کتابخانه
478

تفسير القضية التجريبيّة والحدسيّة

القضيّة التجريبيّة:

رأينا أنّ المنطق الأرسطي يعتبر القضية التجريبية إحدى القضايا الستّ الأوّلية التي تشكّل نقاط ابتداء في المعرفة البشرية الحقّة، رغم أ نّها تقع عادة تلو عدد كبير من القضايا المحسوسة، إذ ندرك بإحساسنا مثلًا: أنّ هذا الحديد قد تمدّد بالحرارة، وأنّ هذا الحديد يتمدّد بالحرارة، وأنّ ذلك الحديد كذلك، فنتوصّل إلى القضية التجريبية القائلة: «كلّ حديد يتمدّد بالحرارة».
غير أنّ المنطق الأرسطي في تصنيفه للقضايا لا يعتبر القضية التجريبية مستنتجة من مجموع تلك القضايا المحسوسة، لكي تصبح قضية ثانوية، وتفقد صفتها كقضيّة أوّلية؛ وذلك لأنّ القضية التجريبية أكبر من مجموع تلك القضايا المحسوسة؛ لأنّها تشتمل على التعميم لعدد أكبر من الحالات، فلا يمكن أن تكون مستنتجة منها.
وإذ يقرّر المنطق الأرسطي هذا عند تصنيفه للقضايا إلى أوّلية وثانوية، يحتفظ لنفسه بنظرة أعمق إلى القضية التجريبية. وبموجب هذه النظرة تتحوّل جميع القضايا التجريبية إلى قضايا ثانوية مستنتجة ومستدلّة من قضية أوّلية أساسية، وهي: «أنّ الاتفاق- أي الصدفة النسبية- لا يكون دائمياً».
فعلى أساس هذه القضية الأساسية إذا لاحظنا الاقتران بين تمدّد الحديد والحرارة على خطّ طويل، نستنتج: أنّ الحرارة تسبّب التمدّد، وأنّ الحديد يتمدّد بالحرارة دائماً؛ لأنّ ذلك الاقتران لو كان صدفة لما تكرّر باستمرار على‏

477

موقفنا من النقاط الأساسيّة في المعرفة

ولنأخذ الآن نظرية المنطق الأرسطي في مصادر المعرفة وتكوينها، لنناقش عدداً من النقاط فيها على ضوء الاسس المنطقيّة التي حدّدت طريقتنا في تفسير الدليل الاستقرائي.
وسوف نحصل في هذه المناقشة على أجوبة الأسئلة التالية وأسئلة اخرى:
1- هل يصحّ أن تعتبر القضية التجريبية أوّلية؟
2- وهل يصحّ أن تعتبر القضية الحدسية أوّلية؟
3- وهل يصحّ أن تعتبر القضية المتواترة أوّلية؟
4- وهل يصحّ أن تعتبر القضية المحسوسة أوّلية؟
5- وما هو المدى الذي يمكن أن يفسّر من المعرفة على أساس طريقتنا في تفسير الدليل الاستقرائي؟
6- وهل توجد معرفة عقلية قبلية بأيّ شكل من الأشكال أو لا؟
7- وهل من الضروري أن يكون للمعرفة بداية أو لا؟
8- وهل من الضروري أن تكون المعرفة الأوّلية يقينية أو لا؟

476

بقضايا سابقة قد صدّق بها.
وأمّا «القضايا الوهميّة» فهي في الحقيقة قضايا استقرائية، كالتجريبيات التي اعتبرها المنطق الأرسطي إحدى القضايا اليقينية الستّ، غير أنّ التعميم الاستقرائي في القضية التجريبية صحيح، وأمّا التعميم الاستقرائي في القضية الوهمية فهو غير صحيح. أمّا لماذا اختلف هذا التعميم عن ذاك، فهذا يرتبط باكتشاف الأساس المنطقي للتعميم الاستقرائي، لكي نستطيع على ضوئه أن نميّز بين التعميمات التي تحتويها القضايا الوهميّة، والتعميمات التي تحتويها القضايا التجريبية اليقينية.
وهكذا نعرف: أ نّه بدلًا عن تصنيف المبادئ إلى اليقينيات الستّ والمظنونات والمسلّمات والمقبولات والمشهورات والمشبّهات والموهومات، نستطيع في ضوء ما قلناه أن نعتبر القضايا الستّ هي المبادئ الأوّلية للمعرفة، وكلّ القضايا الاخرى تعتبر متفرّعة عنها، فإن كانت متفرّعة عنها بصورة مؤكّدة فهي قضايا نظرية يقينية، وإن كانت متفرّعة عنها بصورة غير مؤكّدة فهي قضايا مظنونة، وإن كان هناك خطأ في افتراض التفرّع فهي قضايا مشبّهة أو وهميّة.

475

اليقينية الثانوية في كونها مستنتجة، غير أنّ استنتاج القضية اليقينية الثانوية من القضايا اليقينية الاولى استنتاج كامل بدرجة اليقين، واستنتاج القضية المظنونة التي يذكرها المنطق الأرسطي من القضايا اليقينية السابقة استنتاج ناقص بدرجة أقلّ من اليقين.
فلنقارن بين مثالين: أحدهما لاستنتاج قضية يقينية من قضايا يقينية سابقة، والآخر لاستنتاج قضية مظنونة من قضايا يقينية سابقة.
أمّا المثال الأوّل: فهو قولنا: «هذه القطعة تتمدّد بالحرارة؛ لأنّ هذه القطعة معدن، وكلّ معدن يتمدّد بالحرارة». فالقول بأنّ «هذه القطعة تتمدّد بالحرارة» قضيّة يقينية مستنتجة، والقول بأنّ «كلّ معدن يتمدّد بالحرارة» قضية تجريبية تندرج في القضايا اليقينية الستّ.
وأمّا المثال الثاني: فهو قولنا: «هذا الإنسان سافل؛ لأنّه لا عمل له، وفي كلّ عشرة أشخاص ممّن لا عمل لهم يوجد تسعة سافلون». فالقول بأنّ «هذا الإنسان سافل» قضيّة مظنونة بدرجة 10/ 9، والقول بأنّ «في كلّ عشرة أشخاص ممّن لا عمل لهم يوجد تسعة سافلون» قضية تجريبية تندرج في القضايا اليقينية الستّ.
والفارق بين المثالين: أنّ القضية المستنتجة في المثال الأوّل متضمّنة في المقدّمات اليقينية تضمّناً كاملًا، ولهذا كانت يقينية. والقضية المستنتجة في المثال الثاني متضمّنة في المقدّمات اليقينية تضمّناً ناقصاً، أي بدرجة 10/ 9، ولهذا كانت قضية مظنونة. فالقضايا المظنونة التي يستعرضها المنطق الأرسطي قضايا مستنتجة.
و «القضايا المشبّهة» هي أيضاً ليست قضايا أوّلية في سير الفكر الاستدلالي عند الإنسان؛ لأنّ الإنسان يتورَّط في التصديق بها نتيجة لشبهها

474

أو مشهورة فهو «سفسطة» أو «مشاغبة».
و «البرهان» هو الاستدلال الوحيد الذي يؤدّي إلى اليقين بالقضية المستدلّة، أي إلى التصديق الجازم بها الجدير بالثقة والواجب القبول، وبكلمة اخرى: التصديق الذي لا يمكن أن يزول وينكشف زيفه.
ونحن إذا فحصنا المبادئ الأوّلية لكلّ أشكال الاستدلال في المنطق الأرسطي نجد أنّ أكثرها ليست مبادئ حقيقية للاستدلال، بل هي بدورها مستنتجة، وإن كانت قد تشكّل بداية للحوار الاستدلالي بين شخصين.
ف «القضايا المسلّمة» التي يعتبرها المنطق الأرسطي أحد مبادئ الاستدلال يمكن أن تشكّل بداية للحوار الاستدلالي بين شخصين؛ لأنّها مسلّمة لديهما معاً، فلا حاجة بهما إلى التحدّث عن طريقة إثباتها، ولكنّها ليست مبادئ حقيقية للفكر الاستدلالي عند الإنسان؛ لأنّ التسليم بها بدوره يجب أن يكون قائماً على أساس، فإن كان تصوّر الطرفين كافياً للتصديق بها فهي قضية من القضايا الستّ اليقينية، وإلّا فلا بدّ أن تكون مستنتجة من قضايا قبلية، فلا تكون قضية أوّلية.
و «القضايا المقبولة» هي أيضاً قضايا مستنتجة بحكم موضعها من الفكر الاستدلالي عند الإنسان؛ لأنّ القبول بالقضية على أساس الثقة بشريعة أو بقول عالم يعني: استنتاج تلك القضية من القضايا التي أدّت إلى الثقة بتلك الشريعة أو بذلك العالم. فكلّ قضية مقبولة هي قضية ثانوية في تسلسل الفكر الاستدلالي عند الإنسان، وإن شكّلت بداية في الحوار الاستدلالي بين شخصين مقتنعين معاً بتلك الشريعة أو بذلك العالم.
و «القضايا المظنونة» التي يستعرضها المنطق الأرسطي ليست في الحقيقة إلّا قضايا مستنتجة استنتاجاً ظنّياً من قضايا سابقة، فهي لا تختلف عن القضايا

473

التصديق بها.
ورابعاً: المسلّمات، وهي قضايا حصل التسالم بينك وبين غيرك على أ نّها صادقة، سواء كان التسالم عامّاً من جمهور الناس، أو خاصّاً بالقطاع الذي ينتمي إليه الشخص الذي تحاول إقناعه بقضية يمكن استنتاجها من تلك القضايا المسلّمة.
وخامساً: المقبولات، وهي قضايا مأخوذة ممّن يوثق بصدقه تقليداً: إمّا لأمر سماوي كالشرائع، وإمّا لمزيد عقله وخبرته كالمأخوذات من الحكماء والعلماء.
وسادساً: الوهميّات، وهي قضايا كاذبة ينفيها العقل، ولكن ينساق الإنسان إلى التصديق بها نتيجة لُالفته للمحسوسات واعتياده على أحكامها، من قبيل قول القائل: «إنّ كلّ موجود له مكان وجهة»، فإنّ اعتياد الإنسان على المحسوسات والفته بما يدركه من مكان وجهة لكلّ محسوس يجعله ينساق إلى تعميم ذلك على كلّ موجود، فهذا التعميم ليس له سند إلّاالوهم الناشئ من العادة والالفة.
وسابعاً: المشبّهات، وهي قضايا كاذبة يعتقد بها الإنسان أحياناً لأنّها تشبه اليقينيات أو المشهورات، فيجعله هذا الشبه يخطئ في اكتشاف حقيقتها، فيتعامل معها كما إذا كانت قضية يقينية أو مشهورة.
وكلّ استدلال لا يستخدم من المقدّمات لإثبات النتيجة إلّاالقضايا اليقينية يعتبر «برهاناً».
وكلّ استدلال يستخدم من المقدّمات المشهورات والمسلّمات يطلق عليه اسم «الجدل».
وكلّ استدلال يستخدم المظنونات والمقبولات يطلق عليه اسم «الخطابة».
وكلّ استدلال يستخدم قضايا كاذبة يزوِّرها ويقدّمها بوصفها قضايا يقينية

472

يستخدم في إطار هذه المعرفة لاستنتاج قضية من قضايا يقينية تستلزمها اسم «البرهان».

مبادئ الاستدلالات الاخرى في المنطق الأرسطي:

ويجب أن نعرف أيضاً: أنّ المبادئ الأوّلية للاستدلال في رأي المنطق الأرسطي لا تنحصر باليقينيات الستّ؛ لأنّ هذه اليقينيات هي المبادئ الأوّلية للاستدلال البرهاني، أي الاستدلال الذي يحقّق معرفة واجبة القبول. وهذا هو أحد أقسام الاستدلال، وهناك استدلالات اخرى لا تؤدّي إلى معرفة من هذا القبيل، ننطلق في بداياتها الأوّلية من قضايا غير القضايا اليقينية الستّ.
ومن أجل هذا يعتبر المنطق الأرسطي مجموعة القضايا اليقينية الستّ أحد مبادئ الاستدلال، ويضع إلى جانبها القضايا المظنونة، والقضايا المشهورة، والقضايا المسلّمة، والقضايا المقبولة، والقضايا الوهميّة، والقضايا المشبّهة.
فكما توجد قضايا يقينية أوّلية تستنتج كلّ القضايا اليقينية الثانوية منها، كذلك توجد- مثلًا- قضايا مظنونة أوّلية تتدخّل في استنتاج كلّ القضايا المظنونة الثانوية.
فمبادئ الاستدلال الذي يستهدف إيجاد التصديق بالقضية المستدلّة هي:
أوّلًا: اليقينيات، وهي القضايا الستّ المتقدّمة.
وثانياً: المظنونات، وهي قضايا يرجّح العقل صدقها مع تجويز كذبها، كما يقال مثلًا: «فلان يسارّ عدوّي فهو يتكلّم عليَّ» أو «فلان لا عمل له فهو سافل».
وثالثاً: المشهورات، وهي قضايا لا سند للإنسان في التصديق بها إلّا شهرتها وعموم الاعتراف بها، كحسن العدل وقبح الظلم، واستهجان إيذاء الحيوان بدون غرض، فإنّ هذه قضايا لا واقع لها إلّاتطابق الآراء عليها، وهذا هو أساس‏

471

نسبته من الشمس قرباً وبعداً.
6- الفطريّات: وهي قضايا لا يكفي تصوّر طرفيها لتصديق العقل بها كالأوّليات، بل لا بدّ لها من وسط، إلّاأنّ هذا الوسط ليس ممّا يذهب عن الذهن، فكلّما حضرت القضية الفطرية في الذهن اكتسبت التصديق من العقل فوراً، لحضور الوسط معه. مثل حكمنا بأنّ «الاثنين نصف الأربعة»؛ لأنّ الأربعة تنقسم إليه وإلى قسم آخر يساويه، وكلّ ما ينقسم عدد إليه وإلى قسم آخر يساويه فهو نصف ذلك العدد، فالاثنان نصف الأربعة.
وكلّ قضيّة مستدلّة بمقدّمات تنتمي إلى هذه الأصناف الستّة فهي قضية يقينية نظرية.
فالقضايا اليقينية الستّ تشكّل القاعدة الرئيسية للمعرفة الجديرة بالثقة والواجبة القبول. والقضايا المستدلّة والمستنتجة منها بصورة مباشرة أو غير مباشرة، هي البناء العلوي- أو الفوقي- في تلك المعرفة. ويستمدّ كلّ استنتاج في هذا البناء مبرّره من التلازم بين التصديق واليقين بالقضية الفوقية، والتصديق واليقين بمجموعة من القضايا السابقة المستدلّ بها.
وهذا التلازم بين التصديقين واليقينين يقوم على أساس التلازم بين الواقع الموضوعي للقضية المستدلّة والواقع الموضوعي لمجموعة القضايا المستدلّ بها على تلك القضية، فالتوالد في بناء المعرفة هذا نتيجة للتوالد الموضوعي بين القضايا أنفسها، وما لم يكن بين القضية المستدلّة ومجموعة القضايا التي تساهم في إنتاجها تلازم، فلا يكون اليقين بهذه المجموعة من القضايا مولّداً لليقين بتلك القضية المستدلّة.
ويطلق- حسب مصطلحات المنطق الأرسطي- على هذه المعرفة بما تضمّ من بناء علوي وقاعدة رئيسية اسم «المعرفة البرهانية»، وعلى الاستدلال الذي‏

470

بوصفها نتيجة لقضايا يقينية سابقة.
الثاني: القضايا اليقينية الرئيسية التي تشكّل المنطلقات الأوّلية لليقين في المعرفة البشرية، وتضع حدّاً وبداية للتسلسل في استنتاج القضايا بعضها من بعض.
ويصنّف المنطق الأرسطي هذه القضايا اليقينية الرئيسية إلى ستّة أصناف:
1- الأوّليات: وهي قضايا يصدِّق بها العقل لذاتها، أي بدون سبب خارج عن ذاتها، بأن يكون تصوّر الطرفين كافياً في الحكم والجزم بصدق القضية، من قبيل قولنا: «النقيضان لا يجتمعان» و «الكلّ أعظم من الجزء».
2- المحسوسات: وهي قضايا يحكم بها العقل بواسطة الحسّ، ولا يكفي فيها تصوّر الطرفين. والحسّ على قسمين: ظاهر وباطن: والقضايا المتيقّنة بواسطة الحسّ الظاهر تسمّى «حسّيات» كالحكم بأنّ هذه النار حارّة، وأنّ الشمس مضيئة. والقضايا المتيقّنة بواسطة الحسّ الباطن تسمّى «وجدانيات» كالعلم بأنّ لنا فكراً وألماً وخوفاً ونحو ذلك.
3- التجريبيّات: وهي قضايا يحكم بها العقل بواسطة تكرّر المشاهدة منّا في إحساسنا، فيحصل بتكرّر المشاهدة ما يوجب أن يرسّخ في النفس حكم لا شكّ فيه، كالحكم بأنّ كلّ نار حارّة، وأنّ المعدن يتمدَّد بالحرارة.
4- المتواترات: وهي قضايا يحكم بها العقل بواسطة إخبار عدد كبير يمتنع تواطؤهم على الكذب، كالعلم بوجود البلاد البعيدة التي لم نشاهدها، أو الامم والأشخاص الذين لم نعاصرهم.
5- الحدسيّات: وهي قضايا يحكم بها العقل على أساس حدس قوي من النفس يزول معه الشكّ، مثل حكمنا بأنّ القمر مستفاد نوره من نور الشمس.
ومنشأ الحدس الذي يسبّب هذا الحكم هو اختلاف تشكّل نور القمر عند اختلاف‏