کتابخانه
365

المفهوم الفلسفي للعالم‏

4

المادّة أو اللَّه؟

المادّة على ضوء الفيزياء.
المادّة والفلسفة.
المادّة والحركة.
المادّة والوجدان.

364

بالذات، غني بنفسه، وغير محتاج إلى سبب؛ لأنّ هذا هو ما يحتّمه تطبيق مبدأ العلّية على العالم بموجب قوانينها السالفة الذكر؛ فإنّ العلّية بعد أن كانت مبدأً ضرورياً للكون، وكان تسلسلها اللانهائي مستحيلًا، فيجب أن تطبّق على الكون تطبيقاً شاملًا متصاعداً حتّى يقف عند علّة اولى واجبة.

ولا بأس أن نشير في ختام هذا البحث إلى لون من التفكير المادّي في هذا المجال، تقدّم به بعض الكتّاب المعاصرين للردّ على فكرة السبب الأوّل أو العلّة الاولى، فهو يقول: إنّ السؤال عن العلّة الاولى لا معنى له، فالتفسير العلّي- أو السببي- يستلزم- دائماً- حدّين اثنين مرتبطاً أحدهما بالآخر، هما العلّة والمعلول، أو السبب والمسبّب، فعبارة (علّة اولى) فيها تناقض في الحدود؛ إذ أنّ كلمة: (علّة) تستلزم حدّين كما رأينا، لكن كلمة: (اولى) تستلزم حدّاً واحداً، فالعلّة لا يمكن أن تكون (اولى) وتكون (علّة) في نفس الوقت، فإمّا أن تكون اولى دون أن تكون علّة، أو بالعكس‏[1].

ولا أدري من قال له: إنّ كلمة: (علّة) تستلزم علّة قبلها. صحيح: أنّ التفسير السببي يستلزم- دائماً- حدّين هما: العلّة والمعلول، وصحيح: أنّ من التناقض أن نتصوّر علّة بدون معلول ناتج عنها؛ لأنّها ليست- عندئذٍ- علّة، وإنّما هي شي‏ء عقيم، وكذلك من الخطأ أن نتصوّر معلولًا لا علّة له، فكلّ منها يتطلّب الآخر إلى جانبه، ولكن العلّة بوصفها علّة، لا تتطلّب علّة قبلها، وإنّما تتطلّب معلولًا، فالحدّان متوفّران معاً في فرضية (العلّة الاولى)؛ لأنّ العلّة الاولى لها معلولها الذي ينشأ منها، وللمعلول علّته الاولى؛ فكما لا يتطلّب المعلول دائماً معلولًا ينشأ منه- إذ قد تتولّد ظاهرة من سبب ولا يتولّد عن الظاهرة شي‏ء جديد- كذلك العلّة لا تتطلّب علّة فوقها، وإنّما تتطلّب معلولًا لها.

 

[1] المسألة الفلسفيّة، الدكتور محمّد عبد الرحمن مرحبا: 80

363

إلى علّة- طبقاً لمبدأ العلّية- دون استثناء، فالموجودات جميعاً تصبح بحاجة إلى علّة.

ويبقى سؤال: «لماذا؟»- هذا السؤال الضروري- منصبّاً على الوجود بصورة عامة، ولا يمكن أن نتخلّص من هذا السؤال إلّابافتراض سبب أوّل متحرّر من مبدأ العلّية؛ فإنّنا- حينئذٍ- ننتهي في تعليل الأشياء إليه، ولا نواجه فيه سؤال:

لماذا وجد؟ لأنّ هذا السؤال إنّما نواجهه في الأشياء الخاضعة لمبدأ العلّية خاصّة.

فلنأخذ الغليان مثلًا، فهو ظاهرة طبيعية محتاجة إلى سبب، طبقاً لمبدأ العلّية، ونعتبر سخونة الماء سبباً لها، وهذه السخونة هي كالغليان في افتقارها إلى علّة سابقة. وإذا أخذنا الغليان والسخونة كحلقتين في سلسلة الوجود، أو في تسلسل العلل والأسباب، وجدنا من الضروري أن نضع للسلسلة حلقة اخرى؛ لأنّ كلًا من الحلقتين بحاجة إلى سبب، فلا يمكنهما الاستغناء عن حلقة ثالثة، والحلقات الثلاث تواجه بمجموعها نفس المسألة، وتفتقر إلى مبرّر لوجودها ما دامت كلّ واحدة منها خاضعة لمبدأ العلّية. وهذا هو شأن السلسلة دائماً وأبداً ولو احتوت على حلقات غير متناهية. فما دامت حلقاتها جميعاً محتاجة إلى علّة، فالسلسلة بمجموعها مفتقرة إلى سبب، وسؤال (لماذا وجد؟) يمتدّ ما امتدّت حلقاتها، ولا يمكن تقديم الجواب الحاسم عليه ما لم ينته التسلسل فيها إلى حلقة غنية بذاتها غير محتاجة إلى علّة، فتقطع التسلسل، وتضع للسلسلة بدايتها الأزليّة الاولى‏[1].

وإلى هنا نكون قد جمعنا ما يكفي للبرهنة على انبثاق هذا العالم عن واجب‏

 

[1] وبالتعبير الفلسفي الدقيق: أنّ الشي‏ء لا يوجد إلّاإذا امتنع عليه جميع أنحاء العدم، ومن جملة انحاء العدم، عدمه بعدم جميع أسبابه، وهذا لا يمتنع إلّاإذا كان يوجد في جملة أسبابه واجب بالذات.( المؤلّف قدس سره)

362

قائمة بنفس الجسم. فهذه القوّة هي المحرّكة الحقيقية، والأسباب الخارجية إنّما تعمل لإثارة هذه القوّة وإعدادها للتأثير. وعلى هذا الأساس قام مبدأ (الحركة الجوهرية)، كما أوضحناه في الجزء السابق من هذه المسألة[1]. ولسنا نستهدف الآن الإفاضة في هذا الحديث، وإنّما نرمي من ورائه إلى توضيح: أنّ التجربة العلمية التي قام على أساسها قانون (القصور الذاتي)، لا تتعارض مع قوانين العلّية، ولا تبرهن على ما يعاكسها مطلقاً.

النتيجة:

ولم يبقَ علينا لأجل أن نصل إلى النتيجة إلّاأن نعطف على ما سبق (قانون النهاية)، وهو القانون القائل: إنّ العلل المتصاعدة في الحساب الفلسفي التي ينبثق بعضها عن بعض يجب أن يكون لها بداية، أي: علّة اولى لم تنبثق عن علّة سابقة. ولا يمكن أن يتصاعد تسلسل العلل تصاعداً لانهائياً؛ لأنّ كلّ معلول- كما سبق- ليس إلّاضرباً من التعلّق والارتباط بعلّته، فالموجودات المعلولة جميعاً ارتباطات وتعلّقات، والارتباطات تحتاج إلى حقيقة مستقلّة تنتهي إليها.

فلو لم توجد لسلسلة العلل بداية، لكانت الحلقات جميعاً معلولة، وإذا كانت معلولة فهي مرتبطة بغيرها، ويتوّجه السؤال- حينئذٍ- عن الشي‏ء الذي ترتبط به هذه الحلقات جميعاً.

وفي عرض آخر: أنّ سلسلة الأسباب إذا كان يوجد فيها سبب غير خاضع لمبدأ العلّية، ولا يحتاج إلى علّة، فهذا هو السبب الأوّل الذي يضع للسلسلة بدايتها ما دام غير منبثق عن سبب آخر يسبقه. وإذا كان كلّ موجود في السلسلة محتاجا

 

[1] تحت عنوان:« 1- حركة التطوّر»

361

حصلت بعد انفصال الجهاز عن القوّة الخارجية المحرّكة، أن يزاد في أمدها، بتدهين آلات الجهاز، وتسوية الطريق، وتخفيف الضغط الخارجي. غير أنّ هذه الامور لا شأن لها، إلّاتخفيف الموانع عن الحركة من الاصطكاك ونحوه، فإذا استطعنا أن نضاعف من هذه المخفّفات، نضمن مضاعفة الحركة، وإذا افترضنا ارتفاع جميع الموانع، وزوال الضغط الخارجي نهائياً، كان معنى ذلك استمرار الحركة إلى غير حدّ بسرعة معيّنة، فيعرف من ذلك: أنّ الحركة إذا اثيرت في جسم، ولم تعترضها قوّة خارجية مصادمة، تبقى بسرعة معيّنة، وإن بطلت القوّة.
فالقوى الخارجية إنّما تؤثّر في تغيير السرعة عن حدّها الطبيعي، تنزل أو ترتفع بها. ولذلك كان مدى السرعة- من حيث الشدّة والضعف والبطء- يتوقّف على الضغط الخارجي الموافق أو المعاكس. وأمّا نفس الحركة واستمرارها بسرعتها الطبيعية، فلا يتوقّف ذلك على عوامل خارجية.
ومن الواضح: أنّ هذه التجربة حين تكون صحيحة، لا تعني أنّ المعلول بقي من دون علّة، ولا تعاكس القانون الفلسفي الذي ذكرناه؛ لأنّ التجربة لم توضّح ما هي العلّة الحقيقية للحركة؛ لنعرف ما إذا كانت تلك العلّة قد زالت مع استمرار الحركة. وكأنّ هؤلاء الذين حاولوا أن يدلّلوا بها على بطلان القانون الفلسفي، زعموا أنّ العلّة الحقيقية للحركة هي القوّة الخارجية المحرّكة، ولمّا كانت هذه القوّة قد انقطعت صلتها بالحركة، واستمرّت الحركة بالرغم من ذلك، فيكشف ذلك عن استمرار الحركة بعد زوال علّتها.
ولكنّ الواقع: أنّ التجربة لا تدلّ على أنّ القوّة الدافعة من خارج هي العلّة الحقيقية؛ ليستقيم لهم هذا الاستنتاج، بل من الجائز أن يكون السبب الحقيقي للحركة شيئاً موجوداً على طول الخطّ. والفلاسفة الإسلاميون يعتقدون: أنّ الحركات العرضية- بما فيها الحركة الميكانيكية للجسم- تتولّد جميعاً عن قوّة

360

وضعها (غاليليو) و (نيوتن) للحركة الميكانيكية، مدّعياً- على أساس تلك القوانين- أنّ الحركة إذا حدثت بسبب فهي تبقى حتماً، ولا يحتاج استمرارها إلى علّة، خلافاً للقانون الفلسفي الذي ذكرناه.
ونحن إذا تعمّقنا في درس هذه المعارضة، وجدنا أ نّها تؤدّي في الحقيقة إلى إلغاء مبدأ العلّية رأساً؛ لأنّ حقيقة الحركة- كما سبق في الدراسات السابقة- عبارة عن التغيّر والتبدّل، فهي حدوث مستمرّ، أي: حدوث متّصل بحدوث، وكلّ مرحلة من مراحلها حدوث جديد، وتغيّر عقيب تغيّر. فإذا أمكن للحركة أن تستمرّ دون علّة، كان في الإمكان أن تحدث الحركة دون علّة، وأن توجد الأشياء ابتداءً بلا سبب؛ لأنّ استمرار الحركة يحتوي على حدوث جديد دائماً، فتحرّره من العلّة يعني تحرّر الحدوث من العلّة أيضاً.
ولأجل أن يتّضح عدم وجود مبرّر لهذه المعارضة من ناحية علمية، يجب أن نحدِّث القارئ عن قانون (القصور الذاتي) في الميكانيك الحديث الذي ارتكزت عليه المعارضة.
إنّ التفكير السائد عن الحركة قبل (غاليليو)، هو: أ نّها تتبع القوّة المحرّكة في مدى استمرارها وبقائها. فهي تستمرّ ما دامت القوّة المحرّكة موجودة، فإذا زالت سكن الجسم. ولكنّ الميكانيك الحديث وضع قانوناً جديداً للحركة.
وفحوى هذا القانون: أنّ الأجسام الساكنة والمتحرّكة، تبقى كذلك (ساكنة أو متحرّكة) إلى أن تتعرّض لتاثير قوّة اخرى كبرى بالنسبة لها، تضطرّها إلى تبديل حالتها.
والسند العلمي لهذا القانون هو: التجربة التي توضّح أنّ جهازاً ميكانيكياً متحرّكاً بقوّة خاصّة في شارع مستقيم، إذا انفصلت عنه القوّة المتحرّكة، فهو يتحرّك بمقدار مّا بعد ذلك، قبل أن يسكن نهائياً. ومن الممكن في هذه الحركة التي‏

359

انتهاء عملية البناء والتعمير، وإن تركها العمّال، ولم يبقَ منهم بعد ذلك شخص على قيد الحياة. والسيّارة التي أنتجها مصنع خاصّ بفضل عمّاله الفنّيين، تمارس نشاطها، وقد تبقى محتفظة بجهازها الميكانيكي، وإن تهدّم ذلك المصنع، ومات اولئك العمّال. والمذكّرات التي سجّلها شخص بخطّه، تبقى بعده مئات السنين، تكشف للناس عن حياة ذلك الشخص وتأريخه. فهذه الظواهر تبرهن على أنّ المعلول يملك حرّيته بعد حدوثه، وتزول حاجته إلى علّته.
والواقع: أنّ عرض هذه الظواهر كأمثلة لتحرّر المعلول بعد حدوثه من علّته، نشأ من عدم التمييز بين العلّة وغيرها. فنحن إذا أدركنا العلّة الحقيقية لتلك الامور- من بناء الدار، وجهاز السيّارة، وكتابة المذكّرات- نتبيّن أنّ تلك الامور لم تستغنِ عن العلّة في لحظة من لحظات وجودها، وأنّ كلّ أثر طبيعي يعدم في الآن الذي يفقد فيه سببه. فما هو المعلول للعمّال المشتغلين ببناء العمارة، إنّما هو نفس عملية البناء، وهي عبارة عن عدّة من الحركات والتحريكات، يقوم بها العامل بقصد جمع موادّ البناء الخام من الآجر والحديد والخشب وما إليها … وهذه الحركات لا يمكن أن تستغني عن العمّال في وجودها، بل تنقطع حتماً في الوقت الذي يكفّ فيه العمّال عن العمل. وأمّا الوضع الذي حصل لموادّ البناء على أثر عملية التعمير، فهو في وجوده واستمراره معلول لخصائص تلك الموادّ، والقوى الطبيعية العامة التي تفرض على المادّة المحافظة على وضعها وموضعها. وكذلك الأمر في سائر الأمثلة الاخرى. وهكذا يتبخّر الوهم الآنف الذكر إذا أضفنا كلّ معلول إلى علّته، ولم نخطئ في نسبة الآثار إلى أسبابها.
[ب‏] المعارضة الميكانيكية:
وهي المعارضة التي أثارها الميكانيك الحديث على ضوء القوانين التي‏

358
التعاصر بين العلّة والمعلول‏

لمّا كنّا نعرف الآن أنّ وجود المعلول مرتبط ارتباطاً ذاتياً بوجود العلّة، فنستطيع أن نفهم مدى ضرورة العلّة للمعلول، وأنّ المعلول يجب أن يكون معاصراً للعلّة، ليرتبط بها كيانه ووجوده، فلا يمكن له أن يوجد بعد زوال العلّة، أو أن يبقى بعد ارتفاعها. وهذا هو ما شئنا أن نعبّر عنه بقانون (التعاصر بين العلّة والمعلول).

[مناقشتان حول هذا القانون:]

وقد اثيرت حول هذا القانون مناقشتان راميتان إلى إثبات أنّ من الممكن بقاء المعلول بعد زوال علّته. إحداهما للمتكلّمين، والاخرى لبعض علماء الميكانيك الحديث.

[أ] المناقشة الكلامية:
وهي تستند إلى أمرين:
الأوّل- أنّ الحدوث هو سبب حاجة الأشياء إلى أسبابها. فالشي‏ء إنّما يحتاج إلى سبب؛ لأجل أن يحدث، فإذا حدث، لم يكن وجوده بعد ذلك مفتقراً إلى علّة. وهذا يرتكز على نظرية الحدوث التي تبينّا خطأها فيما سبق، وعرفنا أنّ حاجة الشي‏ء إلى العلّة ليست لأجل الحدوث، بل لأنّ وجوده مرتبط بسببه الخاصّ ارتباطاً ذاتياً.
الثاني- أنّ قانون التعاصر بين العلّة والمعلول، لا يتّفق مع طائفة من ظواهر الكون التي تكشف بوضوح عن استمرار وجود المعلول بعد زوال العلّة. فالعمارة الشاهقة التي شادها البنّاؤون، واشترك في بنائها آلاف العمّال، تبقى قائمة بعد

357

حاول أن يبرهن على أنّ العلّة تكاملت بمعلولها وتوحّدت معه في مركّب أثرى، واستطعنا أن نوضّح في دراستنا تلك أنّ هذه التطبيقات نشأت من عدم الضبط الفلسفي والدقّة في تحديد العلّة والمعلول، فقد توجد علّتان ومعلولان. وكلّ من المعلولين يكمّل علّة الآخر، فحين لا ندقّق في التمييز بين العلّتين يبدو كأنّ المعلول يكمّل علّته، كما قد يصبح المعلول سبباً في تكامل أحد شروط وجوده، غير أنّ شروط الوجود غير العلّة التي ينبثق منها ذلك الوجود. وللتوضيح أكثر من ذلك يراجع البحث في كتاب (اقتصادنا)[1].

 

[1] يراجع اقتصادنا، نظريّة المادّيّة التاريخيّة: في ضوء قوانين الديالكتيك