کتابخانه
91
نقد المذهب التجريبي:

هذا عرض موجز للمذهب التجريبي الذي نجد أنفسنا مضطرّين إلى رفضه للأسباب الآتية:
الأوّل: أنّ نفس هذه القاعدة: (التجربة هي المقياس الأساسي لتمييز الحقيقة) هل هي معرفة أوّلية حصل عليها الإنسان من دون تجربة سابقة؟ أو أ نّها بدورها- أيضاً- كسائر المعارف البشرية ليست فطرية ولا ضرورية؟ فإذا كانت معرفة أوّلية سابقة على التجربة بطل المذهب التجريبي الذي لا يؤمن بالمعارف الأوّلية، وثبت وجود معلومات إنسانية ضرورية بصورة مستقلّة عن التجربة، وإذا كانت هذه المعرفة محتاجة إلى تجربة سابقة فمعنى ذلك: أ نّا لا ندرك في بداية الأمر أنّ التجربة مقياس منطقي مضمون الصدق، فكيف يمكن البرهنة على صحّته واعتباره مقياساً بتجربة ما دامت غير مضمونة الصدق بعد؟!
وبكلمة اخرى: أنّ القاعدة المذكورة التي هي ركيزة المذهب التجريبي إن كانت خطأ سقط المذهب التجريبي بانهيار قاعدته الرئيسية، وإن كانت صواباً صحّ لنا أن نتساءل عن السبب الذي جعل التجريبيين يؤمنون بصواب هذه القاعدة، فإن كانوا قد تأكّدوا من صوابها بلا تجربة فهذا يعني: أ نّها قضية بديهية وأنّ الإنسان يملك حقائق وراء عالم التجربة، وإن كانوا قد تأكّدوا من صوابها بتجربة سابقة فهو أمر مستحيل؛ لأنّ التجربة لا تؤكّد قيمة نفسها.
الثاني: أنّ المفهوم الفلسفي الذي يرتكز على المذهب التجريبي يعجز عن إثبات المادّة؛ لأنّ المادّة لا يمكن الكشف عنها بالتجربة الخالصة، بل كلّ ما يبدو للحسّ في المجالات التجريبية إنّما هو: ظواهر المادّة وأعراضها، وأمّا نفس المادّة بالذات- الجوهر المادّي الذي تعرضه تلك الظواهر والصفات- فهي‏

90

وثانياً: انطلاق السير الفكري للذهن البشري بصورة معاكسة لما يعتقده المذهب العقلي، فبينما كان المذهب العقلي يؤمن بأنّ الفكر يسير- دائماً- من العامّ إلى الخاصّ، يقرّر التجريبيون أ نّه يسير من الخاصّ إلى العامّ، ومن حدود التجربة الضيّقة إلى القوانين والقواعد الكلّية، ويترقّى‏- دائماً- من الحقيقة الجزئية التجريبية إلى المطلق، وليس ما يملكه الإنسان من قوانين عامّة وقواعد كلّية إلّا حصيلة التجارب، ونتيجة هذا، الارتقاء من استقراء الجزئيات إلى الكشف عن حقائق موضوعية عامّة.
ولأجل ذلك يعتمد المذهب التجريبي على الطريقة الاستقرائية في الاستدلال والتفكير؛ لأنّها طريقة الصعود من الجزئي إلى الكلّي، ويرفض مبدأ الاستدلال القياسي الذي يسير فيه الفكر من العامّ إلى الخاصّ، كما في الشكل الآتي من القياس: (كلّ إنسان فانٍ، ومحمّد إنسان)، ف (محمّد فانٍ). ويستند هذا الرفض إلى أنّ هذا الشكل من الاستدلال لا يؤدّي إلى معرفة جديدة في النتيجة، مع أنّ أحد شروط الاستدلال هو: أن يؤدّي إلى نتيجة جديدة ليست محتواة في المقدّمات، وإذن فالقياس بصورته المذكورة يقع في مغالطة (المصادرة على المطلوب)؛ لأنّنا إذا ما قبلنا المقدّمة (كلّ إنسان فانٍ) فإنّا ندخل في الموضوع (إنسان) كلّ أفراد الناس، وبعدئذٍ إذا ما عقّبنا عليها بمقدّمة ثانية (بأنّ محمّداً إنسان) فإمّا أن نكون على وعي بأنّ محمّداً كان فرداً من أفراد الناس الذين قصدنا إليهم في المقدّمة الاولى، وبذلك نكون على وعي كذلك بأ نّه (فانٍ) قبل أن ننصّ على هذه الحقيقة في المقدّمة الثانية، وإمّا أن لا نكون على وعي بذلك، فنكون في المقدّمة الاولى قد عمّمنا بغير حقّ؛ لأنّا لم نكن نعلم الفناء عن كلّ أفراد الناس كما زعمنا.

89

المريض، فإنّ هذا الفحص هو الذي يتيح له أن يكشف عن حقيقة المرض وملابساته، ولكن هذا الفحص لم يكن ليكشف عن هذا لولا ما يملكه الطبيب قبل ذلك من معلومات ومعارف، فلو لم تكن تلك المعلومات لديه لكان فحصه لغواً ومجرّداً عن كلّ فائدة، وهكذا التجربة البشرية بصورة عامّة لا تشقّ الطريق إلى نتائج وحقائق إلّاعلى ضوء معلومات عقلية سابقة.

2- المذهب التجريبي‏

وهو المذهب القائل: بأنّ التجربة هي المصدر الأوّل لجميع المعارف البشرية؛ ويستند في ذلك إلى أنّ الإنسان حين يكون مجرّداً عن التجارب بمختلف ألوانها لا يعرف أيّة حقيقة من الحقائق مهما كانت واضحة؛ ولذا يولد الإنسان خالياً من كلّ معرفة فطرية، ويبدأ وعيه وإدراكه بابتداء حياته العملية، ويتّسع علمه كلّما اتّسعت تجاربه، وتتنوّع معارفه كلّما تنوّعت تلك التجارب.
فالتجريبيون لا يعترفون بمعارف عقلية ضرورية سابقة على التجربة، ويعتبرون التجربة الأساس الوحيد للحكم الصحيح، والمقياس العامّ في كلّ مجال من المجالات، وحتّى تلك الأحكام التي ادّعى المذهب العقلي أ نّها معارف ضرورية لا بدّ من إخضاعها للمقياس التجريبي، والاعتراف بها بمقدار ما تحدِّده التجربة؛ لأنّ الإنسان لا يملك حكماً يستغني عن التجربة في إثباته. وينشأ من ذلك:
أوّلًا: تحديد طاقة الفكر البشري بحدود الميدان التجريبي، ويصبح من العبث كلّ بحث ميتافيزيقي أو دراسة لمسائل ما وراء الطبيعة، على عكس المذهب العقلي تماماً.
موسوعة الإمام الشهيد السيد محمد باقر الصدر قدس سره، ج‏1، ص: 90
وثانياً: انطلاق السير الفكري للذهن البشري بصورة معاكسة لما يعتقده المذهب العقلي، فبينما كان المذهب العقلي يؤمن بأنّ الفكر يسير- دائماً- من العامّ إلى الخاصّ، يقرّر التجريبيون أ نّه يسير من الخاصّ إلى العامّ، ومن حدود التجربة الضيّقة إلى القوانين والقواعد الكلّية، ويترقّى‏- دائماً- من الحقيقة الجزئية التجريبية إلى المطلق، وليس ما يملكه الإنسان من قوانين عامّة وقواعد كلّية إلّا حصيلة التجارب، ونتيجة هذا، الارتقاء من استقراء الجزئيات إلى الكشف عن حقائق موضوعية عامّة.
ولأجل ذلك يعتمد المذهب التجريبي على الطريقة الاستقرائية في الاستدلال والتفكير؛ لأنّها طريقة الصعود من الجزئي إلى الكلّي، ويرفض مبدأ الاستدلال القياسي الذي يسير فيه الفكر من العامّ إلى الخاصّ، كما في الشكل الآتي من القياس: (كلّ إنسان فانٍ، ومحمّد إنسان)، ف (محمّد فانٍ). ويستند هذا الرفض إلى أنّ هذا الشكل من الاستدلال لا يؤدّي إلى معرفة جديدة في النتيجة، مع أنّ أحد شروط الاستدلال هو: أن يؤدّي إلى نتيجة جديدة ليست محتواة في المقدّمات، وإذن فالقياس بصورته المذكورة يقع في مغالطة (المصادرة على المطلوب)؛ لأنّنا إذا ما قبلنا المقدّمة (كلّ إنسان فانٍ) فإنّا ندخل في الموضوع (إنسان) كلّ أفراد الناس، وبعدئذٍ إذا ما عقّبنا عليها بمقدّمة ثانية (بأنّ محمّداً إنسان) فإمّا أن نكون على وعي بأنّ محمّداً كان فرداً من أفراد الناس الذين قصدنا إليهم في المقدّمة الاولى، وبذلك نكون على وعي كذلك بأ نّه (فانٍ) قبل أن ننصّ على هذه الحقيقة في المقدّمة الثانية، وإمّا أن لا نكون على وعي بذلك، فنكون في المقدّمة الاولى قد عمّمنا بغير حقّ؛ لأنّا لم نكن نعلم الفناء عن كلّ أفراد الناس كما زعمنا.

88

وثانياً- إنّ السير الفكري في رأي العقليين يتدرّج من القضايا العامّة إلى قضايا أخصّ منها، من الكلّيات إلى الجزئيات، وحتّى في المجال التجريبي الذي يبدو لأوّل وهلة أنّ الذهن ينتقل فيه من موضوعات تجريبية جزئية إلى قواعد وقوانين عامّة، يكون الانتقال والسير فيه من العامّ إلى الخاصّ‏[1]، كما سنوضّح ذلك عند الردّ على المذهب التجريبي.

ولا بدّ أ نّك تتذكّر ما ذكرنا مثالًا لعملية التفكير، وكيف انتقلنا فيه من معرفة عامة إلى معرفة خاصّة، واكتسبنا العلم بأنّ (المادّة حادثة) من العلم بأنّ (كلّ متغيّر حادث)، فقد بدأ الفكر بهذه القضية الكلّية (كلّ متغيّر حادث) وانطلق منها إلى قضية أخصّ منها، وهي: (أنّ المادّة حادثة).

وأخيراً يجب أن ننبّه على أنّ المذهب العقلي لا يتجاهل دور التجربة الجبّار في العلوم والمعارف البشرية، وما قدّمته من خدمات ضخمة للإنسانية، وما كشفت عنه من أسرار الكون وغوامض الطبيعة، ولكنّه يعتقد أنّ التجربة بمفردها لم تكن تستطيع أن تقوم بهذا الدور الجبّار؛ لأنّها تحتاج في استنتاج أيّة حقيقة علمية منها إلى تطبيق القوانين العقلية الضرورية، أي: أن يتمّ ذلك الاستنتاج على ضوء المعارف الأوّلية، ولا يمكن أن تكون التجربة بذاتها المصدر الأساسي والمقياس الأوّل للمعرفة، فشأنها شأن الفحص الذي يجريه الطبيب على‏

 

[1] هذا من جملة ما اختلف فيه رأي المؤلّف قدس سره بعد تأليفه لهذا الكتاب، حيث انتهى رحمه الله- في ضوء المذهب الذاتي للمعرفة الذي طرحه في كتابه« الاسس المنطقيّة للاستقراء»- إلى أنّ المجالات الفكريّة التي ينتقل فيها الذهن من استقراء الموضوعات الجزئيّة إلى قواعد وقوانين عامّة يكون السير الفكري فيها- حقّاً- من الخاصّ إلى العامّ، ولا حاجة فيها إلى ضمّ كبرى كليّة عقليّة مسبقة ليتحوّل السير الفكري فيها من العامّ إلى الخاصّ كما يدّعيه أصحاب المذهب العقلي للمعرفة.( لجنة التحقيق)

87

بين بعض المعلومات وبعض؛ فإنّ كلّ معرفة إنّما تتولّد عن معرفة سابقة، وهكذا تلك المعرفة حتّى ينتهي التسلسل الصاعد إلى المعارف العقلية الأوّلية التي لم تنشأ عن معارف سابقة، وتعتبر- لهذا السبب- العلل الاولى للمعرفة.
وهذه العلل الاولى للمعرفة على نحوين: أحدهما ما كان شرطاً أساسياً لكلّ معرفة إنسانية بصورة عامّة. والآخر ما كان سبباً لقسم من المعلومات.
والأوّل هو: مبدأ عدم التناقض، فإنّ هذا المبدأ لازم لكلّ معرفة، وبدونه لا يمكن التأكّد من أنّ قضية مّا ليست كاذبة مهما أقمنا من الأدلّة على صدقها وصحّتها؛ لأنّ التناقض إذا كان جائزاً فمن المحتمل أن تكون القضية كاذبة في نفس الوقت الذي نبرهن فيه على صدقها، ومعنى ذلك: أنّ سقوط مبدأ التناقض يعصف بجميع قضايا الفلسفة والعلوم على اختلاف ألوانها. والنحو الثاني من المعارف الأوّلية هو: سائر المعارف الضرورية الاخرى التي تكون كلّ واحدة منها سبباً لطائفة من المعلومات.
وبناءً على المذهب العقلي يترتّب ما يأتي:
أوّلًا- أنّ المقياس الأوّل للتفكير البشري بصورة عامّة هو: المعارف العقلية الضرورية، فهي الركيزة الأساسية التي لا يستغنى عنها في كلّ مجال، ويجب أن تقاس صحّة كلّ فكرة وخطأها على ضوئها. ويصبح بموجب ذلك ميدان المعرفة البشرية أوسع من حدود الحسّ والتجربة؛ لأنّه يجهِّز الفكر البشري بطاقات تتناول ما وراء المادّة من حقائق وقضايا، ويحقّق للميتافيزيقا والفلسفة العالية إمكان المعرفة. وعلى عكس ذلك المذهب التجريبي؛ فإنّه يبعد مسائل الميتافيزيقا عن مجال البحث، لأنّها مسائل لا تخضع للتجربة، ولا يمتدّ إليها الحسّ العلمي، فلا يمكن التأكّد فيها من نفي أو إثبات ما دامت التجربة هي المقياس الأساسي الوحيد، كما يزعم المذهب التجريبي.

86

بالمعلومات الثانوية.
والعملية التي تستنبط بها معرفة نظرية من معارف سابقة هي العملية التي نطلق عليها اسم الفكر والتفكير. فالتفكير: جهد يبذله العقل في سبيل اكتساب تصديق وعلم جديد من معارفه السابقة. بمعنى: أنّ الإنسان حين يحاول أن يعالج قضية جديدة كقضية (حدوث المادّة)- مثلًا- ليتأكّد من أ نّها حادثة أو قديمة يكون بين يديه أمران: أحدهما الصفة الخاصّة وهي (الحدوث)، والآخر الشي‏ء الذي يريد أن يتحقّق من اتّصافه بتلك الصفة وهو (المادّة). ولمّا لم تكن القضية من الأوّليات العقلية، فالإنسان سوف يتردّد بطبيعته في إصدار الحكم والإذعان بحدوث المادّة، ويلجأ- حينئذٍ- إلى معارفه السابقة ليجد فيها ما يمكنه أن يركّز عليه حكمه، ويجعله واسطة للتعرّف على حدوث المادّة، وتبدأ بذلك عملية التفكير باستعراض المعلومات السابقة.
ولنفترض أنّ من جملة تلك الحقائق التي كان يعرفها المفكّر سلفاً هي (الحركة الجوهرية) التي تقرِّر أنّ المادّة حركة مستمرّة وتجدّد دائم، فإنّ الذهن سيضع يده على هذه الحقيقة حينما تمرّ أمامه في الاستعراض الفكري، ويجعلها همزة الوصل بين المادّة والحدوث؛ لأنّ المادّة لمّا كانت متجدّدة فهي حادثة حتماً؛ لأنّ التغيّر المستمرّ يعني: الحدوث على طول الخطّ، وتتولّد- عندئذٍ- معرفة جديدة للإنسان، وهي: أنّ المادّة حادثة، لأنّها متحرّكة ومتجدّدة، وكلّ متجدّد حادث.
وهكذا استطاع الذهن أن يربط بين الحدوث والمادّة، وهمزة الربط هي حركة المادّة، فإنّ حركتها هي التي جعلتنا نعتقد بأ نّها حادثة؛ لأنّنا نعلم أنّ كلّ متحرّك هو حادث.
ويؤمن المذهب العقلي لأجل ذلك بقيام علاقة السببية في المعرفة البشرية

85
1- المذهب العقلي‏

تنقسم المعارف البشرية في رأي العقليين إلى طائفتين:
إحداهما معارف ضرورية أو بديهية. ونقصد بالضرورة هنا: أنّ النفس تضطرّ إلى الإذعان بقضية معيّنة من دون أن تطالب بدليل أو تُبرهن على صحّتها، بل تجد من طبيعتها ضرورة الإيمان بها إيماناً غنياً عن كلّ بيّنة وإثبات، كإيمانها ومعرفتها بالقضايا الآتية: (النفي والإثبات لا يصدقان معاً في شي‏ء واحد)، (الحادث لا يوجد من دون سبب)، (الصفات المتضادّة لا تنسجم في موضوع واحد)، (الكلّ أكبر من الجزء)، (الواحد نصف الاثنين).
والطائفة الاخرى معارف ومعلومات نظرية. فإنّ عدّة من القضايا لا تؤمن النفس بصحّتها إلّاعلى ضوء معارف ومعلومات سابقة، فيتوقّف صدور الحكم منها في تلك القضايا على عملية تفكير واستنباط للحقيقة من حقائق أسبق وأوضح منها، كما في القضايا الآتية: (الأرض كروية)، (الحركة سبب الحرارة)، (التسلسل ممتنع)، (الفلزات تتمدّد بالحرارة)، (زوايا المثلّث تساوي قائمتين)، (المادّة تتحوّل إلى طاقة) وما إلى ذلك من قضايا الفلسفة والعلوم. فإنّ هذه القضايا حين تُعرَض على النفس لا تحصل على حكم في شأنها إلّابعد مراجعة للمعلومات الاخرى. ولأجل ذلك فالمعارف النظرية مستندة إلى المعارف الأوّلية الضرورية، فلو سُلِبت تلك المعارف الأوّلية من الذهن البشري لم يستطع التوصّل إلى معرفة نظرية مطلقاً، كما سنوضِّح ذلك فيما بعد إن شاء اللَّه.
فالمذهب العقلي يوضح أنّ الحجر الأساسي للعلم هو: المعلومات العقلية الأوّلية، وعلى ذلك الأساس تقوم البنيات الفوقية للفكر الإنساني التي تُسمَّى‏

84

عن غيرها؟

وفي هذه المسألة عدّة مذاهب فلسفية، نتناول بالدرس منها المذهب العقلي والمذهب التجريبي. فالأوّل هو المذهب الذي ترتكز عليه الفلسفة الإسلامية، وطريقة التفكير الإسلامي بصورة عامّة. والثاني هو الرأي السائد في عدّة مدارس للمادّية ومنها المدرسة الماركسية[1].

 

[1] وقد توصّل المؤلّف قدس سره بعد تأليفه لهذا الكتاب إلى مذهب ثالث للمعرفة عرضه في كتابه القيّم« الاسس المنطقيّة للاستقراء» وسمّاه بالمذهب الذاتي للمعرفة تمييزاً له عن المذهبين الآخرين، وهذا المذهب يتّفق مع المذهب العقلي في الإيمان بوجود قضايا ومعارف يدركها الإنسان بصورة قبليّة ومستقلّة عن الحسّ والتجربة، وأنّ هذه القضايا تشكّل الأساس للمعرفة البشريّة، خلافاً للمذهب التجريبي الذي يؤمن بأنّ التجربة والخبرة الحسّيّة هي المصدر الوحيد للمعرفة، فلا توجد لدى الإنسان أيّ معرفة قبليّة بصورة مستقلّة عن الحسّ والتجربة، ففي هذه النقطة يتّفق المذهب الذاتي للمعرفة مع المذهب العقلي، ولكنّه يختلف معه اختلافاً أساسيّاً في تفسير نموّ المعرفة، بمعنى أنّ هذه المعارف القبليّة الأوّليّة كيف يمكن أن تنشأ منها معارف جديدة؟ فالمذهب العقلي لا يعترف عادةً إلّابطريقةٍ واحدة لنموّ المعرفة، وهي طريقة التوالد الموضوعي التي تعتمد على التلازم بين الواقع الموضوعي للمعارف القبليّة والواقع الموضوعي للمعرفة الجديدة، بينما يؤمن المذهب الذاتي بوجود طريقة اخرى أيضاً لنموّ المعرفة، وهي طريقة التوالد الذاتي التي تعني نشوء معرفةٍ من معارف اخرى قبليّة لا على أساس التلازم بين الواقع الموضوعي لتلك المعارف القبليّة والواقع الموضوعي للمعرفة الجديدة، بل على أساس التلازم بين ذات تلك المعارف القبليّة بوصفها اعتقادات ذهنيّة وذات المعرفة الجديدة بوصفها كذلك، من دون ضرورة التلازم بين الموضوعات الواقعيّة لتلك المعارف في خارج الذهن والموضوع الواقعي للمعرفة الجديدة في خارج الذهن أيضاً، ويعتقد هذا المذهب أنّ الجزء الأكبر من معارفنا يمكن تفسيره على هذا الأساس.( لجنة التحقيق)

83

التصديق ومصدره الأساسي‏

ننتقل الآن من درس الإدراك الساذج- التصوّر- إلى درس الإدراك التصديقي الذي ينطوي على الحكم، ويحصل به الإنسان على معرفة موضوعية.
فكلّ واحد منّا يدرك عدّة من القضايا، ويصدّق بها تصديقاً، ومن تلك القضايا ما يرتكز الحكم فيها على حقائق موضوعية جزئية، كما في قولنا: الجوّ حارّ، الشمس طالعة. وتُسمَّى القضية لأجل ذلك جزئية. ومن القضايا ما يقوم الحكم فيها بين معنيين عامّين كما في قولنا الكلّ أعظم من الجزء، والواحد نصف الاثنين، والجزء الذي لا يتجزّأ مستحيل، والحرارة تولّد الغليان، والبرودة سبب للتجمّد، ومحيط الدائرة أكبر من قطرها، والكتلة حقيقة نسبية، إلى غير ذلك من القضايا الفلسفية والطبيعية والرياضية. وتُسمَّى هذه القضايا بالقضايا الكلّية والعامّة.
والمشكلة التي تواجهنا هي مشكلة أصل المعرفة التصديقية والركائز الأساسية التي يقوم عليها صرح العلم الإنساني، فما هي الخيوط الأوّلية التي نسجت منها تلك المجموعة الكبيرة من الأحكام والعلوم؟ وما هو المبدأ الذي تنتهي إليه المعارف البشرية في التعليل، ويعتبر مقياساً أوّلياً عامّاً لتمييز الحقيقة