کتابخانه
385

كما يمكن أن يكون متّصلًا، كذلك يمكن أن يكون محتوياً على فراغ تتخلّله أجزاء دقيقة.
وأمّا الجانب الفلسفي في نظرية ديمقريطس، فلا تمسّه الكشوف العلمية بشي‏ء، ولا تبرهن على صحّته، بل تبقى مسألة وجود مادّة أبسط من المادّة العلمية في ذمّة الفلسفة، بمعنى: أنّ الفلسفة يمكنها أن تأخذ أعمق مادّة توصّل إليها العلم في الميدان التجريبي، وهي الذرّة ومجموعتها الخاصّة، فتبرهن على أ نّها مركّبة من مادّة أبسط وصورة. ولا يتناقض ذلك مع الحقائق العلمية؛ لأنّ هذا التحليل والتركيب الفلسفي ليس ممّا يمكن أن يظهر في الحقل التجريبي.
وكما أخطأ هؤلاء في زعمهم أنّ التجارب العلمية تدلّل على صحّة النظرية بكاملها، مع أ نّها متّصلة بجانبها العلمي فقط، كذلك أخطأ عدّة من الفلاسفة الأقدمين الذين رفضوا الجانب الفلسفي من النظرية، فعمّموا الرفض للناحية العلمية أيضاً، وادّعوا- من دون سند علمي أو فلسفي- أنّ الأجسام متّصلة، وأنكروا الذرّة والفراغ في محتواها الداخلي.
والموقف الذي يجب أن نقفه في المسألة هو: أن نقبل الجانب العلمي من النظرية، الذي يؤكّد أنّ الأجسام ليست متّصلة، وأ نّها مركّبة من ذرّات دقيقة إلى الغاية؛ فإنّ هذا الجانب قد كشفت عنه الفيزياء الذرّية بصورة لا تدع مجالًا للشكّ.
وأمّا الجانب الفلسفي من النظرية القائل ببساطة تلك الوحدات التي تكشف عنها الفيزياء الذرّية، فنرفضه؛ لأنّ الفلسفة تبرهن على أنّ الوحدة التي تكشف عنها الفيزياء- مهما كانت دقيقة- مركّبة من صورة ومادّة. ونطلق على هذه المادّة اسم المادّة الفلسفية؛ لأنّها المادّة الأبسط التي يثبت وجودها بطريقة فلسفية لا علمية. وقد حان لنا الآن أن ندرس هذه الطريقة الفلسفية.

384

تصحيح أخطاء:

وعلى ضوء ما سبق يمكن أن نعرف أنّ النظرية الذرّية ل (ديمقريطس)- القائلة بأنّ أصل العالم عبارة عن ذرّات أصلية لا تتجزّأ- لها جانبان: أحدهما علمي، والآخر فلسفي.
فالجانب العلمي هو: أنّ بنية الأجسام مركّبة من ذرّات صغيرة، يتخلّل بينها الفراغ، وليس الجسم كتلة متّصلة، وإن بدا لحواسنا كذلك، وتلك الوحدات الصغيرة هي مادّة الأجسام جميعاً.
والجانب الفلسفي هو: أنّ ديمقريطس زعم أنّ تلك الوحدات والذرّات ليست مركّبة من مادّة وصورة؛ إذ ليست لها مادّة أعمق وأبسط منها، فهي المادّة الفلسفية، أي: أعمق وأبسط مادّة للعالم.
وقد اختلط هذان الجانبان من النظرية على كثير من المفكّرين، فبدا لهم أنّ عالم الذرّة الذي كشفه العلم الحديث بالأساليب التجريبية، يبرهن على صحّة النظرية الذرّية. فلم يعد من الممكن تخطئة (ديمقريطس) في تفسيره للأجسام- كما خطّأه الفلاسفة السابقون- بعد أن تجلّى للعلم عالم الذرّة الجديد، وإن اختلف التفكير العلمي الحديث عن تفكير ديمقريطس في تقدير حجم الذرّة وتصوير بنيتها.
ولكن الواقع: أنّ التجارب العلمية الحديثة عن الذرّة إنّما تثبت صحّة الجانب العلمي من نظرية ديمقريطس، فهي تدلّ على أنّ الجسم مركّب من وحدات ذرّية، ويشتمل على فراغ يتخلّل بين تلك الذرّات، وليس متّصلًا كما يصوّره الحسّ لنا. وهذه هي الناحية العلمية من النظرية التي يمكن للتجربة أن تكشف عنها. وليس للفلسفة كلمة في هذا الموضوع؛ لأنّ الجسم من ناحية فلسفية

383

وهذا السؤال يعتبر من أهمّ الأسئلة الرئيسية في التفكير البشري، العلمي والفلسفي. ويقصد بالمادّة العلمية أعمق ما تكشفه التجربة من موادّ للعالم، فهي الأصل الأوّل في التحليلات العلمية. ويقصد بالمادّة الفلسفية أعمق مادّة للعالم، سواءٌ أكان من الممكن ظهورها في المجال التجريبي أم لا.
وقد مرّ بنا التحدّث عن المادّة العلمية، وعرفنا أنّ أعمق مادّة توصّل إليها العلم هي الذرّة بأجزائها من النوى والكهارب، التي هي تكاثف خاصّ للطاقة.
ففي العرف العلمي مادّة الكرسي هي الخشب، ومادّة الخشب هي العناصر البسيطة التي يأتلف منها، وهي: الاوكسجين، والكربون، والهيدروجين. ومادّة هذه العناصر هي الذرّات، ومادّة الذرّة هي أجزاؤها الخاصّة من البروتونات والألكترونات وغيرهما. وهذه المجموعة الذرّية، أو الشحنات الكهربائية المتكاثفة، هي المادّة العلمية العميقة التي أثبتها العلم بالوسائل التجريبية.
وهنا يجي‏ء دور المادّة الفلسفية؛ لنعرف ما إذا كانت الذرّة في الحقيقة هي أعمق وأبسط مادّة للعالم، أو إنّها بدورها مركّبة- أيضاً- من مادّة وصورة، فالكرسي كما عرفنا مركّب من مادّة وهي الخشب، وصورة هي هيئته الخاصّة.
والماء مركّب من مادّة وهي ذرّات الاوكسجين والهيدروجين، وصورة وهي خاصية السيلان، التي تحصل عند التركيب الكيماوي بين الغازين. فهل الذرّات الدقيقة هي المادّة العلمية للعالم كذلك أيضاً؟
والرأي الفلسفي السائد هو: أنّ المادّة الفلسفية أعمق من المادّة العلمية، بمعنى: أنّ المادّة الاولى في التجارب العلمية ليست هي المادّة الأساسية في النظر الفلسفي، بل هي مركّبة من مادّة- أبسط منها- وصورة، وتلك المادّة الأبسط لا يمكن إثباتها بالتجربة، وإنّما يبرهن على وجودها بطريقة فلسفية.

382

المادّة والفلسفة

كنّا ننطلق في برهاننا على المسألة الإلهية من المادّة بمفهومها العلمي، التي برهن العلم على اشتراكها، وعرضية الخصائص بالإضافة إليها. والآن نريد أن ندرس المسألة الإلهية على ضوء المفهوم الفلسفي للمادّة.
ولأجل ذلك يجب أن نعرف ما هي المادّة؟ وما هو مفهومها العلمي والفلسفي؟
نعني بمادّة الشي‏ء: الأصل الذي يتكوّن منه الشي‏ء. فمادّة السرير هي الخشب، ومادّة الثوب هي الصوف، ومادّة الورق هي القطن، بمعنى: أنّ الخشب والصوف والقطن هي الأشياء التي يتكوّن منها السرير والثوب والورق. ونحن كثيراً ما نعيّن مادّة للشي‏ء، ثمّ نرجع إلى تلك المادّة لنحاول معرفة مادّتها، أي:
الأصل الذي تتكوّن منه، ثمّ نأخذ هذا الأصل، فنتكلّم عن مادّته وأصله أيضاً.
فالقرية إذا سُئِلنا ممّ تتكوّن؟ أجبنا بأ نّها تتكوّن من عدّة عمارات ودور.
فالعمارات والدور هي مادّة القرية، ويتكرّر السؤال عن هذه العمارات والدور، ما هي مادّتها؟ ويجاب عن السؤال بأ نّها تتركّب من الخشب والآجر والحديد.
وهكذا نضع لكلّ شي‏ء مادّة، ثمّ نضع للمادّة بدورها أصلًا تتكوّن منه، ويجب أن ننتهي في هذا التسلسل إلى مادّة أساسية، وهي المادّة التي لا يمكن أن يوضع لها مادّة بدورها.
ومن جرّاء ذلك انبثق في المجال الفلسفي والعلمي السؤال عن المادّة الأساسية والأصيلة للعالم، التي ينتهي إليها تحليل الأشياء في اصولها وموادّها.

381

فما هو السبب الذي جعل تطوّر الهيدروجين إلى هليوم مقتصراً على كمّية معيّنة، وأطلق الباقي من أسر هذا التطوّر الجبري؟!
وليس التفسير الديالكتي للمركّبات أدنى إلى التوفيق من تفسير الديالكتيك للعناصر البسيطة. فالماء إذا كان قد وجد طبقاً لقوانين الديالكتيك، فمعنى ذلك:
أنّ الهيدروجين يعتبر إثباتاً، وأنّ هذا الإثبات يثير نفي نفسه بتوليده للُاوكسجين، ثمّ يتّحد النفي والإثبات معاً في وحدة هي الماء، أو أن نعكس الاعتبار، فنفرض الاوكسجين إثباتاً، والهيدروجين نفياً، والماء هو الوحدة التي انطوت على النفي والإثبات معاً، وحصلت نتيجة تكاملية للصراع الديالكتي بينهما، فهل يمكن للديالكتيك أن يوضح لنا: أنّ هذا التكامل الديالكتيكي لو كان يتمّ بصورة ذاتية وديناميكية، فلماذا اختصّ بكمّية معيّنة من العنصرين، ولم يحصل في كلّ هيدروجين واوكسجين؟؟
ولا نريد بهذا أن نقول: إنّ اليد الغيبية هي التي تباشر كلّ عمليات الطبيعة وتنوّعاتها، وأنّ الأسباب الطبيعية لا موضع لها من الحساب، وإنّما نعتقد أنّ تلك التنوّعات والتطوّرات ناشئة من عوامل طبيعية خارج المحتوى الذاتي للمادّة، وهذه العوامل تتسلسل حتّى تصل في نهاية التحليل الفلسفي إلى مبدأ وراء الطبيعة، لا إلى المادّة ذاتها.
والنتيجة هي: أنّ وحدة المادّة الأصيلة للعالم التي برهن عليها العلم من ناحية، وتنوّعاتها واتّجاهاتها المختلفة التي دلّ العلم على أ نّها عرضية وليست ذاتية من ناحية اخرى، تكشف عن السرّ في المسألة الفلسفية، وتوضح: أنّ السبب الأعلى لكلّ هذه التنوّعات والاتّجاهات، لا يكمن في المادّة ذاتها، بل في سبب فوق حدود الطبيعة، ترجع إليه العوامل الطبيعية الخارجية التي تعمل على تنويع المادّة وتحديد اتّجاهاتها.

380

واحدة ومشتركة في الجميع، ولذا يمكن تبديلها البعض بالبعض، فكيف وجدت أنواع العناصر العديدة في تلك المادّة المشتركة؟
والجواب على اسس التغيّر الديالكتيكي يتلخّص في أنّ المادّة قد تطوّرت من مرحلة إلى مرحلة أرقى، حتّى بلغت درجة اليورانيوم. وعلى هذا الضوء يجب أن يكون عنصر الهيدروجين نقطة الابتداء في هذا التطوّر، باعتباره أخفّ العناصر البسيطة. فالهيدروجين يتطوّر ديالكتيكياً بسبب التناقض المحتوى في داخله، فيصبح بالتطوّر الديالكتيكي عنصراً أرقى، أي: عنصر الهليوم، وهذا العنصر بدوره ينطوي على نقيضه، فيشتعل الصراع من جديد بين النفي والإثبات، بين الوجه السالب والوجه الموجب، حتّى تدخل المادّة في مرحلة جديدة، ويوجد العنصر الثالث، وهكذا تتصاعد المادّة طبقاً للجدول الذرّي.
هذا هو التفسير الوحيد الذي يمكن للديالكتيك أن يقدّمه في هذا المجال، تبريراً لديناميكية المادّة. ولكن من السهل جدّاً أن نتبيّن عدم إمكان الأخذ بهذا التفسير من ناحية علمية؛ لأنّ الهيدروجين لو كان مشتملًا بصورة ذاتية على نقيضه، ومتطوّراً بسبب ذلك طبقاً لقوانين الديالكتيك المزعوم، فلماذا لم تتكامل جميع ذرّات الهيدروجين؟! وكيف اختصّ هذا التكامل الذاتي ببعض دون بعض؟! فإنّ التكامل الذاتي لا يعرف التخصيص، فلو كانت العوامل الخلّاقة للتطوّر والترقّي موجودة في صميم المادّة الأزلية، لما اختلفت آثار تلك العوامل، ولما اختصّت بمجموعة معيّنة من الهيدروجين، تحوّلها إلى هليوم وتترك الباقي.
فنواة الهيدروجين (البروتون) إذا كانت تحمل في ذاتها نفيها، وتتطوّر تبعاً لذلك حتّى تصبح بروتونين، بدلًا من بروتون واحد، لنتج عن ذلك زوال الماء عن وجه الأرض تماماً؛ لأنّ الطبيعة إذا فقدت نوى ذرّات الهيدروجين، وتحوّلت جميعاً إلى نوى ذرّات الهليوم، لم يكن من الممكن أن يوجد بعد ذلك ماء.

379

وتنوّعاتها، ليست ذاتية، وإنّما هي عرضية، كحركة السيّارات الشمسية حول المركز. فكما أنّ دورانها حوله ليس ذاتياً لها، بل هي تقتضي بطبيعتها الاتّجاه المستقيم في الحركة طبقاً لمبدأ القصور الذاتي، كذلك خصائص العناصر والمركّبات. وكما أنّ ذلك الدوران لمّا لم يكن ذاتياً أتاح لنا أن نبرهن على وجود قوّة خارجية جاذبة، كذلك هذا التنوّع والاختلاف في خصائص المادّة المشتركة يكشف- أيضاً- عن سبب وراء المادّة. ونتيجة ذلك هي: أنّ (العلّة الفاعلية) للعالم غير علّته المادّية، أي: أنّ سببه غير المادّة الخام التي تشترك فيها الأشياء جميعاً.

مع الديالكتيك:

قد مرّ بنا الحديث عن الديالكتيك في الجزء الثاني من هذه المسألة، وكشفنا عن الأخطاء الرئيسية التي ارتكز عليها، كإلغاء مبدأ عدم التناقض ونحوه. ونريد الآن أن نبرهن على عجزه من جديد عن حلّ مشكلة العالم، وتكوين فهم صحيح له، بقطع النظر عمّا في ركائزه واسسه من أخطاء وتهافت.
يزعم الديالكتيك أنّ الأشياء تنتج عن حركة في المادّة، وأنّ حركة المادّة ناشئة ذاتياً عن المادّة نفسها، باعتبار احتوائها على النقائض، وقيام الصراع الداخلي بين تلك النقائض.
فلنمتحن هذا التفسير الديالكتيكي بتطبيقه على الحقائق العلمية التي سبق أن عرفناها عن العالم؛ لنرى ماذا تكون النتيجة؟
إنّ العناصر البسيطة عدّة أنواع، ولكلّ عنصر بسيط رقم ذرّي خاصّ به، وكلّما كان العنصر أرقى كان رقمه أكثر، حتّى ينتهي التسلسل إلى اليورانيوم، أرقى العناصر وأعلاها درجة. وقد أوضح العلم- أيضاً- أنّ مادّة هذه العناصر البسيطة

378

طريق الحسّ. وما دامت المسألة الإلهية مسألة غيبية وراء حدود الحسّ والتجربة، فيجب أن نطرحها جانباً، وننصرف إلى ما يمكن الظفر به في الميدان التجريبي من حقائق ومعارف … نقف عندهم لنسألهم: ماذا تريدون بالتجربة؟
وماذا تعنون برفض كلّ عقيدة لا برهان عليها من الحسّ؟
فإن كان فحوى هذا الكلام أ نّهم لا يؤمنون بوجود شي‏ء ما لم يحسّوا بوجوده إحساساً مباشراً، ويرفضون كلّ فكرة ما لم يدركوا واقعها الموضوعي بأحد حواسّهم، فقد نسفوا بذلك الكيان العلمي كلّه، وأبطلوا جميع الحقائق الكبرى المبرهن عليها بالتجربة التي يقدّسونها؛ فإنّ إثبات حقيقة علمية بالتجربة ليس معناه الإحساس المباشر بتلك الحقيقة في الميدان التجريبي. ف (نيوتن)- مثلًا- حين وضع قانون الجاذبية العامة على ضوء التجربة، لم يكن قد أحسّ بتلك القوّة الجاذبية بشي‏ء من حواسه الخمس، وإنّما استكشفها عن طريق ظاهرة اخرى محسوسة، لم يجد لها تفسيراً إلّابافتراض وجود القوّة الجاذبة. فقد رأى أنّ السيّارات لا تسير في خطّ مستقيم، بل تدور دوراناً، وهذه الظاهرة لا يمكن أن تتمّ- في نظر نيوتن- لو لم تكن هناك قوّة جاذبة؛ لأنّ مبدأ (القصور الذاتي) يقضي بسير الجسم المتحرّك في اتّجاه مستقيم ما لم يفرض عليه اسلوب آخر من قوّة خارجية. فانتهى من ذلك إلى قانون الجاذبية الذي يقرّر أنّ السيّارات تخضع لقوّة مركزية، هي الجاذبية.
وإن كان يعني هؤلاء- الذين ينادون بالتجربة ويقدّسونها- نفس الاسلوب الذي تمّ به علمياً استكشاف قوى الكون وأسراره، وهو: درس ظاهرة محسوسة ثابتة بالتجربة، واستنتاج شي‏ء آخر منها استنتاجاً عقلياً، باعتباره التفسير الوحيد لوجودها، فهذا هو اسلوب الاستدلال على المسألة الإلهية تماماً؛ فإنّ التجارب الحسّية والعلمية قد أثبتت أنّ جميع خصائص المادّة الأصلية، وتطوّراتها

377

أساس: أنّ الحقيقة الواحدة لها ظواهر ونواميس معيّنة لا تختلف، كما درسنا ذلك بكلّ تفصيل في الجزء السابق من هذه المسألة. فقد قلنا: إنّ تجارب العالم الطبيعي لا تقع إلّاعلى موارد معيّنة، ومع ذلك فهو يشيد قانونه العلمي العامّ الذي يتناول كلّ ما تتّفق حقيقته مع موضوع تجربته. وليس ذلك إلّالأنّ الموادّ التي عمّم عليها القانون يتمثّل فيها نفس الواقع الذي درسه في تجاربه الخاصّة. ومعنى هذا:
أنّ الواقع الواحد المشترك لا يمكن أن تتناقض ظواهره، وأن تختلف آثاره، وإلّا لو أمكن شي‏ء من ذلك، لما أمكن للعالم أن يضع قانونه العامّ.
وعلى هذا الأساس نعرف أنّ الواقع المادّي المشترك للعالم الذي دلّل عليه العلم، لا يمكن أن يكون هو السبب والعلّة الفاعلية له؛ لأنّ العالم ملي‏ء بالظواهر المختلفة، والتطوّرات المتنوّعة.
هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى، قد علمنا على ضوء النتائج العلمية السابقة أنّ الخصائص والصفات التي تبدو بها المادّة في مختلف مجالات وجودها، خصائص عرضية للمادّة الأصلية، أو للواقع المادّي المشترك.
فخصائص المركّبات صفات عرضية للعناصر البسيطة، وخصائص العناصر البسيطة صفات عرضية للمادّة الذرّية. وصفة المادّية نفسها هي- أيضاً- عرضية كما سبق، بدليل إمكان سلب كلّ واحدة من هذه الصفات، وتجريد الواقع المشترك منها، فلا يمكن أن تكون المادّة ديناميكية وسبباً ذاتياً لاكتساب تلك الخصائص والصفات.

مع التجريبيين:

ولنقف قليلًا عند اولئك الذين يقدّسون التجربة والحسّ العلمي، ويعلنون بكلّ صلف أ نّنا لا نؤمن بأيّ فكرة ما لم تثبت بالتجربة، ولم يبرهن عليها عن‏