کتابخانه
149

قد يقع فيها الخطأ.
فنحن- إذن- مهما شككنا لا نستطيع أن نشكّ في تلك القاعدة؛ لأنّها مضمونة الصدق بصورة ضرورية.
ونريد أن نتبيّن الآن ما إذا كان في وسع الفيلسوف المثالي (باركلي) أن ينكر تلك القاعدة المضمونة، ولا يقرّ بوجود معارف ضرورية فوق الخطأ والاشتباه أو لا؟
ولا شكّ في أنّ الجواب هو النفي؛ فإنّه مضطرّ إلى الاعتراف بوجود معارف مضمونة الصدق ما دام قد حاول الاستدلال على مثاليّته بالأدلّة السابقة؛ فإنّ الإنسان لا يمكنه أن يستدلّ على شي‏ء ما لم يركّز استدلاله على اصول وقواعد مضمونة الصدق عنده، ونحن إذا لاحظنا أدلّة (باركلي) وجدناه مضطرّاً إلى الاعتراف:
أوّلًا- بمبدأ عدم التناقض الذي ارتكز عليه الدليل الأوّل؛ فإنّ التناقض إذا كان ممكناً فلا يصحّ أن يستنتج من تناقض الإحساسات عدم موضوعيتها.
وثانياً- بمبدأ العلّية والضرورة، فهو لو لم يكن يعترف بهذا المبدأ لكان استدلاله عبثاً؛ لأنّ الإنسان إنّما يقيم دليلًا على رأيه لإيمانه بأنّ الدليل علّة ضرورية للعلم بصحّة ذلك الرأي. فإذا لم يكن يعتقد بمبدأ العلّية والضرورة جاز أن يكون الدليل صحيحاً، ومع ذلك لا يثبت به الرأي المطلوب.
وإذا ثبت وجود معارف مضمونة الصدق في التفكير البشري، فلا شكّ في أنّ من تلك المعارف معرفتنا بوجود العالم الموضوعي المستقلّ عنّا؛ فإنّ العقل يجد نفسه مضطرّاً إلى التصديق بوجود عالم خارجي على سبيل الإجمال ورفض كلّ شكّ في ذلك، مهما وقعت من مفارقات بين حسّه والواقع، أو بين فكره والحقيقة، بل يُعدّ التشكيك في وجود العالم المستقلّ ضرباً من الجنون. ونخلص‏

148

التصديقي، لمكان كشفه الذاتي، سواء أكان العلم مصيباً في الواقع أم مخطئاً، فإنّه علم وكشف على كلّ تقدير.
الدليل الرابع- أنّ المعارف التصديقية إذا كانت قد تخطئ، ولم يكن كشفها الذاتي يصونها عن ذلك، فلماذا لا يجوز أن تكون جميع معارفنا التصديقية خطأً؟! وكيف يمكننا أن نعتمد على الكشف الذاتي للعلم ما دام هذا الكشف صفة لازمة للعلم في موارد الخطأ والصواب على حدّ سواء؟!
وهذه المحاولة تختلف في هدفها عن المحاولة السابقة: ففي تلك المحاولة كانت تستهدف المثالية إلى اعتبار المعارف البشرية أشياء ذاتية لا تشقّ لنا الطريق إلى الواقع الموضوعي، وقد أحبطنا تلك المحاولة بإيضاح ما للمعارف التصديقية من كشف ذاتي تمتاز به على التصوّر الخالص. وأمّا هذه المحاولة فهي تقصد إزالة المعارف التصديقية نهائياً من التفكير البشري؛ لأنّها ما دامت قد تخطئ، أو ما دام كشفها الذاتي لا يعني صحّتها دائماً، فلماذا لا نشكّ فيها ونتخلّى عنها جميعاً؟! ولا يوجد لدينا بعد ذلك ما يضمن وجود العالم الموضوعي.
وبطبيعة الحال، أنّ التفكير البشري لو لم يكن يملك عدّة معارف مضمونة الصحّة بصورة ضرورية، لكان هذا الشكّ لازماً ولا مهرب عنه، ولما أمكننا أن نعلم بحقيقةٍ مهما كانت ما دام هذا العلم لا يستند إلى ضمان ضروري، وكان الخطأ محتملًا في كلّ مجال. ولكنّ الذي يقضي على هذا الشكّ هو المذهب العقلي- الذي درسناه في الجزء الأوّل من نظرية المعرفة (المصدر الأساسي للمعرفة)- فهو يقرّر وجود معارف ضرورية مضمونة الصحّة لا يقع فيها الخطأ مطلقاً، وإنّما يقع أحياناً في طريقة الاستنتاج منها. وعلى هذا تنقسم المعارف البشرية- كما سبق في تلك الدراسة- إلى معارف ضرورية مضمونة تتشكّل منها القاعدة الرئيسية للتفكير، ومعارف ثانوية تستنتج من تلك القاعدة، وهي التي‏

147

إلى الواقع الموضوعي عن طريق أفكارنا ما دمنا قد اعترفنا بأ نّها لا تملك كشفاً ذاتياً عن ذلك الواقع.

ولأجل أن نجيب على هذا الدليل يلزمنا أن نعرف ما هو معنى الكشف الذاتي للعلم؟ إنّ الكشف الذاتي للعلم معناه: أن يرينا متعلّقه ثابتاً في الواقع الخارج عن حدود إدراكنا وشعورنا: فعلمنا بأنّ الشمس طالعة وأنّ المثلّث غير المربّع يجعلنا نرى طلوع الشمس ومغايرة المثلّث للمربّع ثابتين في واقع مستقلّ عنّا، فهو يقوم بدور المرآة، وإراءته لنا ذلك هي كشفه الذاتي، وليس معنى هذه الإراءة: أنّ طلوع الشمس موجود في الخارج حقّاً، وأنّ مغايرة المثلّث للمربّع ثابتة في الواقع؛ فإنّ كون الشي‏ء ثابتاً في الواقع غير كونه مرئياً كذلك، وبذلك نعرف أنّ الكشف الذاتي للعلم لا يتخلّف عنه حتّى في موارد الخطأ والاشتباه، فإنّ علم القدماء بأنّ الشمس تدور حول الأرض كان له من الكشف الذاتي بمقدار ما لعلمنا بدوران الأرض حول الشمس من كشف، بمعنى: أ نّهم كانوا يرون دوران الشمس حول الأرض أمراً ثابتاً في الواقع بصورة مستقلّة عنهم، فوجود هذا الدوران بصورة موضوعية كان مرئياً لهم، أي: أ نّهم كانوا يصدِّقون بذلك وإن لم يكن ثابتاً في الواقع‏[1].

فالإنسان بطبيعته- إذن- يخرج من التصوّرية إلى الموضوعية بالعلم‏

 

[1] وبالتعبير الفلسفي المصطلح: أنّ التضايف القائم بين الكاشف وهو العلم، والمنكشف بالعرض وهو الشي‏ء الخارج عن حدود العلم، ليس ثابتاً بين وجود الكاشف ووجود المنكشف بالعرض، ليمتنع انفكاك أحدهما عن الآخر، وإنّما هو بين الكاشفية الذاتية للعلم والمنكشفية بالعرض للشي‏ء الخارج عن حدود العلم، ومن الواضح: أنّ الأمرين متلازمان ولا يمكن انفكاكهما مطلقاً.( المؤلّف قدس سره)

146

وجود حقيقة موضوعية يحكي عنها إدراكك وشعورك.
وهكذا يتّضح: أنّ المعرفة التصديقية هي وحدها التي يمكن أن تردّ على حجّة (باركلي) القائلة: إنّا لا نتّصل بالواقع مباشرة، وإنّما نتّصل بأفكارنا، فلا وجود إلّالأفكارنا. فالنفس وإن كانت لا تتّصل مباشرة إلّابإدراكاتها، إلّاأنّ هناك لوناً من الإدراك يكشف بطبيعته كشفاً ذاتياً عن شي‏ء خارج حدود الإدراك وهو: الحكم، أي: المعرفة التصديقية. فحجّة (باركلي) كانت تقوم على الخلط بين التصوّر والتصديق، وعدم إدراك الفوارق الأساسية بينهما.
وعلى هذا الضوء نتبيّن أنّ المذهب التجريبي والنظرية الحسّية يؤدّيان إلى النزعة المثالية، فهما مضطرّان إلى قبول الحجّة التي قدّمها (باركلي)؛ لأنّ النفس البشرية بمقتضى هذين المبدأين لا تملك إدراكاً ضرورياً أو فطرياً مطلقاً، وإنّما تنشأ إدراكاتها جميعاً من الحسّ وترتكز معارفها عليه، والحسّ ليس إلّالوناً من ألوان التصوّر، فمهما كثر وتنوّع لا يعدو حدوده التصوّرية، ولا يمكن أن يخطو به الإنسان إلى الموضوعية خطوة واحدة.
الدليل الثالث- أنّ الإدراكات والمعارف البشرية إذا كانت لها خاصّة الكشف الذاتي عن مجال وراء حدودها، وجب أن تكون جميع العلوم والمعارف صحيحة؛ لأنّها كاشفة بحكم طبيعتها وذاتها، والشي‏ء لا يتخلّى عن وصفه الذاتي، مع أنّ جميع مفكّري البشرية يعترفون بأنّ كثيراً من المعلومات والأحكام التي لدى الناس هي إدراكات خاطئة ولا تكشف شيئاً من الواقع، بل قد يجمع العلماء على الاعتقاد بنظرية ما ويتجلّى بعد ذلك بكلّ وضوح أ نّها ليست صحيحة، فكيف يُفهَم هذا على ضوء ما تزعمه الفلسفة الواقعية: من أنّ العلم يتمتّع بالكشف الذاتي؟! وهل لهذه الفلسفة من مهرب إلّاالتنازل عن منح العلم هذه الصفة؟! وإذا تنازلت عن ذلك كانت المثالية أمراً محتماً؛ لأنّا لا نستطيع أن نصل- حينئذٍ-

145

الطريق إلى ما وراء هذه الصورة التي نتصوّرها في مداركنا، ولا يكفي للانتقال من المجال الذاتي إلى المجال الموضوعي؛ لأنّ وجود صورة للمعنى في مداركنا شي‏ء، ووجود ذلك المعنى بصورة موضوعية ومستقلّة عنّا في الخارج شي‏ء آخر، ولذا قد يجعلنا الإحساس نتصوّر اموراً عديدة لا نؤمن بأنّ لها واقعاً موضوعياً مستقلًا، فنحن نتصوّر العصا المغموسة في الماء وهي مكسورة، ولكنّنا نعلم بأنّ العصا لم تنكسر في الماء حقّاً، وإنّما نحسّها كذلك بسبب انكسار الأشعة الضوئية في الماء. ونتصوّر الماء الدافئ حارّاً جدّاً حين نضع يدنا فيه وهي شديدة البرودة، مع يقيننا بأنّ الحرارة التي أحسسنا بها ليس لها واقع موضوعي.
وأمّا التصديق- أي: القسم الآخر من الإدراك البشري- فهو الذي يصحّ أن يكون نقطة الانطلاق لنا من التصوّرية إلى الموضوعية، فلنلاحظ كيف يتمّ ذلك؟
إنّ المعرفة التصديقية عبارة عن حكم النفس بوجود حقيقة من الحقائق وراء التصوّر، كما في قولنا: إنّ الخطّ المستقيم أقصر مسافة بين نقطتين. فإنّ معنى هذا الحكم هو: جزمنا بحقيقة وراء تصوّراتنا للخطوط المستقيمة والنقاط والمسافات، ولذلك يختلف كلّ الاختلاف عن ألوان التصوّر الساذج، فهو:
أوّلًا- ليس صورة لمعنى معيّن من المعاني التي يمكن أن نحسّها ونتصوّرها، بل فعلًا نفسياً يربط بين الصور، ولهذا لا يمكن أن يكون وارداً إلى الذهن عن طريق الإحساس، وإنّما هو من الفعاليات الباطنية للنفس المدرِكة.
ثانياً- يملك خاصّة ذاتية لم تكن موجودة في شي‏ء من ألوان التصوّر وأقسامه، وهي: خاصّة الكشف عن واقع وراء حدود الإدراك، ولذلك كان من الممكن أن تتصوّر شيئاً وأن تحسّ به ولا تؤمن بوجوده في واقع وراء الإدراك والشعور، ولكن ليس من المعقول أن تكون لديك معرفة تصديقية- أي: أن تصدّق بأنّ الخطّ المستقيم هو أقرب مسافة بين نقطتين- وتشكّ مع ذلك في‏

144

ويبقى علينا بعد هذا أن نوضّح سرّ المغالطة في هذا الدليل، لنفهم السبب في عدم حصول القناعة الواقعية به حتّى ل (باركلي) نفسه.
وفي هذا الصدد يلزمنا أن نستذكر ما عرفناه في الجزء الأوّل من المسألة (المصدر الأساسي للمعرفة): من انقسام الإدراك البشري إلى قسمين رئيسين، وهما: التصديق، والتصوّر، وأن نعرف للتصديق ميزته الأساسية على التصوّر، هذه الميزة التي تجعل من المعرفة التصديقية همزة الوصل بيننا وبين العالم الخارجي.
وإيضاح ذلك: أنّ التصوّر عبارة عن وجود صورة لمعنىً من المعاني في مداركنا الخاصّة، فقد توجد الصورة في حواسّنا فيكون وجودها كذلك مكوّناً للإحساس بها، وقد توجد الصورة في مخيلتنا فيحصل بذلك التخيّل، وقد توجد الصورة بمعناها التجريدي العامّ في الذهن ويسمّى‏ وجودها هذا تعقّلًا.
فالإحساس والتخيّل والتعقّل ألوان من التصوّر وأنحاء لوجود صور الأشياء في المدارك البشرية: فنحن نتصوّر التفّاحة على الشجرة بالإحساس بها عن طريق الرؤية، ومعنى إحساسنا بها: وجود صورتها في حواسّنا، ونحتفظ بعد ذلك بهذه الصورة بعد انصرافنا عن الشجرة في ذهننا، وهذا الوجود هو التخيّل، ويمكننا بعد ذلك أن نسقط من الصورة الخصائص التي تمتاز بها عن التفاحات الاخرى ونستبقي المعنى العامّ منها، أي: معنى التفاحة بصفة كلّية، وهذه الصورة الكلّية هي: التعقّل.
فهذه مراحل ثلاثة من التصوّر يجتازها الإدراك البشري وهو لا يعبّر في كلّ مرحلة إلّاعن وجود صورة في بعض مداركنا، فالتصوّر بصفة عامّة لا يعدو أن يكون وجوداً لصورة شي‏ء ما في مداركنا، سواءٌ أكان تصوّراً واضحاً جليّاً كالإحساس، أم باهتاً وضئيلًا كالتخيّل والتعقّل، وهو لذلك لا يمكن أن يشقّ لنا

143

لا يتاح لنا في حال من الأحوال أن نتّصل اتّصالًا مباشراً بالأشياء خارج روحنا، وما دمنا مضطرّين إلى إدراكها في تصوّراتنا وأفكارنا خاصّة … فلا وجود في الحقيقة إلّالهذه التصوّرات والأفكار، ولو أطحنا بها لم يبقَ شي‏ء نستطيع أن ندركه، أو أن نعترف بوجوده.
ويجب أن نلاحظ قبل كلّ شي‏ء أنّ هذه الحجّة التي حاول (باركلي) أن يبرهن بها على مفهومه المثالي ليست صحيحة حتّى عند (باركلي) نفسه؛ فإنّه يتّفق معنا- بصورة غير شعورية- على دحضها وعدم كفايتها لتبرير المفهوم المثالي؛ ذلك أ نّها تؤدّي إلى مثالية ذاتية تنكر وجود الأشخاص الآخرين كما تنكر وجود الطبيعة على السواء؛ فإنّ الحقيقة إذا كانت مقتصرة على نفس الإدراك والشعور باعتبار أ نّنا لا نتّصل بشي‏ء وراء حدود الذهن ومحتوياته الشعورية، فهذا الإدراك والشعور هو إدراكي وشعوري أنا، وأنا لا أتّصل بإدراك الآخرين وشعورهم كما لا أتّصل بالطبيعة ذاتها، وهذا يفرض عليّ عزلة عن كلّ شي‏ء عدا وجودي وذهني، فليس لي الحقّ بالتسليم بوجود الناس الآخرين؛ لأ نّهم ليسوا إلّاتصوّرات ذهني وفكري الذاتي.
وهكذا تنتهي المسألة إلى مثالية فردانية فظيعة، فهل كان يمكن ل (باركلي) أن يندفع مع حجّته إلى أقصى مداها ويخرج منها بمثالية كهذه؟! وإذا كان قد حاول شيئاً من هذا فسوف يتناقض مع نفسه قبل غيره، وإلّا فمع من كان يتحدّث؟! ولمن كان يكتب ويؤلّف؟! ولحساب من كان يلقي محاضراته ودروسه؟! أليس ذلك تأكيداً قاطعاً من (باركلي) على الواقع الموضوعي للأشخاص الآخرين؟!
وهكذا يتّضح أنّ (باركلي) نفسه يشاركنا في عدم قبول الحجّة التي تبنّاها والتصديق- ولو لاشعورياً- ببطلانها.

142

لنا في إدراكنا وحواسّنا. وإذا ميّزنا بينهما استطعنا أن نعرف أنّ تناقض الإحساسات لا يمكن أن يتّخذ برهاناً على عدم وجود واقع موضوعي- كما حاول باركلي- وإنّما يدلّ على عدم التكافؤ بين المعنى المدرَك بالحسّ، والواقع الموضوعي في الخارج، أي: أنّ الإحساس لا يجب أن يكون مطابقاً كلّ المطابقة للأشياء الخارجية. وهذا شي‏ء غير ما حاوله (باركلي) من إنكار موضوعية الإحساس، فنحن حين نغمس يدينا بالماء فتحسّ إحداهما بالحرارة وتحسّ الاخرى بالبرودة، لا نضطرّ- لأجل استبعاد التناقض- أن ننكر موضوعية الإحساس بصورة مطلقة، بل يمكننا أن نفسِّر التناقض على وجه آخر، وهو: أنّ إحساساتنا عبارة عن انفعالات نفسية بالأشياء الخارجية، فلا بدّ من شي‏ء خارجي حينما نحسّ وننفعل، ولكن ليس من الضروري تكافؤ الإحساس مع الواقع الموضوعي؛ لأنّ الإحساس لمّا كان انفعالًا ذاتياً فهو لا يتجرّد عن الناحية الذاتية. ويمكننا على هذا الأساس أن نحكم فوراً في شأن الماء الذي افترضه (باركلي) بأ نّه ماء دافئ ليس ساخناً ولا بارداً، وأنّ هذا الدف‏ء هو الواقع الموضوعي الذي أثار فينا الإحساسين المتناقضين، وقد تناقض الإحساسان بسبب الناحية الذاتية التي نضيفها على الأشياء حين ندركها وننفعل بها.
الدليل الثاني- أنّ الاعتقاد بوجود الأشياء خارج روحنا وتصوّرنا إنّما يقوم على أساس أ نّنا نراها ونلمسها، أي: أ نّنا نعتقد بوجودها؛ لأنّها تعطينا إحساسات ما، إلّاأنّ إحساساتنا ليست سوى أفكار تحتويها أرواحنا، وإذن فالأشياء التي تدركها حواسّنا ليست سوى أفكار، والأفكار لا يمكن أن توجد خارج روحنا.
و (باركلي) في هذا الدليل يحاول أن يجعل مسألة الإيمان بالواقع الموضوعي للأشياء متوقّفة على الاتّصال بذلك الواقع بصورة مباشرة، وما دام‏

141

انهار الهرم كلّه.
وهذا الدليل لا قيمة له للأسباب الآتية:
أوّلًا- أنّ المعارف البشرية لا ترتكز كلّها على الحسّ والتجربة؛ لأنّ المذهب العقلي الذي درسناه في الجزء السابق من المسألة- المصدر الأساسي للمعرفة- يقرّر وجود معارف أوّلية ضرورية للعقل البشري، وهذه المعارف الضرورية لم تنشأ من الحسّ، ولا يبدو فيها شي‏ء من التناقضات مطلقاً، فلا يمكن اقتلاع هذه المعارف بالعاصفة التي تثار على الحسّ والإدراكات الحسّية، وما دمنا نملك معارف في منجاة عن العاصفة فمن الميسور أن نقيم على أساسها معرفة موضوعية صحيحة.
ثانياً- أنّ هذا الدليل يتناقض مع القاعدة الفلسفية لمثالية (باركلي)، أي:
مع النظرية الحسّية والمذهب التجريبي؛ ذلك أنّ (باركلي) فيه يعتبر مبدأ عدم التناقض حقيقة ثابتة، ويستبعد من بداية الأمر إمكان التناقض في الواقع الموضوعي. وترتيباً على ذلك يستنتج من تناقض الإدراكات والتجارب الحسّية خلوّها من الواقع الموضوعي، وغاب عنه أنّ مبدأ عدم التناقض ليس في المذهب التجريبي إلّامبدأ تجريبياً يدلّل عليه بالتجربة الحسّية، فإذا كانت الإدراكات والتجارب متناقضة كيف صحّ لباركلي أن يؤمن بمبدأ عدم التناقض، ويبرهن عن هذا الطريق على عدم وجود واقع موضوعي؟! ولماذا لا يصحّ عنده وجود واقع موضوعي تتناقض فيه الظواهر والأشياء؟! والحقيقة: أنّ (باركلي) استند- لا شعورياً- إلى فطرته الحاكمة بمبدأ عدم التناقض بصورة مستقلّة عن الحسّ والتجربة.
ثالثاً- من الضروري أن نميّز بين مسألتين: إحداهما مسألة وجود واقع موضوعي للإدراكات والإحساسات، والاخرى مسألة مطابقة هذا الواقع لما يبدو