول الشريعة 2: 134، المسألة الرابعة، مبحث حظوظ المكلّف

291

الرأسمالي الاوروبي وطابعه الفكري والروحي ومقاييسه الخُلُقيّة والعمليّة.
غير أنّ من الممكن أن يحدث تحوّل أساسي في القوانين الاقتصاديّة لحياة المجتمع بمجرّد تغيير هذا الأساس، ومواجهة مجتمع يختلف عن المجتمع الرأسمالي في القاعدة العامّة لسلوك أفراده وفي الأفكار والقِيَم التي يؤمنون بها، وليس هذا افتراضاً نفترضه، وإنّما هو واقع نتحدّث عنه، فإنّ المجتمعات تختلف في العوامل التي تحدّد لها دوافع السلوك والقِيَم العمليّة في الحياة.
ولنأخذ مثلًا لذلك المجتمع الرأسمالي، والمجتمع الذي دعا إليه الإسلام وتمكّن من إخراجه إلى حيّز الوجود. فقد عاش في ظلّ الإسلام مجتمع بشري من لحم ودم، تختلف القاعدة العامّة لسلوكه ومقاييسه العمليّة ومحتوياته الروحيّة والفكريّة عن المجتمع الرأسمالي كلّ الاختلاف. فإنّ الإسلام- بوصفه ديناً ومذهباً خاصّاً في الحياة- وإن كان لا يعالج أحداث الاقتصاد معالجة علميّة ولكنّه يؤثّر على هذه الأحداث ومجراها الاجتماعي تأثيراً كبيراً، بوصفه يعالج محور تلك الأحداث، وهو الإنسان في مفاهيمه عن الحياة ودوافعه وغاياته، فيصهره في قالبه الخاصّ، ويصوغه في إطاره الروحي والفكري، وبالرغم من أنّ التجربة التي خاضها الإسلام في سبيل إيجاد هذا المجتمع كانت قصيرة قد أسفرت عن أروع النتائج التي شهدتها حياة الإنسان، وبرهنت على إمكان التحليق بالإنسان إلى آفاق لم يستطع أن يتطلّع إليها أفراد المجتمع الرأسمالي الغارقون في ضرورات المادّة ومفاهيمها إلى رؤوسهم.
وفي النزر اليسير ممّا يحدّثنا به التاريخ عن نتائج التجربة الإسلاميّة وروائعها ما يلقي ضوءاً على إمكانات الخير المكتنزة في نفس الإنسان، ويكشف عن الطاقة الرساليّة في الإسلام التي استطاع بها أن يجنّد تلك الإمكانات‏

290

تتأ ثّر بكلّ المؤثّرات التي تطرأ على الوعي الإنساني، وبكلّ العوامل التي تتدخّل في إرادة الإنسان وميوله. وبَدهيّ أنّ إرادة الإنسان التي تعالجها تلك القوانين تتحدّد وتتكيّف وفقاً لأفكار الإنسان ومفاهيمه، ولنوعيّة المذهب السائد في المجتمع، ولون التشريعات التي تقيّد سلوك الأفراد. فهذه العوامل هي التي تملي على الإنسان إرادته وموقفه العملي، وحين تتغيّر تلك العوامل يختلف اتّجاه الإنسان وإرادته، وبالتالي تختلف القوانين العلميّة العامّة التي تفسّر مجرى الحياة الاقتصاديّة، فلا يمكن في كثير من الأحيان إعطاء قانون عامّ للإنسانيّة في الحياة الاقتصاديّة بمختلف إطاراتها الفكريّة والمذهبيّة والروحيّة. وليس من الصحيح علميّاً أن نترقّب من الإرادة الإنسانيّة في مجرى الحياة الاقتصاديّة أن تسير وتنشط دائماً وفي كلّ مجتمع كما تسير وتنشط في المجتمع الرأسمالي الذي درسه الاقتصاديّون الرأسماليّون، ووضعوا قوانين الاقتصاد السياسي في ضوئه ما دامت المجتمعات قد تختلف في إطاراتها الفكريّة والمذهبيّة والروحيّة، بل يجب أن تؤخذ هذه الإطارات كمدلولات ثابتة في مجال البحث العلمي. ومن الطبيعي أن تتكشّف نتائج البحث حينئذٍ عن القوانين الجارية ضمن تلك الإطارات خاصّة.
وعلى سبيل المثال نذكر القاعدة الرئيسيّة التي وضع في ضوئها كثير من قوانين الاقتصاد الكلاسيكي، وهي: القاعدة التي تجرّد من الإنسان الاجتماعي المحسوس إنساناً اقتصاديّاً يؤمن بالمصلحة الشخصيّة كهدف أعلى له في كلّ ميادين النشاط الاقتصادي. فقد افترض الاقتصاديّون- منذ البدء- أنّ كلّ فرد في المجتمع يستوحي اتّجاهه العملي في نشاطه الاقتصادي من مصلحته المادّية الخاصّة دائماً، وأخذوا يستكشفون القوانين العلميّة التي تتحكّم في مثل هذا المجتمع. وقد كان افتراضهم هذا على نصيب كبير من الواقع بالنسبة إلى المجتمع‏

289

الفيزياء والفلك، وكما تعمل القوانين الطبيعيّة في الإنتاج التي عرضناها في الفئة الاولى، وإنّما يمثّل قانون العرض والطلب ظواهر الحياة الواعية للإنسان. فهو يوضّح أنّ المشتري سيقدم- في الحالة التي ينصّ عليها القانون الآنف الذكر- على شراء السلعة بثمن أكبر من ثمنها في حالة مساواة الطلب للعرض، وأنّ البائع سيمتنع في تلك الحالة عن البيع إلّابذلك الثمن.
وتدخّل الإرادة الإنسانيّة في مجرى الحياة الاقتصاديّة لا يعني إبعاد الحياة الاقتصاديّة عن مجال القوانين العلميّة واستحالة البحث العلمي فيها، كما ذهب إلى ذلك وهم بعض المفكّرين في بداية ولادة الاقتصاد السياسي، إذ اعتقدوا أنّ طابع الحتميّة والضرورة للقوانين العلميّة يتنافى مع طبيعة الحرّية التي تعكسها الإرادة الإنسانيّة. فإذا اخضعت الحياة الإنسانيّة لقوانين علميّة صارمة كان ذلك مناقضاً لما يتمتّع به الإنسان في حياته من حرّية وانطلاق، إذ يصبح لدى خضوعه لتلك القوانين آلة جامدة تسير وتتكيّف ميكانيكيّاً طبقاً للقوانين الطبيعيّة التي تتحكّم في مجرى حياته الاقتصاديّة.
وهذا الوهم يرتكز على مفهوم خاطئ عن الحرّية الإنسانيّة، وإدراك معكوس للعلاقة بين الحرّية والإرادة وبين تلك القوانين. فإنّ وجود قوانين طبيعيّة لحياة الإنسان الاقتصاديّة لا يعني أنّ الإنسان يفقد حرّيته وإرادته، وإنّما هي قوانين للإرادة البشريّة تفسّر: كيف يستعمل الإنسان حرّيته في المجال الاقتصادي؟ فلا يمكن أن تعتبر إلغاءً لإرادة الإنسان وحرّيته.

[اختلاف القوانين الاقتصاديّة عن سائر القوانين العلميّة:]

ولكنّ هذه القوانين الاقتصاديّة تختلف عن القوانين العلميّة في مناحي الكون الاخرى في نقطة، وهي: أنّ هذه القوانين نظراً إلى علاقتها بإرادة الإنسان‏

288
[أقسام القوانين الاقتصاديّة:]

إنّ القوانين العلميّة للاقتصاد تنقسم إلى فئتين:
إحداهما: القوانين الطبيعيّة التي تنبثق ضرورتها من الطبيعة نفسها، لا من الإرادة الإنسانيّة، كقانون التحديد الكلّي القائل: إنّ كلّ إنتاج كان يتوقّف على الأرض وما تشتمل عليه من موادّ أوّليّة محدود طبقاً للكميّة المحدودة للأرض وموادّها الأوّليّة. أو قانون الغلّة المتزايدة القائل: إنّ كلّ زيادة في الإنتاج تعوّض على المنتج تعويضاً أكبر نسبيّاً ممّا زاده في الإنفاق، حتّى تبلغ الزيادة إلى درجة خاصّة، فتخضع عندئذٍ لقانون معاكس، وهو قانون الغلّة المتناقصة الذي ينصّ على أنّ زيادة الغلّة تبدأ بالتناقص النسبي عند درجة معيّنة.
وهذه القوانين لا تختلف في طبيعتها وجانبها الموضوعي عن سائر القوانين الكونيّة التي تكشف عنها العلوم الطبيعيّة، ولذلك فهي لا تحمل شيئاً من الطابع المذهبي، ولا تتوقّف على ظروف اجتماعيّة أو فكريّة معيّنة، بل لا تختلف في شأنها أبعاد الزمان والمكان ما دامت الطبيعة التي يتعلّق بها الإنتاج هي الطبيعة في كلّ زمان ومكان.
والفئة الاخرى: من القوانين العلميّة للاقتصاد السياسي، تحتوي على قوانين للحياة الاقتصاديّة ذات صلة بإرادة الإنسان نفسه، نظراً إلى أنّ الحياة الاقتصاديّة ليست إلّامظهراً من مظاهر الحياة الإنسانيّة العامّة التي تلعب فيها الإرادة دوراً إيجابيّاً فعّالًا في مختلف شُعَبها ومناحيها. فقانون العرض والطلب مثلًا- القائل: إنّ الطلب على سلعة إذا زاد ولم يكن في المقدور زيادة الكمّيات المعروضة استجابة للزيادة في الطلب، فإنّ ثمن السلعة لا بدّ وأن يرتفع- ليس قانوناً موضوعيّاً يعمل بصورة منفصلة عن وعي الإنسان، كما تعمل قوانين‏

287

القوانين العلميّة في الاقتصاد الرأسمالي ذات إطار مذهبي‏

عرفنا فيما سبق أنّ المذهب الرأسمالي ليس له طابع علمي، ولا يستمدّ مبرّراته ووجوده من القوانين العلميّة في الاقتصاد. ونريد هنا أن نصل إلى نقطة أعمق في تحليل العلاقة بين الجانب المذهبي والجانب العلمي من الرأسماليّة، لنرى كيف أنّ المذهب الرأسمالي يحدّد إطار القوانين العلميّة في الاقتصاد الرأسمالي ويؤثّر عليها في اتّجاهها ومجراها؟ ومعنى هذا أنّ القوانين العلميّة في الاقتصاد الرأسمالي قوانين علميّة في إطار مذهبي خاصّ، وليست قوانين مطلقة تنطبق على كلّ مجتمع وفي كلّ زمان ومكان، كالقوانين الطبيعيّة في الفيزياء والكيمياء، وإنّما يعتبر كثير من تلك القوانين حقائق موضوعيّة في الظروف الاجتماعيّة التي تسيطر عليها الرأسماليّة بجوانبها الاقتصاديّة وأفكارها ومفاهيمها، فلا تنطبق على مجتمع لا تسيطر عليه الرأسماليّة ولا تسوده أفكارها.
ولكي يتّضح هذا يجب أن نلقي ضوءاً على طبيعة القوانين الاقتصاديّة التي يدرسها الاقتصاد الرأسمالي؛ لكي نعرف كيف وإلى أيّ درجة يمكن الاعتراف لها بصفة القانون العلمي؟

286

285

الرأسمالي من العلماء الرأسماليّين بوصفه حقيقة علميّة أو جزءاً من علم الاقتصاد السياسي ولم يميّز بين الصفة العلميّة والصفة المذهبيّة لُاولئك الاقتصاديّين، فيخيّل له- مثلًا- حين يحكم هؤلاء بأنّ توفير الحرّيات الرأسماليّة خير وسعادة للجميع: أنّ هذا رأي علمي أو قائم على أساس علمي كالقانون الاقتصادي القائل مثلًا: (إذا زاد العرض انخفض الثمن)، مع أنّ هذا القانون تفسير علمي لحركة الثمن كما توجد في السوق. وأمّا الحكم السابق بشأن الحرّيات الرأسماليّة فهو حكم مذهبي يصدره أنصاره بوصفهم المذهبي، ويستمدّونه من القِيَم والأفكار الخُلُقيّة والعمليّة التي يؤمنون بها. فلا تعني صحّة ذلك القانون العلمي أو غيره من القوانين العلميّة أن يكون هذا الحكم المذهبي صحيحاً، وإنّما يتوقّف هذا الحكم على صحّة القِيَم والأفكار التي اقيم على أساسها.

284

لدراسته هو بحث تلك القوانين وتدقيقها، وإنّما نواجه مذهباً يستمدّ كيانه من تقديرات خُلُقيّة وعمليّة معيّنة؛ ولهذا فسوف لن نتحدّث عن الجانب العلمي من الرأسماليّة إلّابالقدر الذي يوضح أنّ الجانب المذهبي ليس نتيجة حتميّة له، ولا يحمل طابعه العلمي، ثمّ ندرس المذهب الرأسمالي في ضوء الأفكار العمليّة والقِيَم الخُلُقيّة التي يرتكز عليها؛ لأنّ بحوث هذا الكتاب تحمل كلّها الطابع المذهبي، ولا تتّسع للجوانب العلميّة إلّابمقدار ما يتطلّبه الموقف المذهبي.
ودراسة المذهب الرأسمالي على هذا الأساس وإن كانت تتوقّف أيضاً على شي‏ء من البحث العلمي غير أنّ دور البحث العلمي في هذه الدراسة يختلف كلّ الاختلاف عن دوره في دراسة المذهب الماركسي، فإنّ البحث العلمي في قوانين المادّية التاريخيّة كان وحده هو الذي يستطيع أن يصدر الحكم النهائي في حقّ الماركسيّة المذهبيّة، كما سبق. وأمّا البحث العلمي في مجال نقد الرأسماليّة المذهبيّة فليس هو المرجع الأعلى للحكم في حقّها؛ لأنّها لا تدّعي لنفسها طابعاً علميّاً.
وإنّما يستعان بالبحث العلمي لتكوين فكرة كاملة عن النتائج الواقعيّة (الموضوعيّة) التي تتمخّض عنها الرأسماليّة على الصعيد الاجتماعي، ونوعيّة الاتّجاهات التي تتّجهها قوانين الحركة الاقتصاديّة في ظلّ الرأسماليّة؛ لكي تقاس تلك النتائج والاتّجاهات التي يسفر عنها تطبيق المذهب بالمقاييس الخُلُقيّة والأفكار العمليّة التي يؤمن بها الباحث. فوظيفة البحث العلمي في دراسة المذهب الرأسمالي إعطاء صورة كاملة عن واقع المجتمع الرأسمالي لنقيس تلك الصورة بالمقاييس العمليّة الخاصّة، وليست وظيفته تقديم البرهان على حتميّة المذهب الرأسمالي أو خطئه.
فكم يخطئ الباحث- على هذا الأساس الذي قدّمناه- إذا تلقّى المذهب‏