کتابخانه
283

مستهلّ هذا الفصل- بين الماركسيّة والرأسماليّة، إذ تختلف العلاقة بين الجانب العلمي والجانب المذهبي من الماركسيّة اختلافاً أساسيّاً عن العلاقة بين الاقتصاد العلمي والاقتصاد المذهبي للرأسماليّة، فإنّ الماركسيّة المذهبيّة التي تتمثّل في الاشتراكيّة والشيوعيّة تعتبر نتيجة حتميّة لقوانين المادّية التاريخيّة التي تعبّر عن القوانين الطبيعيّة للتاريخ من وجهة رأي الماركسيّة، فإذا كانت المادّية التاريخيّة على صواب في تفسير التاريخ فهي تبرهن على الجانب المذهبي من الماركسيّة؛ ولذلك يعتبر درس الجانب العلمي من الماركسيّة أساساً لدرس الجانب المذهبي منها، وشرطاً ضروريّاً للحكم في صالح المذهب الماركسي أو ضدّه. ولا يمكن لباحث مذهبي أن ينقد الاشتراكيّة والشيوعيّة بصورة مستقلّة عن أساسها العلمي عن المادّية التاريخيّة.
وأمّا الرأسماليّة المذهبيّة فليست هي نتيجة لعلم الاقتصاد الذي شاده الرأسماليّون، ولا يرتبط مصيرها بمدى نجاح الجانب العلمي للرأسماليّة في تفسير الواقع الموضوعي، وإنّما ترتكز الرأسماليّة المذهبيّة على قِيَم وأفكار خُلُقيّة وعمليّة معيّنة يجب أن تعتبر هي المقياس للحكم في حقّ المذهب الرأسمالي.
وهكذا يتّضح أنّ موقفنا- بوصفنا نؤمن بمذهب اقتصادي يتميّز عن الرأسماليّة والماركسيّة- تجاه الماركسيّة يختلف عن موقفنا من الرأسماليّة، فنحن تجاه الماركسيّة أمام مذهب اقتصادي يزعم: أ نّه يرتكز على قوانين علم التاريخ (المادّية التاريخيّة) فمن الضروري لنقد هذا المذهب أن نتناول تلك القوانين العلميّة المزعومة بالدرس والتمحيص؛ ولأجل ذلك عرضنا المادّية التاريخيّة بمفاهيمها ومراحلها تمهيداً إلى إصدار الحكم في حقّ المذهب الماركسي نفسه.
وأمّا بالنسبة إلى موقفنا تجاه الرأسماليّة المذهبيّة- أي الحرّيات الرأسماليّة- فنحن نواجه مذهباً لا يستمدّ كيانه من القوانين العلميّة ليكون المنهج الضروري‏

282

والتدخّل في الشؤون الاقتصاديّة من الدولة يعني الوقوف في وجه الطبيعة وقوانينها التي كفلت للإنسانيّة رخاءها وحلّ جميع مشاكلها، فكلّ محاولة لإهدار شي‏ء من الحرّيات الرأسماليّة تعتبر جريمة في حقّ القوانين الطبيعيّة العادلة.
وهكذا انتهى بهم هذا القول: بأنّ تلك القوانين الخيّرة تفرض بنفسها المذهب الرأسمالي، وتحتّم على المجتمع ضمان الحرّيات الرأسماليّة.
غير أنّ هذا اللون من التفكير يبدو الآن مضحكاً وطفوليّاً إلى حدّ كبير؛ لأنّ الخروج على قانون طبيعي علمي لا يعني أنّ هناك جريمة ارتكبت في حقّ هذا القانون، وإنّما يبرهن على خطأ القانون نفسه، وينزع عنه وصفه العلمي الموضوعي؛ لأنّ القوانين الطبيعيّة لا تتخلّف في ظلّ الشروط والظروف اللازمة لها، وإنّما قد تتغيّر الشروط والظروف، فمن الخطأ أن تعتبر الحرّيات الرأسماليّة تعبيراً عن قوانين طبيعيّة، وتعتبر مخالفتها جريمة في حقّ تلك القوانين. فقوانين الاقتصاد الطبيعيّة تعمل ولا تكفّ عن العمل في جميع الأحوال ومهما اختلفت درجة الحرّية التي يتمتّع بها الأفراد في حقول التملّك والاستغلال والاستهلاك، وإنّما قد يحدث أن يختلف مفعول تلك القوانين تبعاً لاختلاف الشروط والظروف التي تعمل في ظلّها، كما تختلف قوانين الفيزياء في آثارها ونتائجها، طبقاً لاختلاف شروطها وظروفها.
فيجب إذن أن تدرس الحرّيات الرأسماليّة لا بوصفها ضرورات علميّة تحتّمها القوانين الطبيعيّة من وجهة رأي الرأسماليّين حتّى تكتسب بذلك الطابع العلمي، وإنّما تدرس على أساس مدى ما تتيح للإنسان من سعادة وكرامة، وللمجتمع من قِيَم ومُثُل، وهذا هو الأساس الذي اتّبعه بعد ذلك علماء الاقتصاد الرأسمالي في دراسة الرأسماليّة المذهبيّة.
وفي ضوء ذلك نستطيع أن نفهم الفرق الجوهري- الذي ألمعنا إليه في‏

281

الرأسماليّة المذهبيّة ليست نتاجاً للقوانين العلميّة

في فجر التاريخ العلمي للاقتصاد، حين كان يضع أقطاب الاقتصاد الطبيعي الكلاسيكي بذور هذا العلم وبنياته الأوّليّة سادت الفكر الاقتصادي يومذاك فكرتان:
إحداهما: أنّ الحياة الاقتصاديّة تسير وفقاً لقوى طبيعيّة محدّدة تتحكّم في كلّ الكيان الاقتصادي للمجتمع، كما تسير شتّى مناحي الكون طبقاً لقوى الطبيعة المتنوّعة. والواجب العلمي تجاه تلك القوى التي تسيطر على الحياة الاقتصاديّة هو استكشاف قوانينها العامّة وقواعدها الأساسيّة التي تصلح لتفسير مختلف الظواهر والأحداث الاقتصاديّة.
والفكرة الاخرى: هي أنّ تلك القوانين الطبيعيّة التي يجب على علم الاقتصاد استكشافها كفيلة بضمان السعادة البشريّة إذا عملت في جوّ حرّ، واتيح لجميع أفراد المجتمع التمتّع بالحرّيات الرأسماليّة، حرّيات: التملّك والاستغلال والاستهلاك.
وقد وضعت الفكرة الاولى البذرة العلميّة للاقتصاد الرأسمالي، ووضعت الفكرة الثانية بذرته المذهبيّة، غير أنّ الفكرتين أو البذرتين ارتبطتا في بادئ الأمر ارتباطاً وثيقاً، حتّى خُيّل للمفكّرين الاقتصاديّين يومئذٍ أنّ تقييد حرّية الأفراد

280

والأنانيّة مع هذا المذهب أو ذاك.
وأمّا المذهب الجدير بصفة المذهب الجماعي فهو المذهب الذي يعتمد على وقود من نوع آخر، على قوىً غير الأنانيّة والدوافع الذاتيّة.
إنّ المذهب الجماعي هو المذهب الذي يربّي في كلّ فرد شعوراً عميقاً بالمسؤوليّة تجاه المجتمع ومصالحه، ويفرض عليه لذلك أن يتنازل عن شي‏ء من ثمار أعماله وجهوده وأمواله الخاصّة في سبيل المجتمع وفي سبيل الآخرين، لا لأنّه سرق الآخرين وقد ثاروا عليه لاسترداد حقوقهم الخاصّة، بل لأنّه يحسّ بأنّ ذلك جزء من واجبه، وتعبير عن القِيَم التي يؤمن بها.
إنّ المذهب الجماعي هو المذهب الذي يحفظ حقوق الآخرين وسعادتهم لا بإثارة دوافعهم الذاتيّة، بل بإثارة الدوافع الجماعيّة في الجميع، وتفجير منابع الخير في نفوسهم، وسوف نرى في بحوث مقبلة ما هو هذا المذهب؟

279

معالمهما يعكس اختلافهما في طبيعة نظرتهما إلى الفرد والمجتمع؛ لأنّ المذهب الرأسمالي مذهب فردي يقدّس الدوافع الذاتيّة، ويعتبر الفرد هو المحور الذي يجب على المذهب أن يعمل لحسابه، ويضمن مصالحه الخاصّة. وأمّا المذهب الماركسي فهو مذهب جماعي يرفض الدوافع الذاتيّة والأنانيّة، ويفني الفرد في المجتمع، ويتّخذ المجتمع محوراً له، وهو لأجل هذا لا يعترف بالحرّيات الفرديّة، بل يهدرها في سبيل القضيّة الأساسيّة، قضيّة المجتمع بكامله.
والواقع: أنّ كلا المذهبين يرتكز على نظرة فرديّة، ويعتمد على الدوافع الذاتيّة والأنانيّة. فالرأسماليّة تحترم في الفرد السعيد الحظّ أنانيّته، فتضمن له حرّية الاستغلال والنشاط في مختلف الميادين، مستهترةً بما سوف يصيب الآخرين من حيف وظلم نتيجة لتلك الحرّية التي أطلقتها لذلك الفرد ما دام الآخرون يتمتّعون بالحرّية مبدئيّاً، كما يتمتّع بها الفرد المستغلّ. وبينما توفّر الرأسماليّة للمحظوظين إشباع دوافعهم الذاتيّة وتنمّي نزعتهم الفرديّة تتّجه الماركسيّة إلى غيرهم من الأفراد الذين لم تتهيّأ لهم تلك الفرص، فتركّز دعوتها المذهبيّة على أساس إثارة الدوافع الذاتيّة والأنانيّة فيهم، والتأكيد على ضرورة إشباعها، وتسعى بمختلف الأساليب إلى تنمية هذه الدوافع بوصفها القوّة التي يستخدمها التاريخ في تطوير نفسه حتّى تتمكّن من تفجيرها تفجيراً ثوريّاً، وتشرح لُاولئك الذين تتّصل بهم: أنّ الآخرين يسرقون جهودهم وثروتهم، فلا يمكن لهم أن يقرّوا هذه السرقة بحال؛ لأنّها اعتداء صارخ على كيانهم الخاصّ.
وهكذا نجد أنّ الوقود الذي يعتمد عليه المذهب الماركسي هو نفس الدوافع الذاتيّة والفرديّة التي تتبنّاها الرأسماليّة. فكلّ من المذهبين يتبنّى إشباع الدوافع الذاتيّة وينمّيها، وإنّما يختلفان في نوع الأفراد الذين تتجاوب دوافعهم الذاتيّة

278

الذي يروق له، والسماح له بتنمية ثروته بمختلف الوسائل والأساليب التي يتمكّن منها. فإن كان يمتلك أرضاً زراعيّة مثلًا، فله أن يستغلّها بنفسه في أيّ وجه من وجوه الاستغلال، وله أن يؤجّرها للغير، وأن يفرض على الغير شروطه التي تهمّه، كما له أن يترك الأرض دون استغلال.
وتستهدف هذه الحرّية الرأسماليّة التي يمنحها المذهب الرأسمالي للمالك:
أن تجعل الفرد هو العامل الوحيد في الحركة الاقتصاديّة، إذ ما من أحد أعرف منه بمنافعه الحقيقيّة، ولا أقدر منه على اكتسابها. ولا يتأتّى للفرد أن يصبح كذلك ما لم يزوّد بالحرّية في مجال استغلال المال وتهيئته، ويستبعد من طريقه التدخّل الخارجي من جانب الدولة وغيرها. فبذلك يصبح لكلّ فرد الفرصة الكافية لاختيار نوع الاستغلال الذي يستغلّ به ماله، والمهنة التي يتّخذها، والأساليب التي يتّبعها لتحقيق أكبر مقدار ممكن من الثروة.
وثالثاً: ضمان حرّية الاستهلاك، كما تضمن حرّية الاستغلال. فلكلّ شخص الحرّية في الإنفاق من ماله كما يشاء على حاجاته ورغباته، وهو الذي يختار نوع السلع التي يستهلكها، ولا يمنع عن ذلك قيام الدولة أحياناً بتحريم استهلاك بعض السلع لاعتبارات تتعلّق بالمصلحة العامّة، كاستهلاك المخدّرات.
فهذه هي المعالم الرئيسيّة في المذهب الرأسمالي التي يمكن تلخيصها في حرّيات ثلاث: حرّية التملّك، والاستغلال، والاستهلاك.
ويظهر منذ النظرة الاولى التناقض الصارخ بين المذهب الرأسمالي والمذهب الماركسي، الذي يضع الملكيّة الاشتراكيّة مبدأً بدلًا عن الملكيّة الفرديّة، ويقضي على الحرّيات الرأسماليّة التي ترتكز على أساس الملكيّة الخاصّة، ويستبدلها بسيطرة الدولة على جميع مرافق الحياة الاقتصاديّة.
ومن القول الشائع: إنّ اختلاف المذهبين الرأسمالي والماركسي في‏

277

الرأسماليّة المذهبيّة في خطوطها الرئيسيّة

يرتكز المذهب الرأسمالي على أركان رئيسيّة ثلاثة يتأ لّف منها كيانه العضوي الخاصّ الذي يميّزه عن الكيانات المذهبيّة الاخرى، وهذه الأركان هي:
أوّلًا: الأخذ بمبدأ الملكيّة الخاصّة بشكل غير محدود. فبينما كانت القاعدة العامّة في المذهب الماركسي هي الملكيّة الاشتراكيّة التي لا يجوز الخروج عنها إلّا بصورة استثنائيّة تنعكس المسألة في المذهب الرأسمالي تماماً، فالملكيّة الخاصّة في هذا المذهب هي القاعدة العامّة التي تمتدّ إلى كلّ المجالات وميادين الثروة المتنوّعة، ولا يمكن الخروج عنها إلّابحكم ظروف استثنائيّة تضطرّ أحياناً إلى تأميم هذا المشروع أو ذاك، وجعله ملكاً للدولة. فما لم تبرهن التجربة الاجتماعيّة على ضرورة تأميم أيّ مشروع تبقى الملكيّة الخاصّة هي القاعدة النافذة المفعول.
وعلى هذا الأساس تؤمن الرأسماليّة بحرّية التملّك، وتسمح للملكيّة الخاصّة بغزو جميع عناصر الإنتاج من: الأرض والآلات والمباني والمعادن وغير ذلك من ألوان الثروة، ويتكفّل القانون في المجتمع الرأسمالي بحماية الملكيّة الخاصّة وتمكين المالك من الاحتفاظ بها.
ثانياً: فسح المجال أمام كلّ فرد لاستغلال ملكيّته وإمكاناته على الوجه‏

276

والجانب المذهبي منها، أي بين المادّية التاريخيّة من ناحية والاشتراكيّة والشيوعيّة من ناحية اخرى وهذا الاختلاف هو الذي سيجعل طريقة بحثنا مع الرأسماليّة تختلف عن طريقة دراستنا للماركسيّة، كما يتّضح خلال هذا الفصل (مع الرأسماليّة).
وسوف نستعرض فيما يلي: الاقتصاد الرأسمالي في خطوطه الرئيسيّة، ونعالج بعد ذلك علاقة المذهب الرأسمالي بالجانب العلمي من الرأسماليّة، وندرس أخيراً الرأسماليّة في ضوء أفكارها المذهبيّة التي ترتكز عليها.

275

[تمهيد:]

كما ينقسم الاقتصاد الماركسي إلى علم ومذهب كذلك ينقسم الاقتصاد الرأسمالي إلى هذين القسمين. ففيه الجانب العلمي الذي تحاول الرأسماليّة فيه أن تفسّر مجرى الحياة الاقتصاديّة وأحداثها تفسيراً موضوعيّاً قائماً على أساس الاستقراء والتحليل، وفيه أيضاً الجانب المذهبي الذي تدعو الرأسماليّة إلى تطبيقه وتتبنّى الدعوة إليه.
وقد اختلط هذان الجانبان أو الوجهان للاقتصاد الرأسمالي في كثير من البحوث والأفكار، مع أ نّهما وجهان مختلفان، ولكلٍّ منهما طبيعته الخاصّة واسسه ومقاييسه. فإذا حاولنا أن نسبغ على أحد الوجهين الطابع المميّز للآخر فنعتبر القوانين العلميّة مذهباً خالصاً أو نضفي الطابع العلمي على المذهب، فسوف نقع في خطأ كبير كما سنرى.
والرأسماليّة وإن اتّفقت مع الماركسيّة في تشعّبها إلى جانب علمي وجانب مذهبي، ولكنّ العلاقة بين علم الاقتصاد الرأسمالي والمذهب الرأسمالي في الاقتصاد تختلف اختلافاً جوهريّاً عن العلاقة بين الجانب العلمي من الماركسيّة