کتابخانه
32

والمعونة إلى هؤلاء، لتنتشلهم من الهوَّة، وتشركهم في مغانمها الضخمة. ولماذا تفعل ذلك؟! ما دام المقياس الخُلُقي هو المنفعة واللذّة، وما دامت الدولة تضمن لها مطلق الحرّية فيما تعمل، وما دام النظام الديمقراطي الرأسمالي يضيق بالفلسفة المعنوية للحياة ومفاهيمها الخاصّة.
فالمسألة- إذاً- يجب أن تُدرَس بالطريقة التي يوحي بها هذا النظام، وهي:
أن يستغلَّ هؤلاء الكبراء حاجة الأكثرية إليهم، ومقوِّماتهم المعيشية، فيفرض على القادرين العملُ في ميادينهم ومصانعهم في مدّة لا يمكن الزيادة عليها، وبأثمان لا تفي إلّابالحياة الضرورية لهم. هذا هو منطق المنفعة الخالص الذي كان من الطبيعي أن يسلكوه، وتنقسم الامّة بسبب ذلك إلى فئة في قمّة الثراء، وأكثرية في المهوى السحيق.
وهنا يتبلور الحقّ السياسي للُامّة من جديد بشكل آخر. فالمساواة في الحقوق السياسية بين أفراد المواطنين وإن لم تمح من سجلّ النظام، غير أ نّها لم تعد بعد هذه الزعازع إلّاخيالًا وتفكيراً خالصاً؛ فإنّ الحرّية الاقتصادية حين تسجِّل ما عرضناه من نتائج، تنتهي إلى الانقسام الفظيع الذي مرّ في العرض، وتكون هي المسيطرة على الموقف والماسكة بالزمام، وتُقهَر الحرّية السياسية أمامها؛ فإنّ الفئة الرأسمالية بحكم مركزها الاقتصادي من المجتمع، وقدرتها على استعمال جميع وسائل الدعاية، وتمكُّنِها من شراء الأنصار والأعوان، تهيمن على مقاليد الحكم في الامّة، وتتسلّم السلطة لتسخيرها في مصالحها والسهر على مآربها، ويصبح التشريع والنظام الاجتماعي خاضعاً لسيطرة رأس المال، بعد أن كان المفروض في المفاهيم الديمقراطية أ نّه من حقّ الامّة جمعاء. وهكذا تعود الديمقراطية الرأسمالية في نهاية المطاف حُكماً تستأثر به الأقلية، وسلطاناً يحمي به عِدّةٌ من الأفراد كيانهم على حساب الآخرين، بالعقلية النفعية التي يستوحونها

31

في السابق، وأنّ مظاهر الاستغلال والاستهتار بحقوق الآخرين ومصالحهم ستُحفَظ في الجوّ الاجتماعي لهذا النظام كحالها في الأجواء الاجتماعية القديمة.
وغاية ما في الموضوع من فرق: أنّ الاستهتار بالكرامة الإنسانية كان من قِبَل أفراد بامّة، وأصبح في هذا النظام من الفئات التي تمثِّل الأكثريّات بالنسبة إلى الأقلِّيات التي تشكّل بمجموعها عدداً هائلًا من البشر.
وليت الأمر وقف عند هذا الحدّ، إذاً لكانت المأساة هيّنة، ولكان المسرح يحتفل بالضحكات أكثر ممّا يعرض من دموع، بل إنّ الأمر تفاقم واشتدّ حين برزت المسألة الاقتصادية من هذا النظام بعد ذلك، فقرّرت الحرّية الاقتصادية على هذا النحو الذي عرضناه سابقاً، وأجازت مختلف أساليب الثراء وألوانه مهما كان فاحشاً، ومهما كان شاذّ اًفي طريقته وأسبابه، وضمنت تحقيق ما أعلنت عنه، في الوقت الذي كان العالم يحتفل بانقلاب صناعي كبير، والعلم يتمخَّض عن ولادة الآلة التي قلّبت وجه الصناعة، وكسحت الصناعات اليدوية ونحوها، فانكشف الميدان عن ثراء فاحش من جانب الأقلية من أفراد الامّة، ممّن أتاحت لهم الفرص وسائل الإنتاج الحديث، وزوَّدتهم الحرّيات الرأسمالية غير المحدودة بضمانات كافية لاستثمارها واستغلالها إلى أبعد حدٍّ، والقضاء بها على كثير من فئات الامّة التي اكتسحت الآلة البخارية صناعتها، وزعزعت حياتها، ولم تجد سبيلًا للصمود في وجه التيّار، ما دام أرباب الصناعات الحديثة مسلّحين بالحرّية الاقتصادية، وبحقوق الحرّيات المقدَّسة كلّها.
وهكذا خلا الميدان إلّامن تلك الصفوة من أرباب الصناعة والإنتاج، وتضاءلت الفئة الوسطى، واقتربت إلى المستوى العامّ المنخفض، وصارت هذه الأكثرية المحطَّمة تحت رحمة تلك الصفوة التي لا تفكّر ولا تحسب إلّاعلى الطريقة الديمقراطية الرأسمالية. ومن الطبيعي- حينئذٍ- أن لا تمدُّ يد العطف‏

30

الأفراد نحو الأعمال التي تدعو إليها القيم الخُلُقية؟! مع أنّ كثيراً من تلك الأعمال لا تعود على الفرد بشي‏ء من النفع، وإذا اتّفق أن كان فيها شي‏ء من النفع باعتباره فرداً من المجتمع، فكثيراً ما يُزاحَم هذا النفع الضئيل- الذي لا يُدْرِكه الإنسان إلّا في نظرة تحليلية- بفوات منافع عاجلة أو مصالح فردية تجد في الحرّيات ضماناً لتحقيقها، فيطيح الفرد في سبيلها بكلّ برنامج الخُلُق والضمير الروحي.

مآسي النظام الرأسمالي:

وإذا أردنا أن نستعرض الحلقات المتسلسلة من المآسي الاجتماعية التي انبثقت عن هذا النظام المرتجل- لا على أساس فلسفيٍّ مدروس- فسوف يضيق بذلك المجال المحدود لهذا البحث؛ ولذا نلمّح إليها:
فأوّل تلك الحلقات: تحكُّم الأكثرية في الأقلية ومصالحها ومسائلها الحيوية؛ فإنّ الحرّية السياسية كانت تعني: أنّ وضع النظام والقوانين وتمشيتها من حقّ الأكثرية. ولنتصوّر أنّ الفئة التي تمثِّل الأكثرية في الامّة ملكت زمام الحكم والتشريع، وهي تحمل العقلية الديمقراطية الرأسمالية، وهي عقلية مادّية خالصة في اتّجاهها، ونزعاتها، وأهدافها، وأهوائها، فماذا يكون مصير الفئة الاخرى؟! أو ماذا ترتقب للأقلية من حياة في ظلّ قوانين تُشرَّع لحساب الأكثرية ولحفظ مصالحها؟! وهل يكون من الغريب- حينئذٍ- إذا شَرَّعت الأكثرية القوانين على ضوء مصالحها خاصّة، وأهملت مصالح الأقلية، واتّجهت إلى تحقيق رغباتها اتّجاهاً مجحفاً بحقوق الآخرين؟! فمن الذي يحفظ لهذه الأقلية كيانها الحيوي، ويذبُّ عن وجهها الظلمَ، ما دامت المصلحة الشخصية هي مسألة كلّ فرد، وما دامت الأكثرية لا تعرف للقيم الروحية والمعنوية مفهوماً في عقليّتها الاجتماعية؟! وبطبيعة الحال، أنّ التحكّم سوف يبقى في ظلّ النظام كما كان‏

29

موضع الأخلاق من الرأسمالية:

وكان من جرّاء هذه المادّية التي زخر النظام بروحها أن اقصيت الأخلاق من الحساب، ولم يُلحَظ لها وجودٌ في ذلك النظام، أو بالأحرى تبدّلت مفاهيمها ومقاييسها، واعلنت المصلحة الشخصية كهدف أعلى، والحرّيات جميعاً كوسيلة لتحقيق تلك المصلحة. فنشأ عن ذلك أكثر ما ضجَّ به العالم الحديث من محن وكوارث، ومآسي ومصائب.
وقد يدافع أنصار الديمقراطية الرأسمالية عن وجهة نظرها في الفرد ومصالحه الشخصية، قائلين: إنّ الهدف الشخصي بنفسه يحقّق المصلحة الاجتماعية، وإنّ النتائج التي تحقّقها الأخلاق بقيمها الروحية تُحقَّق في المجتمع الديمقراطي الرأسمالي، لكن لا عن طريق الأخلاق، بل عن طريق الدوافع الخاصّة وخدمتها؛ فإنّ الإنسان حين يقوم بخدمة اجتماعية يحقّق بذلك مصلحةً شخصية أيضاً؛ باعتباره جزءاً للمجتمع الذي سعى في سبيله، وحين ينقذ حياة شخص تعرَّضت للخطر فقد أفاد نفسه أيضاً؛ لأنّ حياة الشخص سوف تقوم بخدمة للهيئة الاجتماعية، فيعود عليه نصيب منها، وإذن، فالدافع الشخصي والحسّ النفعي يكفيان لتأمين المصالح الاجتماعية وضمانها، ما دامت ترجع بالتحليل إلى مصالح خاصّة ومنافع فردية.
وهذا الدفاع أقرب إلى الخيال الواسع منه إلى الاستدلال. فتصوَّر بنفسك أنّ المقياس العملي في الحياة لكلّ فرد في الامّة إذا كان هو تحقيق منافعه ومصالحه الخاصّة، على أوسع نطاق وأبعد مدى، وكانت الدولة تُوفِّر للفرد حرّياته وتقدِّسه بغير تحفّظ ولا تحديد، فما هو وضع العمل الاجتماعي من قاموس هؤلاء الأفراد؟! وكيف يمكن أن يكون اتّصال المصلحة الاجتماعية بالفرد كافياً لتوجيه‏

28

بواقعه، وأنزه قصداً، وأشدّ اعتدالًا منه.
وأيضاً، فإنّ هذه الحياة المحدودة إن كانت بداية الشوط لحياة خالدة تنبثق عنها، وتتلوّن بطابعها، وتتوقّف موازينها على مدى اعتدال الحياة الاولى ونزاهتها، فمن الطبيعي أن تنظّم الحياة الحاضرة بما هي بداية الشوط لحياة لا فناء فيها، وتقام على اسس القِيَم المعنوية والمادّية معاً.
وإذن فمسألة الإيمان باللَّه وانبثاق الحياة عنه ليست مسألةً فكرية خالصة لا علاقة لها بالحياة، لتفصل عن مجالات الحياة ويشرّع لها طرائقها ودساتيرها مع إغفال تلك المسألة وفصلها، بل هي مسألة تتّصل بالعقل والقلب والحياة جميعاً.
والدليل على مدى اتّصالها بالحياة من الديمقراطية الرأسمالية نفسها: أنّ الفكرة فيها تُقدَّم على أساس الإيمان بعدم وجود شخصية أو مجموعة من الأفراد بلغت من العصمة في قصدها وميلها وفي رأيها واجتهادها إلى الدرجة التي تبيح إيكال المسألة الاجتماعية إليها، والتعويل في إقامة حياة صالحة للُامّة عليها.
وهذا الأساس بنفسه لا موضعَ ولا معنى له إلّاإذا اقيم على فلسفة مادّية خالصة، لا تعترف بإمكان انبثاق النظام إلّاعن عقل بشري محدود.
فالنظام الرأسمالي مادّي بكلّ ما للّفظ من معنى، فهو إمّا أن يكون قد استبطن المادّية، ولم يجرؤ على الإعلان عن ربطه بها وارتكازه عليها. وإمّا أن يكون جاهلًا بمدى الربط الطبيعي بين المسألة الواقعية للحياة ومسألتها الاجتماعية. وعلى هذا فهو يفقد الفلسفة التي لا بدّ لكلّ نظام اجتماعي أن يرتكز عليها. وهو- بكلمة- نظام مادّي، وإن لم يكن مقاماً على فلسفة مادّية واضحة الخطوط.

27

التمرّد والسخط على الدين المزعوم الذي كان يجمِّد الأفكار والعقول، ويتملّق للظلم والجبروت، وينتصر للفساد الاجتماعي في كلّ معركة يخوضها مع الضعفاء والمضطهدين‏[1].

فهذه العوامل الثلاثة ساعدت على بعث المادّية في كثير من العقليّات الغربية.

كلّ هذا صحيح، ولكنّ النظام الرأسمالي لم يركّز على فهم فلسفي مادّي للحياة، وهذا هو التناقض والعجز، فإنّ المسألة الاجتماعية للحياة تتّصل بواقع الحياة، ولا تتبلور في شكل صحيح إلّاإذا اقيمت على قاعدة مركزية، تشرح الحياة وواقعها وحدودها، والنظام الرأسمالي يفقد هذه القاعدة، فهو ينطوي على خداع وتضليل، أو على عجلة وقلّة أناة، حين تجمّد المسألة الواقعية للحياة، وتُدرَس المسألة الاجتماعية منفصلة عنها، مع أنّ قوام الميزان الفكري للنظام بتحديد نظرته منذ البداية إلى واقع الحياة، التي تموِّن المجتمع بالمادّة الاجتماعية- وهي: العلاقات المتبادلة بين الناس- وطريقة فهمه لها، واكتشاف أسرارها وقيمها. فالإنسان في هذا الكوكب إن كان من صنع قوّة مُدبِّرة ميهمنة، عالمة بأسراره وخفاياه، بظواهره ودقائقه، قائمة على تنظيمه وتوجيهه، فمن الطبيعي أن يخضع في توجيهه وتكييف حياته لتلك القوّة الخالقة؛ لأنّها أبصر بأمره، وأعلم‏

 

[1] فإنّ الكنيسة لعبت دوراً هامّاً في استغلال الدين استغلالًا شنيعاً، وجعل اسمه أداة مآربها وأغراضها، وخنق الأنفاس العلمية والاجتماعية، وأقامت محاكم التفتيش، وأعطت لها الصلاحيّات الواسعة للتصرّف في المقدَّرات، حتّى تولّد عن ذلك كلّه التبرّم بالدين والسخط عليه؛ لأنّ الجريمة ارتكبت باسمه، مع أ نّه في واقعه المصفّى وجوهره الصحيح لا يقلّ عن اولئك الساخطين والمتبرّمين ضيقاً بتلك الجريمة، واستفظاعاً لدوافعها ونتائجها.( المؤلّف قدس سره)

26

وافتُرِض على هذا الشكل. ولكن هذا النظام في نفس الوقت الذي كان مشبعاً بالروح المادّية الطاغية لم يبنَ على فلسفة مادّية للحياة، وعلى دراسة مفصّلة لها.

فالحياة في الجوّ الاجتماعي لهذا النظام، فُصِلت عن كلّ علاقة خارجة عن حدود المادّة والمنفعة، ولكن لم يُهيَّأ لإقامة هذا النظام فهمٌ فلسفيٌّ كامل لعملية الفصل هذه. ولا أعني بذلك: أنّ العالم لم يكن فيه مدارس للفلسفة المادّية وأنصار لها، بل كان فيه إقبال على النزعة المادّية تأثُّراً بالعقلية التجريبية التي شاعت منذ بداية الانقلاب الصناعي‏[1]، وبروح الشكّ والتبلبل الفكري الذي أحدثه انقلاب الرأي في طائفة من الأفكار كانت تُعَدُّ من أوضح الحقائق وأكثرها صحّة[2]، وبروح‏

 

[1] فإنّ التجربة اكتسبت أهمية كُبرى‏ في الميدان العلمي، ووفِّقت توفيقاً- لم يكن في الحسبان- إلى الكشف عن حقائق كثيرة، وإزاحة الستار عن أسرار مدهشة، أتاحت للإنسانية أن تستثمر تلك الأسرار والحقائق في حياتها العملية. وهذا التوفيق الذي حصلت عليه التجربة، أشاد لها قدسيّةً في العقليّة العامّة، وجعل الناس ينصرفون عن الأفكار العقليّة، وعن كلّ الحقائق التي لا تظهر في ميدان الحسّ والتجربة، حتّى صار الحسُّ التجريبي في عقيدة كثير من التجْرِيبيين الأساس الوحيد لجميع المعارف والعلوم. وسوف نوضِّح في هذا الكتاب: أنّ التجربة بنفسها تعتمد على الفكر العقلي، وأنّ الأساس الأوّل للعلوم والمعارف هو العقل الذي يدرك حقائق لا يقع عليها الحسّ، كما يدرك الحقائق المحسوسة.( المؤلّف قدس سره)

[2] فإنّ جملة من العقائد العامّة كانت في درجة عالية من الوضوح والبداهة في النظر العامّ، مع أ نّها لم تكن قائمةً على أساس من منطق عقلي، أو دليل فلسفي، كالإيمان بأنّ الأرض مركز العالم. فلمّا انهارت هذه العقائد في ظلّ التجارب الصحيحة، تزعزع الإيمان العامّ، وسيطرت موجة من الشكّ على كثير من الأذهان، فبُعِثت السفسطة اليونانية من جديد متأثّرة بروح الشكّ، كما تأثّرت في العهد اليوناني بروح الشكّ الذي تولَّد من تناقض المذاهب الفلسفية وشدّة الجدل بها.( المؤلّف قدس سره)

25

فلا جناح عليه أن يكيّف حياته باللون الذي يحلو له، ويتّبع مختلف العادات والتقاليد والشعائر والطقوس التي يستذوقها؛ لأنّ ذلك مسألة خاصّة تتّصل بكيانه وحاضره ومستقبله. وما دام يملك هذا الكيان، فهو قادر على التصرّف فيه كما يشاء.
وليست الحرّية الدينية- في رأي الرأسمالية التي تنادي بها- إلّاتعبيراً عن الحرّية الفكرية في جانبها العقائدي، وعن الحرّية الشخصية في الجانب العملي الذي يتّصل بالشعائر والسلوك.
ويُستخلَص من هذا العرض: أنّ الخطّ الفكري العريض لهذا النظام- كما ألمحنا إليه- هو: أنّ مصالح المجتمع بمصالح الأفراد. فالفرد هو القاعدة التي يجب أن يرتكز عليها النظام الاجتماعي، والدولة الصالحة هي الجهاز الذي يُسخَّر لخدمة الفرد وحسابه، والأداة القوية لحفظ مصالحه وحمايتها.
هذه هي الديمقراطية الرأسمالية في ركائزها الأساسية التي قامت من أجلها جملة من الثورات، وجاهد في سبيلها كثير من الشعوب والامم، في ظلّ قادة كانوا حين يعبّرون عن هذا النظام الجديد ويعِدونهم بمحاسنه، يصفون الجنّة في نعيمها وسعادتها، وما تحفل به من انطلاق وهناء وكرامة وثراء. وقد اجريت عليها بعد ذلك عدّة من التعديلات، غير أ نّها لم تمسّ جوهرها بالصميم، بل بقيت محتفظةً بأهمّ ركائزها واسسها.

الاتجاه المادّي في الرأسمالية:

ومن الواضح أنّ هذا النظام الاجتماعي نظامٌ مادّيٌّ خالص، اخذ فيه الإنسان منفصلًا عن مبدئه وآخرته، محدوداً بالجانب النفعي من حياته المادّية،

24

الثمن إذا ارتفع عن حدوده الطبيعية العادلة انخفض الطلب بحكم القانون الطبيعي الذي يحكم بأنّ ارتفاع الثمن يؤثّر في انخفاض الطلب، وانخفاض الطلب بدوره يقوم بتخفيض الثمن، تحقيقاً لقانون طبيعي آخر، ولا يتركه حتّى ينخفض به إلى مستواه السابق، ويزول الشذوذ بذلك.
والمصلحة الشخصية تفرض على الفرد- دائماً- التفكير في كيفية إزادة الإنتاج وتحسينه، مع تقليل مصارفه ونفقاته. وذلك يحقّق مصلحة المجتمع، في نفس الوقت الذي يعتبر مسألة خاصّة بالفرد أيضاً.
والتنافس يقتضي- بصورة طبيعية- تحديد أثمان البضائع، واجور العمّال والمستخدمين بشكل عادل، لا ظلم فيه ولا إجحاف؛ لأنّ كلّ بائع أو منتج يخشى من رفع أثمان بضائعه، أو تخفيض اجور عمّاله، بسبب منافسة الآخرين له من البائعين والمنتجين.
والحرّية الفكرية تعني: أن يعيش الناس أحراراً في عقائدهم وأفكارهم، يفكّرون حسب ما يتراءى لهم ويحلو لعقولهم، ويعتقدون ما يصل إليه اجتهادهم، أو ما توحيه إليهم مشتهياتهم وأهواؤهم بدون عائق من السلطة. فالدولة لا تسلب هذه الحرّية عن فرد، ولا تمنعه عن ممارسة حقّه فيها، والإعلان عن أفكاره ومعتقداته، والدفاع عن وجهات نظره واجتهاده.
والحرّية الشخصية تُعبِّر عن تحرُّر الإنسان في سلوكه الخاصّ من مختلف ألوان الضغط والتحديد. فهو يملك إرادته وتطويرها وفقاً لرغباته الخاصّة، مهما نجم عن استعماله لسيطرته هذه على سلوكه الخاصّ من مضاعفات ونتائج، ما لم تصطدم بسيطرة الآخرين على سلوكهم. فالحدّ النهائي الذي تقف عنده الحرّية الشخصية لكلّ فرد: حرّية الآخرين. فما لم يمسّها الفرد بسوء