کتابخانه
256

وأضاف ستالين إلى ما تقدّم:
«هذا هو الوضع فيما يتعلّق بالنظام في الحزب أثناء فترة الكفاح التي تسبق تحقيق الدكتاتوريّة، ويجب- بل حتّى إلى درجة أعظم- أن يقال الشي‏ء ذاته عن النظام في الحزب بعد أن يكون قد تمّ تحقيق الدكتاتوريّة».
فالتجربة الاشتراكيّة إذن تتميّز بصورة خاصّة عن سائر التجارب الثوريّة بأ نّها مضطرّة- كما يرى أقطابها- إلى الاستمرار في النهج الثوري، والاسلوب المطلق في الحكم داخل نطاق الحزب وخارجه، من أجل خلق الإنسان الاشتراكي الجديد البري‏ء من أمراض المجتمعات الطبقيّة وميولها الاستغلاليّة التي عاشتها الإنسانيّة آلاف السنين.
وهكذا يصبح من الضروري أن يباشر الثوريّون القادة ومن يدور في فلكهم الحزبي السلطة بشكل غير محدود؛ ليتأتّى لهم تحقيق المعجزة وصنع الإنسان الجديد.
وحين نصل إلى هذه المرحلة من تسلسل التجربة الاشتراكيّة نجد أنّ هؤلاء القادة في الجهاز الحزبي والسياسي وأنصارهم يتمتّعون بإمكانات لم تتمتّع بها أكثر الطبقات على مرّ التاريخ، ولا يفقدون من خصائص الطبقة شيئاً، فهم قد كسبوا سلطة مطلقة على جميع الممتلكات ووسائل الإنتاج المؤمّمة في البلاد، ومركزاً سياسيّاً يتيح لهم الانتفاع بتلك الممتلكات، والتصرّف بها طبقاً لمصالحهم الخاصّة، وإيماناً راسخاً بأنّ سيطرتهم المطلقة تكفل السعادة والرخاء لجميع الناس، كما كانت تؤمن بذلك الفئات السابقة التي مارست الحكم في العهود الإقطاعيّة والرأسماليّة.
والفرق الوحيد بين طبقة هؤلاء الثوريّين الحاكمين وسائر الطبقات التي‏

255

موسوعة الإمام الشهيد السيد محمد باقر الصدر قدس سره، ج‏3، ص: 255

بلشفيَّ الطراز[1] … وهكذا نجد أنّ القيادة الثوريّة للطبقة العاملة كانت ملكاً طبيعيّاً لمن يدّعون أنفسهم بالثوريّين المحترفين، كما كانت القيادة الثوريّة للفلّاحين والعمّال في ثورات سابقة ملكاً لأشخاص ليسوا من الفلّاحين والعمّال، مع فارق واحد بين الحالين، وهو أنّ الامتياز القيادي للأشخاص في المرحلة الاشتراكيّة لا يعبّر عن نفوذ اقتصادي، وإنّما ينشأ عن خصائص فكريّة وثوريّة وحزبيّة خاصّة. وقد كان هذا اللون الثوري والحزبي ستاراً على واقع التجربة الاشتراكيّة التي مرّت بها اوروبا الشرقيّة حجب الحقيقة عن الناس، فلم يستطيعوا أن يتبيّنوا- بادئ الأمر- في تلك القيادة الثوريّة للتجربة الاشتراكيّة بذرة لأفظع ما تصف الماركسيّة من ألوان الطبقيّة في التاريخ؛ لأنّ هذه القيادة يجب أن تستلم السلطة بشكل مطلق وفقاً لطبيعة المرحلة الاشتراكيّة في رأي الماركسيّة القائل بضرورة قيام دكتاتوريّة وسلطة مركزيّة مطلقة لتصفية حسابات الرأسماليّة نهائيّاً. فقد وصف لينين طبيعة السلطة في جهاز الحزب، التي تمتلك السلطة الحقيقيّة في البلاد خلال الثورة قائلًا:

«في المرحلة الراهنة من الحرب الأهليّة الحادّة لا يمكن لحزب شيوعي أن يقدر على أداء واجبه إلّاإذا كان منظّماً بأقصى نمط مركزي، وإلّا إذا سيطر عليه نظام حديدي يوازي النظام العسكري، وإلّا إذا كان جهازه المركزي جهازاً قويّاً متسلّطاً يتمتّع بصلاحيّات واسعة وبثقة أعضاء الحزب الكلّية».

 

[1] قيود الملكيّة الخاصّة: 89، نقله عن القانون الدستوري والنظم السياسيّة، القسم الثالث: 116

254

الخاصّة ويؤمّم وسائل الإنتاج فهو ينسف الأساس التاريخي للطبقيّة، ويصبح من المستحيل أن يواصل التركيب الطبقي وجوده بعد زوال الشروط الاقتصاديّة التي كان يرتكز عليها.
وقد عرفنا في دراستنا للمادّية التاريخيّة: أنّ العامل الاقتصادي ووضع الملكيّة الخاصّة ليس هو الأساس الوحيد لكلّ التركيبات الطبقيّة على مسرح التاريخ. فكم من تركيب طبقي كان يقوم على اسس عسكريّة أو سياسيّة أو دينيّة؟ كما رأينا فيما سبق. فليس من الضروري تاريخيّاً أن تختفي الطبقيّة بإزالة الملكيّة الخاصّة، بل من الممكن أن يحدث للمجتمع الاشتراكي تركيب طبقي على أساس آخر.
ونحن إذا حلّلنا المرحلة الاشتراكيّة وجدنا أ نّها تؤدّي- بطبيعتها الاقتصاديّة والسياسيّة- إلى خلق لون جديد من التناقض الطبقي بعد القضاء على الأشكال الطبقيّة السابقة.
أمّا الطبيعة الاقتصاديّة للمرحلة الاشتراكيّة فتتمثّل في مبدأ التوزيع القائل:
من كلٍّ حسب طاقته ولكلٍّ حسب عمله. وسوف نرى عند دراسة هذا المبدأ كيف أ نّه يؤدّي إلى خلق التفاوت من جديد؟ فلنأخذ الآن الطبيعة السياسيّة للمرحلة الاشتراكيّة بالبحث والتمحيص.
إنّ الشرط الأساسي للتجربة الثوريّة الاشتراكيّة أن تتحقّق على أيدي ثوريّين محترفين يتسلّمون قيادتها؛ إذ ليس من المعقول أن تباشر البروليتاريا- بجميع عناصرها- قيادة الثورة وتوجيه التجربة، وإنّما يجب أن تمارس نشاطها الثوري في ظلّ القيادة والتوجيه؛ ولذلك أ كّد لينين- بعد فشل ثورة (1905 م)- على: أنّ الثوريّين المحترفين هم وحدهم الذين يستطيعون أن يؤلّفوا حزباً جديدا

253
[نقد تفصيلي للمذهب‏]
الاشتراكيّة:

ولنأخذ الآن بدراسة الأركان والمعالم الرئيسيّة للاشتراكيّة بشي‏ء من التفصيل.

[1- محو الطبقيّة:]

فالركن الأوّل هو محو الطبقيّة الذي يضع حدّاً فاصلًا لما زخر به تاريخ البشريّة- على مرّ الزمن- من ألوان الصراع؛ لأنّ مردّ تلك الألوان إلى التناقض الطبقي الذي نتج عن انقسام المجتمع إلى مالكِين ومعدَمِين، فإذا قامت الاشتراكيّة وحوّلت المجتمع إلى طبقة واحدة زال التناقض الطبقي، واختفت كلّ ألوان الصراع، وساد الوئام والسلام إلى الأبد.
وتقوم الفكرة في هذا على أساس رأي المادّية التاريخيّة القائل: إنّ العامل الاقتصادي هو العامل الأساسي الوحيد في حياة المجتمع. فقد أدّى هذا الرأي بالماركسيّة إلى القول بأنّ حالة الملكيّة الخاصّة التي قسّمت المجتمع إلى مالكين ومعدمين هي الأساس الواقعي للتركيب الطبقي في المجتمع، ولكلّ ما يتمخّض عنه هذا التركيب من تناقض وصراع. وما دام المجتمع الاشتراكي يلغي الملكيّة

252

251

على أنّ الاشتراكيّة الماركسيّة هي البديل الوحيد الذي يحلّ محلّ الرأسماليّة في المجرى التاريخي للتطوّر، بل هي تفسح المجال لأشكال اقتصاديّة متعدّدة أن تحتلّ مركز الرأسماليّة من المجتمع، سواء الاشتراكيّة الماركسيّة كاشتراكيّة الدولة بلون من ألوانها، أو الاقتصاد المزدوج من أشكال متعدّدة للملكيّة، أو إعادة توزيع الثروة من جديد على المواطنين في إطار الملكيّة الخاصّة، وما إلى ذلك من أشكال تعالج أزمة الرأسماليّة دون الاضطرار إلى الاشتراكيّة الماركسيّة.
وبذلك تخسر الماركسيّة المذهبيّة برهانها العملي، وتفقد طابع الضرورة التاريخيّة الذي كانت تستمدّه من قوانين المادّية التاريخيّة والاسس الماركسيّة في التاريخ والاقتصاد. وبعد أن تنزع الفكرة المذهبيّة عنها الثوب العلمي تبقى في مستوى سائر الاقتراحات المذهبيّة.

250

الرأسماليّة- إلى مجتمع اشتراكي لا طبقي. أمّا كيف تعمل قوانين المادّية التاريخيّة في خلق الاشتراكية الماركسيّة على أنقاض الرأسماليّة؟ فهذا ما يشرحه ماركس- كما مرّ بنا سابقاً- في بحوثه التحليليّة للاقتصاد الرأسمالي التي حاول أن يكشف فيها عن التناقضات الجذريّة التي تسوق الرأسماليّة- وفقاً لقوانين المادّية التاريخيّة- إلى حتفها، وتصل بالركب البشري إلى المرحلة الاشتراكيّة، وبكلمات قلائل: إنّ قوانين المادّية التاريخيّة هي القاعدة العامّة لكلّ مراحل التاريخ في رأى ماركس، والاسس التحليليّة في الاقتصاد الماركسي- كقانون القيمة ونظريّة القيمة الفائضة- هي عبارة عن محاولة تطبيق تلك القوانين على المرحلة الرأسماليّة، والاشتراكيّة المذهبيّة هي النتيجة الضروريّة لهذا التطبيق، والتعبير المذهبي عن المجرى التاريخي المحتوم للرأسماليّة كما تفرضه القوانين العامّة للتاريخ.
ونحن في بحثنا الموسّع عن المادّية التاريخيّة- بقوانينها ومراحلها- قد انتهينا إلى نتائج غير ماركسيّة. فقد عرفنا بوضوح أنّ الواقع التاريخي للإنسانيّة لا يسير في موكب المادّية التاريخيّة، ولا يستمدّ محتواه الاجتماعي من وضع القوى المنتجة وتناقضاتها وقوانينها. كما تبيّنّا من خلال دراستنا لقوانين الاقتصاد الماركسي خطأ الماركسيّة في الاسس التحليليّة التي فسّرت في ضوئها تناقض الرأسماليّة من جهات شتّى، وزحفها المستمرّ نحو نهايتها المحتومة، فإنّ تلك التناقضات كانت ترتكز كلّها على القانون الماركسي للقيمة، ونظريّة القيمة الفائضة، فإذا انهارت هاتان الركيزتان تداعى البناء كلّه.
وحتّى إذا افترضنا أنّ الماركسيّة كانت على صواب في دراستها التحليليّة للاقتصاد الرأسمالي فإنّ تلك الاسس إنّما تكشف عن القوّة أو التناقضات التي تحكم على الرأسماليّة بالموت البطي‏ء حتّى تلفظ آخر أنفاسها، ولكنّها لا تبرهن‏

249
نقد المذهب بصورة عامّة

ونواجه منذ البدء في دراسة الماركسيّة المذهبيّة- على ضوء الأساليب السابقة- أهمّ وأخطر سؤال على صعيد البحث المذهبي، وهو السؤال عن الدليل الأساسي الذي يرتكز عليه المذهب، ويبرّر بصورة منطقيّة الدعوة إليه وتبنّيه، وبالتالي تطبيقه وبناء الحياة على أساسه.
إنّ ماركس لا يستند في تبرير الاشتراكيّة والشيوعيّة إلى قيَم ومفاهيم خُلُقيّة معيّنة عن المساواة، كما يتّجه إلى ذلك غيره من الاشتراكيّين الذين يصفهم ماركس بأ نّهم خياليّون؛ وذلك لأنّ القيَم والمفاهيم الخُلُقيّة ليست في رأي الماركسيّة إلّاوليدة العامل الاقتصادي والوضع الاجتماعي للقوى المنتجة، فلا معنى للدعوة إلى وضع اجتماعي على أساس خُلُقي بحت.
وإنّما يستند ماركس إلى قوانين المادّية التاريخيّة التي تفسّر حركة التاريخ في ضوء تطوّرات القوى المنتجة وأشكالها المختلفة. فهو يعتبر تلك القوانين الأساس العلمي للتاريخ، والقوّة التي تصنع له مراحله المتعاقبة في نقاط زمنيّة محدّدة وفقاً لوضع القوى المنتجة وشكلها الاجتماعي السائد.
ويرى في هذا الضوء: أنّ الاشتراكيّة نتيجة محتومة لتلك القوانين التي تعمل عملها الصارم في سبيل تحويل المرحلة الأخيرة للطبقة- وهي المرحلة

248

لقصّة الحكومة والسياسة على مسرح التاريخ، حيث تقضي على حكومة البروليتاريا، وتحرّر المجتمع من نير الحكومة وقيودها. كما أ نّها لا تكتفي بتأميم وسائل الإنتاج الرأسماليّة فحسب كما تقرّر الاشتراكيّة في الركن الثالث، بل تذهب إلى أكثر من هذا، فتلغي الملكيّة الخاصّة لوسائل الإنتاج الفرديّة أيضاً (وهي التي يستثمرها المالك بنفسه لا عن طريق الاجراء). وكذلك تحرّم الملكيّة الخاصّة لبضائع الاستهلاك وأثمانها، وبكلمة شاملة: تلغي الملكيّة الخاصّة إلغاءً تامّاً في الحقلين الإنتاجي والاستهلاكي معاً، وكذلك تجري تعديلًا حاسماً في القاعدة التي يقوم على أساسها التوزيع في الركن الرابع، إذ تركّز التوزيع على قاعدة: من كلٍّ حسب طاقته، ولكلٍّ حسب حاجته.
***
هذا هو المذهب الماركسي بكلتا مرحلتيه: الاشتراكيّة والشيوعيّة. ومن الواضح أنّ لدراسة المذهب- أيّ مذهبٍ كان- أساليب ثلاثة:
الأوّل: نقد المبادئ والاسس الفكريّة التي يرتكز عليها المذهب.
والثاني: دراسة مدى انطباق تلك المبادئ والاسس على المذهب الذي اقيم عليها.
والثالث: بحث الفكرة الجوهريّة في المذهب من ناحية إمكان تطبيقها، ومدى ما تتمتّع به الفكرة من واقعيّة وإمكان أو استحالة وخيال من ناحية اخرى.
وسوف نأخذ في دراستنا للمذهب الماركسي بهذه الأساليب الثلاثة مجتمعة.