کتابخانه
23

فمن الطبيعي- أيضاً- أن لا يباح الاضطلاع بمسؤوليّتها لفرد أو لمجموعة خاصّة من الأفراد- مهما كانت الظروف- ما دام لم يوجد الفرد الذي يرتفع في نزاهة قصده ورجاحة عقله على الأهواء والأخطاء.
فلا بدّ- إذن- من إعلان المساواة التامّة في الحقوق السياسية بين المواطنين كافةً؛ لأنّهم يتساوون في تحمُّل نتائج المسألة الاجتماعية، والخضوع لمقتضيات السلطات التشريعية والتنفيذية. وعلى هذا الأساس قام حقّ التصويت ومبدأ الانتخاب العامّ الذي يضمن انبثاق الجهاز الحاكم- بكلّ سلطاته وشُعَبه- عن أكثرية المواطنين.
والحرّية الاقتصادية ترتكز على الإيمان بالاقتصاد الحرّ، وتقرِّر فتح جميع الأبواب، وتهيئة كلّ الميادين أمام المواطن في المجال الاقتصادي. فيباح التملّك للاستهلاك وللانتاج معاً، وتباح هذه الملكية الانتاجية التي يتكوّن منها رأس المال من غير حدٍّ وتقييد، وللجميع على حدّ سواء. فلكلّ فرد مطلق الحرّية في انتهاج أيّ اسلوب وسلوك أيّ طريق لكسب الثروة وتضخيمها ومضاعفتها على ضوء مصالحه ومنافعه الشخصية.
وفي زعم بعض المدافعين عن هذه الحرّية الاقتصادية أنّ قوانين الاقتصاد السياسي- التي تجري على اصول عامّة بصورة طبيعية- كفيلة بسعادة المجتمع، وحفظ التوازن الاقتصادي فيه، وأنّ المصلحة الشخصية التي هي الحافز القوي والهدف الحقيقي للفرد في عمله ونشاطه، هي خير ضمان للمصلحة الاجتماعية العامّة. وأنّ التنافس الذي يقوم في السوق الحرّة، نتيجةً لتساوي المنتجين والمتّجرين في حقّهم من الحرّية الاقتصادية، يكفي وحده لتحقيق روح العدل والإنصاف في شتّى الاتفاقات والمعاملات. فالقوانين الطبيعية للاقتصاد تتدخّل- مثلًا- في حفظ المستوى الطبيعي للثمن، بصورة تكاد أن تكون آلية؛ وذلك أن‏

22

الديمقراطية الرأسمالية

ولنبدأ بالنظام الديمقراطي الرأسمالي، هذا النظام الذي أطاح بلون من الظلم في الحياة الاقتصادية، وبالحكم الدكتاتوري في الحياة السياسية، وبجمود الكنيسة وما إليها في الحياة الفكرية، وهيّأ مقاليد الحكم والنفوذ لفئة حاكمة جديدة حلَّت محلّ السابقين، وقامت بنفس دورهم الاجتماعي في اسلوب جديد.
وقد قامت الديمقراطية الرأسمالية على الإيمان بالفرد إيماناً لا حدّ له، وبأنّ مصالحه الخاصّة بنفسها تكفل- بصورة طبيعية- مصلحة المجتمع في مختلف الميادين … وأنّ فكرة الدولة إنّما تستهدف حماية الأفراد ومصالحهم الخاصّة، فلا يجوز لها أن تتعدَّى‏ حدود هذا الهدف في نشاطها ومجالات عملها.
ويتلخّص النظام الديمقراطي الرأسمالي في إعلان الحرّيات الأربع:
السياسية، والاقتصادية، والفكرية، والشخصية.
فالحرّية السياسية تجعل لكلّ فرد كلاماً مسموعاً، ورأياً محترماً في تقرير الحياة العامّة للُامّة: وضع خططها، ورسم قوانينها، وتعيين السلطات القائمة لحمايتها؛ وذلك لأنّ النظام الاجتماعي للُامّة، والجهاز الحاكم فيها، مسألةٌ تتّصل اتّصالًا مباشراً بحياة كلّ فرد من أفرادها، وتؤثّر تأثيراً حاسماً في سعادته أو شقائه، فمن الطبيعي- حينئذٍ- أن يكون لكلّ فرد حقّ المشاركة في بناء النظام والحكم.
وإذا كانت المسألة الاجتماعية- كما قلنا- مسألة حياة أو موت، ومسألة سعادة أو شقاء للمواطنين الذين تسري عليهم القوانين والأنظمة العامّة …

21

4- النظام الإسلامي.
ويتقاسم العالم اليوم اثنان من هذه الأنظمة الأربعة: فالنظام الديمقراطي الرأسمالي هو أساس الحكم في بقعة كبيرة من الأرض، والنظام الاشتراكي هو السائد في بقعة كبيرة اخرى. وكلٌّ من النظامين يملك كياناً سياسيّاً عظيماً، يحميه في صراعه مع الآخر، ويسلِّحه في معركته الجبّارة التي يخوضها أبطاله في سبيل الحصول على قيادة العالم، وتوحيد النظام الاجتماعي فيه.
وأمّا النظام الشيوعي والإسلامي فوجودهما بالفعل فكري خالص. غير أنّ النظام الإسلامي مرّ بتجربة من أروع تجارب النُّظُم الاجتماعية وأنجحها، ثمّ عصفت به العواصف بعد أن خلا الميدان من القادة المبدئيّين أو كاد، وبقيت التجربة في رحمة اناس لم ينضج الإسلام في نفوسهم، ولم يملأ أرواحهم بروحه وجوهره، فعجزت عن الصمود والبقاء، فتقوَّض الكيان الإسلامي، وبقي نظام الإسلام فكرةً في ذهن الامّة الإسلامية، وعقيدةً في قلوب المسلمين، وأملًا يسعى إلى تحقيقه أبناؤه المجاهدون. وأمّا النظام الشيوعي فهو فكرة غير مُجرَّبة حتّى الآن تجربة كاملة، وإنّما تتّجه قيادة المعسكر الاشتراكي اليوم إلى تهيئة جوٍّ اجتماعي له، بعد أن عجزت عن تطبيقه حين ملكت زمام الحكم، فأعلنت النظام الاشتراكي، وطبّقته كخطوة إلى الشيوعية الحقيقية.
فما هو موضعنا من هذه الأنظمة؟
وما هي قضيّتنا التي يجب أن ننذر حياتنا لها، ونقود السفينة إلى شاطئها؟

20

البشري التي ترمي إلى إقامة البناء الاجتماعي وهندسته، ورسم خططه، ووضع ركائزه، وكان جهاداً مُرهِقاً يضجُّ بالمآسي والمظالم، ويزخر بالضحكات والدموع، وتقترن فيه السعادة مع الشقاء؛ كلّ ذلك لما كان يتمثّل في تلك الألوان الاجتماعية من مظاهر الشذوذ والانحراف عن الوضع الاجتماعي الصحيح.
ولولا ومضات شعَّت في لحظات من تأريخ هذا الكوكب، لكان المجتمع الإنساني يعيش في مأساة مستمرّة، وسبح دائم في الأمواج الزاخرة.
ولا نريد أن نستعرض الآن أشواط الجهاد الإنساني في الميدان الاجتماعي؛ لأنّنا لا نقصد بهذه الدراسة أن نؤرّخ للإنسانية المعذَّبة، وأجوائها التي تقلّبت فيها منذ الآماد البعيدة، وإنّما نريد أن نواكب الإنسانية في واقعها الحاضر، وفي أشواطها التي انتهت إليها؛ لنعرف الغاية التي يجب أن ينتهي إليها الشوط، والساحل الطبيعي الذي لا بدّ للسفينة أن تشقّ طريقها إليه، وترسو عنده؛ لتصل إلى السلام والخير، وتؤوب إلى حياة مستقرّة، يعمرها العدل والسعادة، بعد جهد وعناء طويلين، وبعد تطواف عريض في شتّى النواحي ومختلف الاتّجاهات.

المذاهب الاجتماعية:

إنّ أهمّ المذاهب الاجتماعية التي تسود الذهنية الإنسانية العامّة اليوم، ويقوم بينها الصراع الفكري أو السياسي على اختلاف مدى‏ وجودها الاجتماعي في حياة الإنسان، هي مذاهب أربعة:
1- النظام الديمقراطي الرأسمالي.
2- النظام الاشتراكي.
3- النظام الشيوعي.

19

المسألة الاجتماعية

مشكلة العالم التي تملأ فكر الإنسانية اليوم وتمسُّ واقعها بالصميم هي:
مشكلة النظام الاجتماعي التي تتلخّص في محاولة إعطاء أصدق إجابة عن السؤال الآتي:
ما هو النظام الذي يصلح للإنسانية، وتسعد به في حياتها الاجتماعية؟
ومن الطبيعي أن تحتلّ هذه المشكلة مقامها الخطير، وأن تكون في تعقيدها وتنوّع ألوان الاجتهاد في حلّها مصدراً للخطر على الإنسانية ذاتها؛ لأنّ النظام داخل في حساب الحياة الإنسانية، ومؤثِّر في كيانها الاجتماعي في الصميم.
وهذه المشكلة عميقة الجذور في الأغوار البعيدة من تأريخ البشرية، وقد واجهها الإنسان منذ نشأت في واقعه الحياة الاجتماعية، وانبثقت الإنسانية الجماعية تتمثّل في عِدّة أفراد تجمعهم علاقات وروابط مشتركة. فإنّ هذه العلاقات التي تكوّنت تحقيقاً لمتطلّبات الفطرة والطبيعة، في حاجة- بطبيعة الحال- إلى توجيه وتنظيم، وعلى مدى انسجام هذا التنظيم مع الواقع الإنساني ومصالحه يتوقّف استقرار المجتمع وسعادته.
وقد دفعت هذه المشكلة بالإنسانية في ميادينها الفكرية والسياسية إلى خوض جهاد طويل، وكفاح حافل بمختلف ألوان الصراع، وبشتّى مذاهب العقل‏

18

17

تمهيد

المسألة الاجتماعيّة.
الديمقراطيّة الرأسماليّة.
الاشتراكيّة والشيوعيّة.
الإسلام والمشكلة الاجتماعيّة.

16

15

ضوء القوانين الفلسفية، وفي ضوء مختلف العلوم الطبيعية والإنسانية.
وأمّا الحلقة الأخيرة فندرس فيها مشكلة من أهمّ المشاكل الفلسفية، وهي:
«الإدراك»، الذي يمثّل ميداناً مُهِمّاً من ميادين الصراع بين المادّية و الميتا فيزيقية. وقد عولج البحثُ [فيها] على أساسٍ فلسفيٍّ، وفي ضوء مختلف العلوم ذات الصلة بالموضوع: من طبيعية، وفسيولوجية، وسيكولوجية.
هذا هو الكتاب في مخطّط إجمالي عامّ، تجده الآن بين يديك نتيجة جهود متظافرة طيلة عشرة أشهر، أدّت إلى إخراجه كما ترى. وكلُّ أملي أن يكون قد أدّى‏ شيئاً من الرسالة المقدّسة بأمان وإخلاص.
وأرجو من القارئ العزيز أن يدرس بحوث الكتاب دراسة موضوعية بكلّ إمعان وتدبُّر، تاركاً الحكم له أو عليه إلى ما يملك من المقاييس الفلسفية والعلمية الدقيقة، لا إلى الرغبة والعاطفة. ولا احبّ له أن يطالع الكتاب كما يطالع كتاباً روائيّاً، أو لوناً من ألوان الترف العقلي والأدبي، فليس الكتاب رواية ولا أدباً أو ترفاً عقليّاً، وإنّما هو في الصميم من مشاكل الإنسانية المفكِّرة.
وما توفيقي إلّاباللَّه عليه توكّلت وإليه انيب.

محمّد باقر الصدر
النجف الأشرف‏
29 ربيع الثاني 1379 ه