الاسس المنطقية للاستقراء
454
صياغة جديدة للمبدأ الأرسطي، ونتائجها:

ويمكننا- على هذا الأساس- أن نصوغ المبدأ الأرسطي صياغة جديدة، بعد أن ننتزع منه طابعه العقلي القبلي المزعوم، وذلك كما يلي:
أ- نعلم بوجود عددٍ كبيرٍ من التباينات بين أيّ نقطة زمنية والنقطة الزمنية التالية لها، وبين أيّ حالة طبيعية وحالة طبيعية اخرى معاصرة لها.
ب- ونعلم بوجود عددٍ ضئيل من التوافقات بين النقطتين أو الحالتين.
ج- وهذا يجعل قيمة احتمال أن يكون للتباينات تأثير فيما ينجم عن نقطة زمنية معيّنة أو حالة طبيعية معيّنة كبيرة جدّاً.
د- فإذا أدّت النقطة الزمنية الاولى، أو الحالة الطبيعية الاولى، إلى ظاهرة معيّنة ولم نعرف سببها، فسوف يكون ترقّبنا لأداء النقطة الزمنية التالية أو الحالة الطبيعية المعاصرة لنفس الظاهرة صدفةً، بدرجة أقلّ بكثير من ترقّبنا لأداء النقطة أو الحالة الاخرى إلى نتيجة مختلفة ولو كانت محدّدة. ولنطلق على المبدأ الأرسطي بعد وضعه في هذه الصياغة: «قاعدة عدم التماثل».
ويجب أن نلاحظ بهذا الصدد: أ نّا افترضنا مسبقاً: أنّ تدخّل التباينات والعناصر المتغيّرة في توليد الحادثة، يستلزم تنوّعها واختلافها من حالة إلى اخرى، ولهذا اعتبرنا قيمة احتمال تكرّر الحادثة على نهج واحد مساويةً لقيمة احتمال تدخّل الجانب الثابت- التوافقات- في إيجاد نوع الحادثة، دون الجوانب المتغيّرة.
وهذا الافتراض المسبق يمكن إثباته استقرائياً بملاحظة: أنّ التباين بين شيئين يقترن دائماً بالتباين بين النتائج. والإثبات الاستقرائي لهذا الافتراض إن افترض بدرجة اليقين فهذا يعني: أ نّا طبّقنا الشكل الأوّل لمصادرة المرحلة

453

المشترك من الظروف والملابسات ولهذا اتّحد موقف الجميع، ومن الواضح أنّ افتراض انفراد هذا القدر الضئيل المشترك بالتأثير وعدم وجود تأثير لسائر الجوانب المختلفة من حياة هؤلاء، لا يملك إلّاقيمة احتمالية ضئيلة جدّاً، وبذلك يصبح احتمال مجي‏ء الجميع بلون واحد ضعيفاً إلى أقصى حدّ.
وحقيقة الأمر- في كلا المثالين- هي أنّ هناك علماً إجمالياً بأنّ سبب ظهور وجه الكتابة- أو اختيار اللون الأصفر مثلًا- هو إمّا هذا الجزء من ملابسات تلك الرمية- وهذا الشخص-، أو الجزء الآخر، أو الجزء الثالث …، وهكذا.
وعدد أطراف هذا العلم الإجمالي الذي نعبّر عنه ب (العلم الإجمالي 2) أكبر كثيراً من عدد أطراف (العلم الإجمالي 1)؛ لأنّ (العلم الإجمالي 1) استمدّ أطرافه من الصور الممكنة لظهور وجه الكتابة إيجاباً وسلباً في المرّات العشر مثلًا، وأمّا هذا العلم فيستمدّ أطرافه من عدد الملابسات والظروف التي تكتنف الرمية الاولى، مضروباً بعدد الملابسات والظروف التي تكتنف الرمية الثانية، وهكذا إلى الرمية العاشرة.
وحيث أنّ الظروف والملابسات المتحرّكة والمتغيّرة من مرّة إلى مرّة أكثر جدّاً من الظروف والملابسات التي قد يفترض كونها ثابتة، فمن الطبيعي أن تتجمّع قيم احتمالية كثيرة جدّاً من (العلم الإجمالي 2) ضدّ احتمال أن يتكرّر نفس الوجه في جميع المرّات.
وهكذا نصل في هذا الضوء إلى حقيقة المبدأ الأرسطي القائل: «إنّ الصدفة لا تتكرّر بصورة متماثلة ومتتالية»، فليس هذا المبدأ قاعدة عقلية قبلية على مستوى القواعد المنطقية المستقلّة عن التجربة، وإنّما هو محور لتجمّع كبير من القيم الاحتمالية يجعل احتمال تكرّر الصدفة بصورة متماثلة ومتتالية أصغر من احتمال أيّ صورة اخرى من الصور الممكنة.

452

ظهور وجه الكتابة في المرّة الاولى نتيجة لأحد هذه الجوانب المتحرّكة لما تكرّر ظهوره في المرّة الثانية، فتكرّر ظهوره في جميع المرّات لا يمكن أن يفترض إلّا إذا افترضنا أنّ العامل المسبّب لظهور وجه الكتابة هو الجانب الثابت من الظروف والملابسات، إذ بحكم كونه ثابتاً يتكرّر أثره في كلّ مرّة فيظهر وجه الكتابة.
وهذا افتراضٌ لا يملك إلّاقيمة احتمالية ضئيلة جدّاً؛ لأنّ الجوانب المتحرّكة وغير الثابتة من الملابسات والظروف أكثر من ذلك الجانب الثابت بدرجة كبيرة جدّاً، وكلّ واحدٍ من هذه الجوانب المتحرّكة يحتمل أن يكون له دورٌ في تحديد الوجه الذي سيبرز. وبكلمة مختصرة: كلّما كان دور الجزء الثابت أكبر كان ترقّب تكرّر نفس الظاهرة مرّات عديدة أقوى، وكلّما كان دور الجزء المتحرّك أكبر كان ترقّب اختلاف الظاهرة أقوى. ولمّا كانت احتمالات سببية الجزء المتحرّك أكثر نتيجةً لكون عناصر الحركة في الظروف والملابسات أكثر من عناصر الثبات، فمن الطبيعي أن يكون احتمال تكرّر نفس الوجه في كلّ المرّات ضعيفاً جدّاً.
ولنأخذ مثالًا آخر: نفرض أ نّا أقمنا دعوة لخمسين شخصاً من الأصدقاء، وحاولنا مسبقاً أن نتنبّأ بلون الملابس التي سوف يرتدونها عند مجيئهم إلى الدعوة، فسوف نجد أنّ قيمة احتمال أن يجي‏ء الجميع صدفة بلون واحد ضئيلة جدّاً، فهي أصغر من قيمة أيّ احتمال آخر. والسبب في ذلك هو السبب في مثال رمي قطعة النقود، فإنّ اختيار كلّ واحد من الخمسين للون ملابسه يرتبط عادة بمجموعة من الظروف والملابسات، ونحن نعلم الاختلاف الشديد بين هؤلاء الخمسين في ظروفهم وملابساتهم، وعدم وجود اشتراك في الظروف والملابسات بينهم إلّابقدر ضئيل جدّاً، فإذا كان هؤلاء سوف يأتون جميعاً بلون واحد فهذا يعني: أنّ الذي تحكّم في موقف كلّ منهم هو ذلك القدر الضئيل‏

451

– مثلًا- أن يظهر وجه الكتابة في ألف رمية متتابعة لقطعة النقد. وهذا جعله يتصوّر: أنّ هناك مبدأً عقلياً قبلياً يحكم بأنّ تكرّر الصدفة بصورة متماثلة في عدد كبير من المرّات المتتابعة أمر مستحيل.
والمنطق الأرسطي وإن أصاب في رفضه لافتراض ظهور وجه الكتابة- مثلًا- في ألف رمية متتابعة، ولكنّه أخطأ في تفسير هذا الرفض، فإنّ استبعاد هذا الافتراض لا يقوم على أساس مبدأ عقلي قبلي، كما برهنّا عليه في القسم الأوّل من بحوث هذا الكتاب، وإنّما يقوم على أساس أنّ حالة ظهور الكتابة في كلّ المرّات- وبتعبير أعمّ: حالة تكرّر الصدفة بنحوٍ واحد- تواجه عاملًا خاصّاً يضعّف بحساب الاحتمالات قيمتها الاحتمالية إلى أبعد حدّ.
ويمكن توضيح هذا العامل بالبيان التالي:
إنّ الحالات المتتابعة التي وقعت في كلّ واحدة منها تجربة- رمية قطعة النقود مثلًا- إذا قارنّا بينها واستطعنا أن نستوعب كلّ ظروفها وملابساتها، فسوف نجد: أ نّها تختلف في عددٍ كبيرٍ من الملابسات والظروف، بينما قد لا تشترك إلّا في جزءٍ ضئيلٍ جدّاً من تلك الملابسات والظروف: فوضع الهواء ونوع تحرّكه، ووضع الكفّ التي تقذف قطعة النقد، ووضع القطعة النقديّة في الكفّ وهي تقذف، وأوضاع سائر الأشياء التي قد تتدخّل في تغيير اتجاه قطعة النقد، إنّ كلّ هذه الأوضاع تختلف من حالة إلى حالة، ولا يظلّ شي‏ء منها ثابتاً ومشتركاً بين الحالتين إلّاأحياناً وبقدرٍ يسير.
وعلى هذا الأساس نعرف أنّ افتراض تكرّر نفس الصدفة بظهور وجه الكتابة مرّاتٍ عديدة يعني: افتراض أنّ نفس ذلك الجزء الثابت من مجموع الملابسات والظروف في جميع الحالات هو السبب الذي يتحكّم في تعيين الوجه الذي سوف يبدو للعملة النقدية، دون الجوانب المتحرّكة وغير الثابتة، إذ لو كان‏

450

تلك الحوادث أو عدمها، أو وجود بعضها وعدم بعضها الآخر. وتمثّل هذه الصور الممكنة مجموعة أطراف (العلم الإجمالي 1). ولكن رغم ذلك تنفرد بعض تلك الحالات الممكنة بمواجهة عامل مضادّ ناتج عن (العلم الإجمالي 2) يجعلها أصغر قيمةً من سائر الحالات الاخرى.
ومثال ذلك ما إذا ألقيت قطعة النقد عشر مرّات، ففي كلّ مرّة من المحتمل أن يظهر وجه الكتابة، ومن المحتمل أن لا يظهر. وهذان الاحتمالان متساويان، وبضرب الاحتمالين الممكنين في كلّ رمية لقطعة النقد بالاحتمالين الممكنين في الرميات الاخرى نحصل على 1024 حالة محتملة، وهذه الحالات تشكّل مجموعة الأطراف ل (العلم الإجمالي 1).
ولو كان هذا العلم منفرداً بالتأثير لوزَّع قيمه الاحتمالية على هذه الحالات بالتساوي، فمثلًا: حالة أن يظهر وجه الكتابة في المرّة الاولى والرابعة والتاسعة والعاشرة فقط، وحالة أن يظهر وجه الكتابة في جميع المرّات، يجب أن تكونا متساويتين في قيمتهما الاحتمالية ما دمنا نتكلّم في نطاق (العلم الإجمالي 1)، ولكن رغم ذلك نعلم جميعاً بأ نّا إذا لاحظنا فعلًا وقوع الحالة الثانية من هاتين الحالتين فسوف نستغرب ذلك بدرجة كبيرة، بينما لا نجد في نفوسنا أيّ استغراب إذا لاحظنا فعلًا وقوع الحالة الاولى، وهذا معنى أنّ هناك عاملًا آخر يجعل قيمة احتمال الحالة الثانية أصغر من قيم احتمالات سائر الحالات الاخرى.
وهذا العامل هو الذي يمثّل تدخّل (العلم الإجمالي 2) في تحديد قيم (العلم الإجمالي 1)، فما هو هذا العامل؟
إنّ هذا العامل هو الذي دعا المنطق الأرسطي إلى الاعتقاد بأنّ اجتماع عدد كبير من الصدف المتماثلة مستحيل، فقد رأى المنطق الأرسطي نفسه يرفض إمكانية تكرّر الصدفة بصورة متماثلة في عدد كبير من التجارب: فلا يستسيغ‏

449

وواحدة من هذه الحالات الثمان حالة كذب الأخبار الثلاثة جميعاً. ولو بقي هذا العلم وحده لكانت القيم الاحتمالية للحالات الثمان متساوية فتكون قيمة كلّ حالة: 8/ 1، ولكن هناك (العلم الإجمالي 2) وهو العلم الذي يستوعب الحالات المحتملة لعوامل الصدق والكذب، وحيث أنّ كلّ خبر يجب أن يرتبط بأحد عوامل ثلاثة إثنان منها عاملان للصدق وواحد عامل للكذب بموجب الافتراض المتقدّم، فسوف يواجه (العلم الإجمالي 2) تسع حوادث بدلًا عن ثلاث، أو بتعبير آخر ثلاث مجموعات ثلاثية:
أ- المجموعة الثلاثية لعوامل الصدق والكذب في الخبر الأوّل.
ب- المجموعة الثلاثية لعوامل الصدق والكذب في الخبر الثاني.
ج- المجموعة الثلاثية لعوامل الصدق والكذب في الخبر الثالث.
و (العلم الإجمالي 2) يعني: العلم بوجود عامل واحد من كلّ واحدة من هذه المجموعات الثلاثية الثلاث. والحالات المحتملة لوجود عامل واحد من كلّ واحدة من هذه المجموعات هي سبع وعشرون حالة، وحالة واحدة منها- وهي أن يكون العامل المتحقّق من كلّ مجموعة هو عامل الكذب- تعتبر في صالح احتمال كذب الأخبار الثلاثة جميعاً، وسائر الصور الاخرى في صالح أن يكون واحد من تلك الأخبار الثلاثة- على الأقلّ- صادقاً.
وهكذا يتدخّل (العلم الإجمالي 2) في تغيير القيم الاحتمالية لأطراف (العلم الإجمالي 1) فيجعلها غير متساوية.

الطريقة الثانية للتدخّل لتطبيق المصادرة، ومثالها:

وقد نفترض مجموعة من الحوادث يساوي احتمال أيّ واحدة منها احتمال نفيها، وبذلك تنشأ قيم احتمالية متساوية لكلّ الصور الممكنة لافتراض وجود

448

من قيم سائر الأطراف، مع أنّ قيمة العلم تنقسم دائماً على الأعضاء الأصليّة في مجموعة أطرافه بصورة متساوية، كما عرفنا سابقاً في نظرية الاحتمال؟
وهذا يدلّ على أنّ هذا الاختلاف في القيم الاحتمالية للعلم الواحد يجب أن يفسّر على أساس تدخّل علم إجمالي آخر.
ولنعبّر عن العلم الإجمالي الذي اختلفت قيمه بسبب علم آخر ب (العلم الإجمالي 1)، وعن العلم الإجمالي الذي أدّى إلى هذا الاختلاف ب (العلم الإجمالي 2).
ويتمّ تدخّل (العلم 2) في توزيع قيم (العلم 1) توزيعاً غير متساوٍ بإحدى طريقتين، وسوف نوضح في ما يلي فكرة هذا التدخّل في مثالين يعبّر كلّ منهما عن طريقة للتدخّل تختلف عن طريقة التدخّل التي يعبّر عنها المثال الآخر.

الطريقة الاولى للتدخّل لتطبيق المصادرة، ومثالها:

تفترض الطريقة الاولى للتدخّل مجموعة من الحوادث المحتملة، ولنفرضها ثلاث حوادث، وكلّ حادثة من هذه الحوادث الثلاث نلاحظ بالاستقراء أنّ حالات وجودها أكثر من حالات عدمها، أي أنّ عوامل الوجود بالنسبة إليها أكثر من عوامل العدم. ففي ظلّ هذا الافتراض سوف يصبح احتمال أن تكون الحوادث الثلاث كلّها غير موجودة أصغر من قيمة سائر الاحتمالات الاخرى.
مثلًا: إذا افترضنا أنّ عوامل الصدق فى الأخبار ضعف عوامل الكذب، بأن كان هناك عاملان للصدق في مقابل عامل واحد للكذب، وواجهنا ثلاثة أخبار، فسوف نحصل على علمين: ف (العلم الإجمالي 1) يضمّ ثمانية أعضاء في مجموعة أطرافه وهي الحالات الممكنة للكذب والصدق في هذه الأخبار الثلاثة،

447

يفني القيمة الاحتمالية لأحد أطرافه، وهذا هو (العلم الإجمالي 1)، والآخر هو الذي يسبّب هذا الفناء عن طريق تجمّع عدد كبير من قيمه الاحتمالية في محور واحد، وبذلك تفادينا فرضيّة إفناء العلم لإحدى قيمه الاحتمالية المتساوية.
وفي هذا الشكل الجديد لتطبيق المصادرة نفترض: أنّ العلم الذي يمارس إفناء القيمة الاحتمالية الصغيرة عن طريق تجمّع عدد كبير من قيمه الاحتمالية في محور واحد هو نفس العلم الذي تفنى القيمة الاحتمالية لأحد أطرافه، وهذا يعني:
أنّ العلم يفني القيمة الاحتمالية لأحد أطرافه، ولكن رغم ذك لا يؤدّي بنا هذا إلى افتراض أنّ العلم يفني نفسه، أو يفني بعض قيمه الاحتمالية المتساوية دون بعض بدون مرجّح، وذلك لأنّنا نفترض- في هذا الشكل لتطبيق المصادرة- أنّ الطرف الذي أفنى العلم قيمته الاحتمالية من بين أطرافه لم تكن قيمته الاحتمالية مساوية للقيمة الاحتمالية لسائر أطراف هذا العلم، بل أصغر من سائر القيم الاخرى. وفي هذه الحالة لا يواجه تطبيق المصادرة أيّ استحالة من نوع الترجيح بلا مرجّح، أو إفناء العلم لنفسه؛ لأنّ بالإمكان افتراض أنّ المصادرة تؤدّي إلى إفناء العلم لتلك القيمة التي هي أصغر قيمه الاحتمالية دون غيرها من القيم، فلا يترتّب على ذلك الترجيح بلا مرجّح؛ لأنّ المرجّح الذي خصّ الفناء بتلك القيمة دون غيرها من القيم هو كونها أصغر من القيم الاخرى، وهذا يعني: أنّ تجمّع القيم الاحتمالية المضادّ لها من قيم العلم أكبر من التجمّع المضادّ من قيم ذلك العلم الذي يواجهه أيّ طرف آخر من أطرافه. ولا يترتّب أيضاً أنّ العلم يفني نفسه؛ لأنّنا افترضنا أنّ العلم لا يفني إلّاقيمة واحدة من قيمه، وهي القيمة التي تمثّل أصغر كمية في تلك القيم.
وتظلّ نقطة واحدة جوهرية بحاجة إلى تفسير، وهي: كيف اختلفت القيم الاحتمالية لذلك العلم، وأصبح طرف معيّن من أطرافه يملك قيمة احتمالية أصغر

446

وهكذا نجد في النهاية: أنّ التقابل بين احتمال الجامع من ناحية واحتمال المجموع من ناحية اخرى، أي بين احتمال أنّ واحدة على الأقلّ من علاقات السببيّة غير ثابتة، واحتمال أنّ فرضية وجود التاء في جميع الصور لم توجد في أيّ حالة من حالات الاستقراء، ولا مبرّر على هذا الضوء لفناء احتمال الجامع كما كنّا نفترض فناء احتمال عدم سببيّة (أ) ل (ب) خاصّة؛ لأنّه لا يواجه تجمّعاً مضادّاً بالدرجة التي يواجهها احتمال عدم سببيّة (أ) ل (ب). وإذا كان احتمال الجامع ثابتاً، أي احتمال أنّ واحدة على الأقلّ من علاقات السببيّة غير ثابتة، فإنّ هذا الاحتمال يعتبر احتمالًا كالعلم الإجمالي، فكما أنّ العلم الإجمالي له أطراف كذلك هذا الاحتمال، إذ تعتبر كلّ علاقة من علاقات السببيّة الاستقرائية طرفاً له.
وعلى هذا الأساس يصبح تطبيق المصادرة المفترضة في مجال كلّ استقراء مستحيلًا؛ لأنّها إذا طبّقت على كلّ علاقات السببيّة بوصفها محاور لتجمّع القيم الاحتمالية فيها أدّى ذلك إلى نفي احتمال الجامع، مع أ نّا قد افترضنا أنّ قيمة احتمال الجامع لا يمكن أن تفنى على أساس المصادرة الاستقرائية، وإذا طبّقت المصادرة على بعض علاقات السببيّة دون بعض كان ترجيحاً بلا مرجّح.
والجواب على هذا الاعتراض: أنّ قيمة احتمال الجامع هنا نتيجة جمع قيم احتمالات عدم السببيّة وفقاً للقاعدة المقرّرة لجمع الاحتمالات، والمصادرة الاستقرائية كفيلة بإفناء تلك القيم، والقضاء على كلّ احتمال من احتمالات عدم السببيّة، وهذا يؤدّي إلى عدم تكوّن قيمة احتمالية للجامع رأساً.

الشكل الثاني لتطبيق المصادرة

كنّا في الشكل الأوّل لتطبيق المصادرة نواجه علمين: أحدهما هو الذي‏