کتابخانه
469

التمهيد باستعراض الموقف الأرسطي من المعرفة

نريد الآن- وقد استوعبنا التفسير الشامل المقترح للدليل الاستقرائي- أن ندرس نظرية المعرفة والنقاط الرئيسية فيها، متّخذين من ذلك التفسير الذي قدّمه المذهب الذاتي أساساً لدراستنا، لكي نتبيّن مدى الآثار التي يمكن لهذا التفسير أن يحقّقها على صعيد نظرية المعرفة، وتحليل المعارف البشرية بصورة عامّة:

مبادئ الاستدلال البرهاني (اليقين):

ولنبدأ باستعراض سريع لموقف المنطق الأرسطي من المعرفة البشرية بصورة عامّة، ونجعل من هذا الموقف منطلقاً للنقاط التي نريد إثارتها للبحث في ضوء التفسير المتقدّم للدليل الاستقرائي:
إنّ المنطق الأرسطي يرى أنّ قضايا المعرفة البشرية الجديرة بالثقة والواجبة القبول، هي القضايا التي تتّسم بطابع اليقين، ويريد باليقين: تصديق العقل بقضية تصديقاً جازماً لا يمكن زواله أو زعزعته، فكلّ قضية يتاح لها هذا اللون من التصديق تعتبر قضية يقينية.
والقضايا اليقينية على قسمين:
الأوّل: القضايا اليقينية المستدلّة أو المستنتجة التي اكتسبت طابعها اليقيني‏

468

467

القسم الرابع: المعرفة البشريّة في ضوء المذهب الذاتي‏

التمهيد باستعراض الموقف الأرسطي من المعرفة.
موقفنا من النقاط الأساسيّة في المعرفة.

466

عن العلم الذي ينتمي إليه التجمّع المواجه للقيمة الاحتمالية الاخرى، فبالإمكان أن يؤثّر أحد التجمّعين لاستكماله شروط المصادرة الاستقرائية، دون التجمّع الآخر لعدم استكماله تلك الشروط.

استخدام الشكل الثاني لتطبيق المصادرة في قضايا السببيّة:

عرفنا سابقاً كيف يمكن استخدام الشكل الأوّل لتطبيق المصادرة في قضايا السببيّة عن طريق (العلم الإجمالي 2) الذي يستوعب كلّ احتمالات وجود وعدم (ت) في التجارب الناجحة، وقد كنّا نفترض أنّ قيم هذه الاحتمالات كلّها متساوية، وأنّ جميع هذه القيم- باستثناء نصف قيمة- تتجمّع في محور واحد وهو سببية (أ) ل (ب)، وبذلك يفنى الاحتمال المضادّ.
وأمّا في الشكل الثاني لتطبيق المصادرة، فالفناء يتّجه نحو قيمة من قيم (العلم الإجمالي 2) إذ تفنى قيمة احتمال وجود (ت) صدفة في كلّ التجارب بقاعدة عدم التماثل، وإذا فنى احتمال وجود (ت) بصورة مطّردة في كلّ التجارب، ثبت أنّ (أ) سبب ل (ب).
فسببيّة (أ) ل (ب) تثبت في الشكل الأوّل بتطبيق المصادرة الاستقرائية مباشرة، وتثبت في الشكل الثاني عن طريق إفناء احتمال وجود (ت) في كلّ المرّات.

465
هل يمكن أن تفنى إحدى القيمتين المتساويتين دون الاخرى؟:

ويمكن أن يوجّه إلى المصادرة الاستقرائية اعتراض عامّ يشمل كلا شكليها: فإنّ بالإمكان أن نبرهن على أنّ أيّ قيمة احتمالية تفترض المصادرة الاستقرائية فناءها على أساس ضآلتها، توجد قيم مماثلة لها لم تستطع ضآلتها أن تفنيها، مهما كانت الدرجة المفترضة للقيمة الاحتمالية التي تستهدف المصادرة إفناءها. وهذا دليل على أنّ الضآلة وحدها غير كافية لفناء القيمة الاحتمالية.
والبرهان على ذلك: أنّ أيّ قيمة احتمالية تفترض المصادرة فناءها يمكننا أن نفترض علماً إجمالياً يضمّ عدداً كبيراً من الأطراف إلى الدرجة التي تجعل ناتج قسمة رقم اليقين على عدد الأطراف يساوي تلك القيمة الإجمالية المفترض فناؤها، وهذا الافتراض ميسور دائماً مهما خفّضنا القيمة الاحتمالية التي نفترض فناءها؛ لأنّنا نعلم بأنّ القيمة الاحتمالية لطرف من أطراف العلم الإجمالي المتساوية لا يمكن أن تفنى بقوّة التجمّعات الاحتمالية لذلك العلم الإجمالي، ونعلم أيضاً بأنّ القيمة الاحتمالية للطرف تنخفض كلّما ازداد عدد أطراف العلم الإجمالي، فينتج من ذلك أنّ بالإمكان: الحصول على قيمة تستعصي على الفناء بأيّ درجة من درجات الاحتمال.
والردّ على هذا البرهان: أنّ فناء إحدى القيمتين الاحتماليتين المتساويتين دون الاخرى، إنّما يكون مستحيلًا إذا تمّ هذا الفناء بفاعلية علمٍ علاقته وصلته بكلتا القيمتين بدرجة واحدة؛ لأنّ تأثير هذا العلم في إفناء إحدى القيمتين دون الاخرى ترجيح بلا مرجّح، ولهذا عرفنا سابقاً: أنّ إفناء العلم لإحدى القيم الاحتمالية المتساوية في داخله دون سائر القيم الاخرى مستحيل. وأمّا إذا كان التجمّع الذي يواجه كلًا من القيمتين الاحتماليتين المتساويتين من علم يختلف‏

464

إفنائه لإحدى قيمه الاحتمالية المتساوية، كذلك لا يمكن ل (العلم الإجمالي 2) إفناء القيمة الصغيرة من قيم (العلم الإجمالي 1)؛ لأنّ هذه القيمة ملازمة لأحد أطراف (العلم الإجمالي 2)، فلو أفناها لأفنى بذلك القيمة الاحتمالية لطرفه.
والجواب على هذا الاعتراض: أنّ فناء القيمة الاحتمالية الصغيرة من قيم (العلم الإجمالي 1) إنّما يتمّ بفاعلية واقتضاء تجمّع العدد الأكبر من قيم نفس هذا العلم، وليس باقتضاء تجمّع عدد من قيم (العلم الإجمالي 2) ضدّها، فإنّ القيم التي تنفي احتمال ظهور وجه الكتابة ألف مرّة متعاقبة في داخل (العلم الإجمالي 1)، تكون قيمة احتمالية كبيرة وكافية- من ناحية حجمها ودرجتها- لإفناء القيمة المضادّة. وإنّما كان ذلك يواجه عقبة وهي: أنّ قيمة احتمال ظهور وجه الكتابة في جميع المرّات تساوي قيمة أيّ احتمال آخر داخل (العلم الإجمالي 1)، فإذا أفنى هذا العلم تلك القيمة خاصّة دون غيرها كان ذلك ترجيحاً بلا مرجّح. ومن هنا كانت المصادرة بحاجة إلى (العلم الإجمالي 2) لكي يخفّض قيمة احتمال ظهور وجه الكتابة في جميع المرّات، وبالتالي يذلّل تلك الصعوبة ويجعل إفناء القيم المتجمّعة داخل (العلم الإجمالي 1) لتلك القيمة دون غيرها ترجيحاً بمرجّح، فليس (العلم الإجمالي 2) هو المقتضي للإفناء لكي يؤدّي إلى إفناء العلم لإحدى القيم الاحتمالية المتساوية في داخله، وإنّما يمهّد لممارسة (العلم الإجمالي 1) عمله في الإفناء.
وعلى العكس من ذلك الحالة التي تحدّثنا عنها في الشكل الأوّل لتطبيق المصادرة، حينما تكون القيمة الاحتمالية المراد إفناؤها ملازمة لأحد أطراف (العلم الإجمالي 2)، فإنّ المقتضي لإفناء تلك القيمة في الشكل الأوّل لتطبيق المصادرة نفس (العلم الإجمالي 2)، فإذا أفنى قيمة احتمالية ملازمة لأحد أطرافه فقد أفنى إحدى قيمه المتساوية.

463
اعتراض وجواب:

وقد يثار اعتراض ضدّ الشكل الثاني لتطبيق المصادرة الاستقرائية بصورة عامّة، وهو أنّ (العلم الإجمالي 2)، حين يتدخّل في تغيير القيم الاحتمالية في (العلم الإجمالي 1) وبالتالي تزول أصغر تلك القيم الاحتمالية تطبيقاً للمصادرة المفترضة، يؤدّي ذلك إلى زوال القيمة الاحتمالية لأحد أطراف (العلم الإجمالي 2) أيضاً.
فمثلًا إذا زال احتمال ظهور وجه الكتابة في ألف مرّة متتالية فهذا يعني: أنّ (العلم الإجمالي 2) سوف يفقد طرفاً من أطرافه أيضاً، وهو افتراض أن يكون بين حالات رمي القطعة النقدية جزء مشترك، وأن يكون هذا الجزء هو العامل الذي يتحكّم في تحديد الوجه، دون الأجزاء الاخرى المتغيّرة من حالة إلى اخرى.
لأنّ هذا الافتراض يستلزم ظهور وجه الكتابة في جميع المرّات، فإذا فنى احتمال ظهور وجه الكتابة في الجميع فلا بدّ أن يواجه ذلك الافتراض نفس المصير. وبهذا نصل إلى تناقض في تطبيق المصادرة؛ لأنّ (العلم الإجمالي 2) قد أصبح نافياً لإحدى قيمه الاحتمالية، وقيمه الاحتمالية كلّها متساوية؛ لأنّ القيم الاحتمالية لكلّ علم متساوية ما لم يتدخّل علم آخر في تغييرها، ونواجه عندئذٍ أحد أمرين:
فإمّا أن يفني (العلم الإجمالي 2) قيمة واحدة من قيمه المتساوية دون الباقي، فهو ترجيح بلا مرجّح. وإمّا أن يفني كلّ قيمه، فهو إفناء العلم لنفسه.
ويستهدف هذا الاعتراض أن يوجّه ضدّ الشكل الثاني لتطبيق المصادرة نفس الحجّة التي أقمناها ضدّ الشكل الأوّل لتطبيق المصادرة في حالة كون القيمة الاحتمالية المراد إفناؤها ملازمة لأحد أطراف (العلم الإجمالي 2)، فكما لا يمكن هناك ل (العلم الإجمالي 2) إفناء تلك القيمة مهما كانت ضئيلة لأنّه يؤدّي إلى‏

462

من المجموع الكلّي طرفاً له، فإن طبّقت المصادرة على كلّ المجموعات الألفية أدّى إلى إفناء هذا الاحتمال مع أ نّه احتمال كبير نسبياً فلا يمكن إفناؤه على أساس المصادرة الاستقرائية، وإن طبّقت المصادرة على بعض المجموعات دون بعض، حفاظاً على هذا الاحتمال الإجمالي، فهو ترجيح بلا مرجّح.
ويجب أن نشير بهذا الصدد إلى أنّ هذا الاحتمال الإجمالي لا يشبه الاحتمال الإجمالي الذي اثير- في الاعتراض الرابع- ضدّ الشكل الأوّل لتطبيق المصادرة، وهو احتمال أن تكون واحدة على الأقلّ من علاقات السببيّة غير ثابتة؛ لأنّ ذلك الاحتمال كان نتيجةً لجمع احتمالات النفي في علاقات السببيّة المتعدّدة، إذ لم يكن يوجد مبرّر مباشر لإيجاد الاحتمال الإجمالي، ولهذا كان من الطبيعي أن يزول ذلك الاحتمال الإجمالي بإفناء الاحتمالات التي أنتجته. وأمّا هنا فالاحتمال الذي يمكن أن نجعله بديلًا ل (العلم الإجمالي 3) ليس نتيجة جمع لاحتمالات الكذب في المجموعات الألفية المتعدّدة، بل يوجد مبرّر مباشر له، وهو استقراء نسبة الكذب إلى الصدق في الأخبار، فإنّ الاستقراء قد يبرهن- بدرجة معقولة من الاحتمال- على نسبةٍ محدّدة تؤدّي إلى احتمال وجود ألف خبرٍ كاذب في كلّ ثلاثة آلاف، أو في كلّ مئة ألف خبر مثلًا، وكلّما كان الاحتمال الإجمالي موجوداً على أساس مبرّرٍ مباشر له، وكان يتمتّع بقيمة غير ضئيلة، فلا يمكن إفناؤه عن طريق إفناء الاحتمالات الصغيرة التي يضمّها.
ولئن كانت الطريقة الاولى لتدخّل (العلم الإجمالي 2) غير كافية لإيجاد جوٍّ غير متناقض لتطبيق المصادرة الاستقرائية فإنّ الطريقة الثانية كافية لذلك، إذ لا يوجد في مجالها ما يوازي (العلم الإجمالي 3)، أو الاحتمال الإجمالي البديل له.

461

العلم، واحتمال أن تكون أيّ مجموعة ألفية من الأخبار كاذبة، مساوٍ لاحتمال أن تكون أيّ مجموعة ألفية اخرى كاذبة، حيث نتكلّم في مجموع كلّي تتساوى كلّ الأخبار فيه في درجة الصدق المحتملة.
وعلى هذا الأساس إذا افترضنا أ نّا اخترنا عشوائياً ألف خبر من المجموع الكلّي، واستطعنا- عن طريق تدخّل (العلم الإجمالي 2) في تحديد قيم (العلم الإجمالي 1)- أن نجعل من احتمال كذب الجميع أضعف احتمالٍ في المجموعة، فهذا كلّه لا يبرّر تطبيق المصادرة وحصول اليقين ضدّ هذا الاحتمال؛ لأنّ الشي‏ء نفسه موجود في أيّ ألف نختارها عشوائياً من المجموع الكلّي للأخبار، فإن طبّقنا المصادرة على الألف الاولى دون المجموعات الألفية الاخرى فهو ترجيح بلا مرجّح، وإذا طبّقنا المصادرة على كلّ تلك المجموعات فسوف يصطدم ذلك بالعلم الإجمالي بوجود ألف أخبار كاذبة؛ لأنّنا إذا كنّا كلّما جمعنا ألف خبر أمكننا أن نؤكّد أ نّها ليست جميعاً كاذبة فأين الأخبار الألف التي نعلم بأ نّها كاذبة ضمن المجموع الكلّي؟
وهكذا نجد أنّ تطبيق المصادرة الاستقرائية المفترضة على أساس الطريقة الاولى من تدخّل (العلم الإجمالي 2) غير ممكن؛ لأنّه يصطدم ب (العلم الإجمالي 3)، ويؤدّي إمّا إلى الترجيح بلا مرجّح، أو إلى إفناء كلّ قيم (العلم الإجمالي 3)، وكلا الأمرين مستحيل.
ويمكننا أن نستبدل (العلم الإجمالي 3) بدرجة كبيرة من الاحتمال نسبياً، ونصل إلى نفس النتيجة، بأن نفترض أ نّنا لا نعلم بوجود ألف خبر كاذب في المجموع الكلّي، ولكنّنا نحتمل ذلك بدرجة معقولة من الاحتمال، فإنّ هذا الاحتمال بنفسه يعتبر احتمالًا إجمالياً، وتعتبر كلّ مجموعة ألفية مختارة عشوائيا